التـقـــديـــم الحمد لله رب العالمين وأفضل
الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه
إلى يوم الدين.
وبعد ، فقد يسّر الله جمع
مائة حديث في أبواب الإستقامة... ولكن لماذا الإستقامة؟ قال الله تعالى: “ إنّ
الّذين قالوا رَبُّنا اللّهُ ثُمّ استقاموا تَتَنَزّلُ عَليهمُ المَلائِكَةُ أن لا
تَخافوا ولا تَحزَنوا وأبشِروا بالجَنَّةِ الّتي كُنتُم توعَدون “ .. فالمسلمون
قد مضوا بشطر هذه الآية حيث قالوا ربنا الله فأقروا بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأن
محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله.. أما الشطر الثاني فمعظمهم بعيد عنه...
لقد وعدهم الله ، ووعد الله حق.. إذا ما استقاموا أن تتنزل عليهم الملائكة وهي
تنادي أن لا تخافوا.. ولاتحزنوا.. وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.. فالحزن بعيد
عمن إستقام.. والخوف بعيد عنه.. وله البشرى.. وله الرزق الحسن.. وأ لَّو
استَقامُوا عَلى الطَريقَة لأسقيناهُم ماء غَدَقا لِنَفتِنَهُم فيهِ ومَن يُعرِض
عَن ذِكرِ رَبِّهِ يَسلُكهُ عَذابا صَعَدا ” .. وما الطريقة التي تريد الآية
الإستقامة عليها سوى الطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،
فهو أول من سلك طريقة الإستقامة قدوة لهذه الأمة مستجيبا لأمر الله تعالى: ”
فاستَقِم كَما أُمِرتَ ” وليس ذلك وحده.. بل: ” ومَن تابَ مَعَكَ ” ..
وطريق الإستقامة هذه تسير بعكس طريق الطغيان.. ” ولا تَطغوا ، إنَّهُ بِما
تَعمَلونَ بَصير ” . ويؤكد الله ذلك مرة أخرى على رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم بقوله: ” لِذلك فادعُ واستَقِم كَما أُمِرتَ ولا تَتَّبِع أهواءَهُم
واحذَرهُم أن يَفتِنوكَ عَن بَعضِ ما أُنزِلَ إليكَ... ” كما أمره أن يخاطب
الناس يدعوهم للإستقامة: ” قُل إنَّما أنا بَشر مِثلُكُم يوحى إليّ أنَّما
إلَهُكُم إله واحِد فاستقيموا إليهِ واستَغفِروهُ وويل للمُشرِكينَ ” .
وهكذا يتضح الطريق أمام
المؤمن.. فليس له أن يسلك طريقا سواه.. أدع.. إستقم كما أُمرت.. ولا تَتبع أهواء
الكافرين والفاسقين والمنافقين.. ثم الحذر أن تزل القدم بالفتنة فيزيغ المرء عن
الصراط المستقيم.. ففيما أنزل الله على رسوله الحق.. كل الحق.. وليس غير الحق. ومن
ثم تكون الإستقامة خير من ألف كرامة.
قال أبو بكر الصديق رضي الله
عنه مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شِبتَ يا رسول الله! فقال: ”
شيَّبَتني هود وأخواتُها ” .. وماذا في هود مما يشيب الرسل أثقل من قوله تعالى:
فاستقم كما أمرت.. فما هو طريق الإستقامة هذا؟ وما عسى المؤمن أن يفعل لكي يسير على
هذا الطريق؟ وما الإستقامة التي يريدها الله تعالى لرسوله.. ولمن تاب معه..؟ ندعو
الله أن يكون في هذا الكتاب الإجابة على ذلك.. فهذا كتاب لمن قال (ربنا الله)..
موقنا بها بصدق... ثم بعد ذلك تكون هذه الأحاديث مرشدة له على طريق الإستقامة إن
شاء الله. ورغم أن بين دفتي الكتاب أكثر من سبعين حديثا آخر ضمن الشرح أو الهوامش ،
لكنه لا يكاد يستوعب جميع مضامين الإستقامة ، فكل موضوع من مواضيع الأحاديث المائة
فيه عشرات من الأحاديث ويستحق كتابا خاصا ربما في مائة حديث.. ولكن ندعو الله أن
تكون هذه الأحاديث مصابيح لسالكي طريق الإستقامة ، كي يتعلموها ويتمعنوا فيها
ويعملوا بها ويدعوا إلى ما فيها.
هذا الكتاب لا يكاد يتجاوز
إعطاء إشارات عما ورد فيه من أحاديث صحيحة.. فما هو إلاّ تأملات في ظلال هذه
الأحاديث.. وهل يمكن أن يحوي كتيبا صغيرا كهذا شرحا للأستقامة التي مجالها العملي
هو الدين كله ، بعد مجال الجزء النظري من الدين أي العقيدة؟ لقد تم توزيع أحاديث
الكتاب على سبعة أبواب . الباب الأول يتعلق بإستقامة الأعمال الباطنة كالنية
والإخلاص والتزام التقوى ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والتوبة إلى
الله عزوجل واليقين به والرضا بما قدر والصبر على البلاء والتوكل على الله والقناعة
والزهد والخوف والرجاء.
أما الباب الثاني فيضم
الإستقامة فيما يتخذ المؤمن من منهاج ودليل عمل يستند إلى المعرفة بالله تعالى .
فعلى المؤمن أن يعتبر القرآن مصدره الأول ثم سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ،
ثم بعد ذلك يأتي الإجتهاد ولزوم الجماعة وعدم إطاعة مخلوق في معصية الله تعالى وأن
لا يكون إمعة ويجتنب البدع وسبل المشركين والمنافقين . وعلى المؤمن أن ييسر ولا
يعسر وأن يتقن عمله ويستغل أوقاته ويتسامح مع من خالفه فيما إختلف فيه الفقهاء وأهل
العلم ويستخير ربه في أمور دنياه وآخرته.
والباب الثالث هو باب
العبادات والتي تأتي في مقدمتها الصلاة والصيام والزكاة والحج لمن استطاع إليه
سبيلا ، وليست العبادات تلك فحسب ، فالطهارة عبادة وتلاوة القرآن عبادة وطلب العلم
عبادة ، وكذلك الذكر والدعاء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والتفكر في خلق الله والشكر على
نعمائه.. كل هذه من العبادات.
ويتضمن الباب الرابع أحاديث
إجتناب المعاصي التي نهى عنها الله ورسوله وأسس تحديد الإثم . فالكبائر التي حرم
الله تعالى كعقوق الوالدين وقطع الأرحام وأكل مال اليتيم وقتل النفس التي حرم الله
والخمر والميسر والزنا وقول الزور والسحر وقذف المحصنات والتخنث ولبس الذهب والحرير
للرجال وتشبه النساء بالرجال وتركهن الحجاب والخيانة والكذب والظلم والغش واللعن
والإحتكار. أما الباب الخامس فتتعلق أحاديثه بالأخلاق ، وإنما بعث رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ليتمم مكارم الأخلاق من صدق وحسن خلق وحياء وحفظ اللسان وتواضع
وغض للبصر وسخاء ورحمة لعباد الله وترك الجدال وما لا يعني.
أما الإستقامة في المعاملة
فهي موضوع أحاديث الباب السادس وأساسه أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ، وحب
الصالحين وبذل النصح والعدل بالحكم والإحسان إلى الجار وذوي الأرحام والرفق في كل
شيء وخاصة للمرء مع أهل بيته وطاعة المرأة لزوجها ورعايتها لولدها وأداء الأمانات
والإيفاء بالوعود. وفي آخر باب من الكتاب وضعت أحاديث في تزكية النفوس ، فقد أفلح
من زكاها وقد خاب من دساها . فإجتناب التكبر والرياء ومحاسبة النفس وترك الحسد وسوء
الظن وذكر الموت ، كل تلك من جوانب الإستقامة.
إن الإستقامة التي كانت حملا
ثقيلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أثقل من أن تجمع في صفحات كتيب كهذا
، وما أهمله الكتاب أكثر مما ذكر فيه وحسب الكتاب أن جمع بعض جوانبها ، وهو لا يخلو
من هفوات ونقائص شأنه شأن كل كتاب غير كتاب الله تعالى فمن وجد فيه خيرا فليحمد
الله فمنه الفضل وحده ومن وجد فيه غير ذلك فليدعو الله أن يغفر الزلات ، ولا يظنن
ظان تزكية عمل كهذا:
أمرتك الخير لكن ما إتمرت به
وما استقمت فما قولي لك استقم
وحسبنا أن نحب الإستقامة
وأهلها وندعو الله أن يهدينا إلى طريقها ويحشرنا تحت لواء رسول الإستقامة صلى الله
عليه وآله وسلم.. وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.
المؤلف
الموصل في 12ربيع الأول
1408هـ
الموافق 4 تشرين الثاني
1987م
|