هود عليه السلام
لم يتوقف هود عند هذيانهم،
ولم يغضبه أن يظنوا به الجنون والهذيان، ولكنه توقف عند قولهم:
وَمَا نَحْنُ
بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
بعد هذا التحدي لم يبق لهود
إلا التحدي.
لم يبق له إلا التوجه إلى الله وحده.
لم يبق أمامه إلا إنذار أخير
ينطوي على وعيد للمكذبين وتهديدا لهم.. وتحدث هود:
قَالَ إِنِّي
أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
(54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ
(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي
وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ
أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا
غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ
إن الإنسان ليشعر بالدهشة
لهذه الجرأة في الحق.
رجل واحد يواجه قوما غلاظا شدادا وحمقى.
يتصورون أن أصنام
الحجارة تستطيع الإيذاء.
إنسان بمفرده يقف ضد جبارين فيسفه عقيدتهم، ويتبرأ منهم
ومن آلهتهم، ويتحداهم أن يكيدوا له بغير إبطاء أو إهمال، فهو على استعداد لتلقي
كيدهم، وهو على استعداد لحربهم فقد توكل على الله.
والله هو القوي بحق، وهو الآخذ
بناصية كل دابة في الأرض.
سواء الدواب من الناس أو دواب الوحوش أو الحيوان.
لا شيء
يعجز الله.
بهذا الإيمان بالله، والثقة
بوعده، والاطمئنان إلى نصره.. يخاطب هود الذين كفروا من قومه.
وهو يفعل ذلك رغم
وحدته وضعفه، لأنه يقف مع الأمن الحقيقي ويبلغ عن الله.
وهو في حديثه يفهم قومه أنه
أدى الأمانة، وبلغ الرسالة.
فإن كفروا فسوف يستخلف الله قوما غيرهم، سوف يستبدل بهم
قوما آخرين.
وهذا معناه أن عليهم أن ينتظروا العذاب.
وهكذا أعلن هود لهم براءته
منهم ومن آلهتهم.
وتوكل على الله الذي خلقه، وأدرك أن العذاب واقع بمن كفر من قومه.
هذا قانون من قوانين الحياة.
يعذب الله الذين كفروا، مهما كانوا أقوياء أو أغنياء
أو جبابرة أو عمالقة.
انتظر هود وانتظر قومه وعد
الله.
وبدأ الجفاف في الأرض.
لم تعد السماء تمطر.
وهرع قوم هود إليه.
ما هذا الجفاف
يا هود؟
قال هود: إن الله غاضب عليكم، ولو آمنتم فسوف يرضى الله عنكم ويرسل المطر
فيزيدكم قوة إلى قوتكم. وسخر قوم هود منه وزادوا في العناد والسخرية والكفر.
وزاد
الجفاف، واصفرت الأشجار الخضراء ومات الزرع.
وجاء يوم فإذا سحاب عظيم يملأ السماء.
وفرح قوم هود وخرجوا من بيوتهم يقولون: هَذَا عَارِضٌ
مُّمْطِرُنَا
تغير الجو فجأة.
من الجفاف
الشديد والحر إلى البرد الشديد القارس. بدأت الرياح تهب.
ارتعش كل شيء، ارتعشت
الأشجار والنباتات والرجال والنساء والخيام.
واستمرت الريح.
ليلة بعد ليلة،
ويوما بعد يوم.
كل ساعة كانت برودتها تزداد.
وبدأ قوم هود يفرون، أسرعوا إلى الخيام
واختبئوا داخلها، اشتد هبوب الرياح واقتلعت الخيام، واختبئوا تحت الأغطية، فاشتد
هبوب الرياح وتطايرت الأغطية.
كانت الرياح تمزق الملابس وتمزق الجلد وتنفذ من فتحات
الجسم وتدمره.
لا تكاد الريح تمس شيئا إلا قتلته ودمرته، وجعلته
كالرميم.
استمرت الرياح مسلطة عليهم
سبع ليال وثمانية أيام لم تر الدنيا مثلها قط.
ثم توقفت الريح بإذن ربها.
قال تعالى
في سورة (الأحقاف):
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا
عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ
أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى
إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ
وقال تعالى في سورة
(الحاقة):
سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ
فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ
لم يعد باقيا من قوم هود إلا
ما يبقى من النخل الميت.
مجرد غلاف خارجي لا تكاد تضع يدك عليه حتى يتطاير ذرات في
الهواء.
نجا هود ومن آمن معه.. وهلك
الجبابرة.. وهذه نهاية عادلة لمن يتحدى الله ويستكبر عن عبادته.
|