صَلَاةُ المُقَرَّبِين
إبراهيم الدميجي
بسمِ
اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
أحمدُ الله الذي لا إله
إلا هو, وأشكرُه, وأثني عليه, وأستغفره,
اللهم لا أحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت
على نفسك.
إليك! وإلّا
لا تُشـدُّ الركائبُ ** ومنك! وإلّا
فالمؤمِّلُ خائبٌ
وفيك! وإلّا
فالزَّمانُ مُضيَّعٌ ** وعنك! وإلّا
فالمُحَدِّثُ كاذبٌ
لديك! وإلّا
لا قرارَ يطيبُ لي ** إليك! وإلّا
لا تسيلُ السواكبُ
وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك
له, له الملك, وله الحمد, وهو على كلّ شيء
قدير, جَعَلَ الصلاة حبلاً واصلاً لمن
وفّقهم بلُطف التّقدير. وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله, الشّاهدُ المُبَشِّرُ
النَّذيرُ, والداعي إلى الله بإذنه,
والسراجُ المنيرُ, صلوات ربّي وسلامه عليه
عدد مخلوقات العليّ القدير, وعلى آله
وأصحابه ومن تبعهم بحسن تدبير. أما بعد:
تَبرّأتُ من حولي وطَوْلِي
وقوّتي ** وإني إلى مولاي في غاية الفقرِ
له الفضلُ كلُّ الفضلِ أسلمت مُهجتي **
إليه فما لي حين أنساه من عذرِ
قال شيخ الإسلام رحمه
الله: "ما
يجتمع للعبد في الصلاة, لا يجتمع في غيرها
من العبادات, كما عرفه أهل القلوب الحيّة,
والهمم العالية" (الفتاوى: 16/512)
وحيث أن الصلاة من الإسلام بالمحلّ
الأرفع, والمقام الأجمع؛ فقد أحببتُ أن
أُقرَّب لإخواني في الله وأبسط لهم رسالة
شريفة سنيّة, خطّها يراعُ بحرٍ علّامة,
وحبرٍ فهاّمة, إنه الحافظ شمس الدين محمد
بن قيّمِ الجوزيّة, مَنْ سارت بركةُ علمه
في الأمّةِ مسير الشمس, صبّ الله شآبيب
الرحمات على ذيّاك الرّمس. قد لخّصتُها من
أحد ذخائره, وهو كتاب: (الصلاة وحكم
تاركها: 146_159) ولا أطيل في التقديم,
فالموضوع من العَظَمَةِ غايةٌ, والكاتب من
العلماء آيةٌ. قال رحمه الله تعالى:
"قال تعالى: "وأقيموا الصلاة" (البقرة:
43) فأمرنا بإقامتها, وهو الإتيان بها
قائمة, تامّة القيام والركوع والسجود
والأذكار. وقد علّق الله سبحانه الفلاح
بخشوع المصلي في صلاته, فمن فاته خشوع
الصلاة لم يكن من أهل الفلاح,
ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر
قطعاً, بل لا يحصل الخشوع قط إلا
مع الطمأنينة, وكلما زاد طمأنينة ازداد
خشوعاً, وكلما قل خشوعه اشتدت عجلته, حتى
تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا
يصحبه خشوع, ولا إقبال على العبودية, ولا
معرفة حقيقة العبودية, والله سبحانه قد
قال: "وأقيموا
الصلاة" (البقرة: 43) وقال: "الذين
يقيمون الصلاة" (المائدة: 55) وقال: "وأقم
الصلاة" (سورة هود: 114) وقال: "فإذا
اطمأننتم فأقيموا الصلاة" (النساء: 103)
وقال: "والمقيمين الصلاة" (النساء: 162)
وقال إبراهيم عليه السلام: "رب اجعلني
مقيم الصلاة" (إبراهيم: 40) وقال سبحانه
لموسى عليه السلام: "فاعبدني وأقم الصلاة
لذكري" (طه: 14)
فلن تكاد تجد ذكر الصلاة في موضع من
التنزيل؛ إلا مقروناً بإقامتها, فالمصلون
في الناس قليل, ومقيم الصلاة منهم أقلّ
القليل, كما قال عمر رضي الله عنه:
الحاج قليل والركب كثير.
فالعاملون يعملون الأعمال المأمور بها على
الترويج تحلّة القسم,
ولو علموا أن الملائكة تصعد بصلاتهم,
فتعرضها على الله جلّ جلاله, بمنزلة
الهدايا التي يَتقربُ بها الناس إلى
ملوكهم وكبرائهم, فليس من عَمِدَ
إلى أفضل ما يقدر عليه, فيزيّنُهُ ويحسّنه
ما استطاع, ثمّ يتقرب به إلى من يرجوه
ويخافه, كمن يعمد إلى اسقط ما عنده,
وأهونه عليه؛ فيستريح منه, ويبعثه إلى من
لا يقع عنده بموقع!
وليس من كانت الصلاة ربيعاً لقلبه, وحياة
له, وراحة لروحه, وقرّة لعينه, وجلاء
لحزنه, وذهاباً لهمّه وغمّه, ومفزعاً له
إليه في نوائبه ونوازله, كمن هي سحت
لقلبه, وقيد لجوارحه, وتكليف له, وثقل
عليه! فهي كبيرة على هذا, وقرّة عينٍ
وراحة لذاك.
وقال تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين . الذين
يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه
راجعون" (البقرة: 45 _ 46) فإنما كبرت على
غير هؤلاء؛ لخلوّ قلوبهم من محبة الله
تعالى, وتكبيره, وتعظيمه, والخشوع له,
وقلّةِ رغبتهم فيه, فإن حضور العبد في
الصلاة, وخشوعه فيها, وتكميله لها,
واستفراغه وسعه في إقامتها وإتمامها؛ على
قدر رغبته في الله. قال الإمام أحمد رحمه
الله: "إنما
حظّهم من الإسلام على قدر حظّهم من
الصلاة, ورغبتهم في الإسلام على قدر
رغبتهم في الصلاة, فاعرف نفسك يا عبد
الله, واحذر أن تلقى الله عزّ وجل ولا قدر
للإسلام عندك, فإن قدر الإسلام في قلبك؛
كقدر الصلاة في قلبك". (طبقات
الحنابلة: 1/ 354).
وليس حظّ القلب العامر بمحبة الله,
وخشيته, والرغبة فيه, وإجلاله, وتعظيمه من
الصلاة, كحظّ القلب الخالي الخراب من ذلك,
فإذا وقف الاثنان بين يدي الله في الصلاة؛
وقف هذا بقلبٍ مخبت, خاشع له, قريب منه,
سليم من معارضات السوء, قد امتلأت أرجاؤه
بالهيبة, وسطع فيه نور الإيمان, وكشف عنه
حجاب النفس ودخان الشهوات, فيرتع في رياض
معاني القرآن, وخالط قلبه بشاشة الإيمان
بحقائق الأسماء والصفات, وعلوّها,
وجمالها, وكمالها الأعظم, وتَفَرُّدِ الرب
سبحانه بنعوت جلاله, وصفات كماله, فاجتمع
همّهُ على الله, وقرّت عينه به,وأحسّ
بقربه من الله قرباً لا نظير له,
ففرّغ قلبه له, وأقبل عليه بكليّته. وهذا
الإقبال منه بين إقبالين من ربه, فإنه
سبحانه أقبل عليه أولاً؛ فانجذب قلبه إليه
بإقباله, فلما أقبل على ربّه؛ حظي منه
بإقبال آخر أتمّ من الأول.
وها هنا عجيبة من عجائب
الأسماء والصفات, تحصل لمن تفقّه قلبُهُ
في معاني القرآن,
وخالطت بشاشة الإيمان بها قلبه, بحيث يرى
لكل اسم وصفة موضعاً من صلاته, ومحلّاً
منها:
فإنه إذا انتصب قائماً بين يدي الربّ
تبارك وتعالى؛ شاهد بقلبه قيوميّته. وإذا
قال: "الله
أكبر" شاهد كبرياءه. وإذا قال: "سبحانك
اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك وتعالى جدّك,
ولا إله غيرك"(الترمذي:1/77 بسند
صحيح) شاهد بقلبه ربّاً منزّهاً عن كل
عيب, سالماً من كل نقص, محموداً بكلّ حمد,
فَحَمْدُهُ يتضمّنُ وصفه بكل كمال, وذلك
يستلزم براءته من كلّ نقص, تبارك اسمه,
فلا يُذكر على قليل إلا كثّره, وعلى خير
إلا أنماه وبارك فيه, ولا على آفةٍ إلا
أذهبها, ولا على شيطان إلا ردّه خاسئاً
مدحوراً. وكمالُ الاسم من كمال مسمّاه,
فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضرّ معه شيء
في الأرض ولا في السماء؛ فشأن المُسمّى
أعلى وأجلّ. "وتعالى
جدّك" أي: ارتفعت عَظَمَة ربنا
سبحانه, وجلّت فوق كل عَظَمَة, وعلا شأنه
على كل شأن, وقهر سلطانه كلّ سلطان.
فتعالى جَدُّهُ أن يكون معه شريك في ملكه
وربوبيته, أو في إلهيته أو في أفعاله أو
في صفاته, كما قال مؤمن الجن: "وأنه تعالى
جدّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً" (سورة
الجن: 3) فكم في هذه الكلمات من تجلٍّ
لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف
بها, غير المعطّل لحقائقها!
وإذا قال: "أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم" فقد آوى
إلى ركنه الشديد, واعتصم بحوله وقوته من
عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربّه, ويبعده
عن قربه, ليكون أسوأ حالاً. فإذا قال: "الحمد
لله رب العالمين" (الفاتحة: 2) وقف
هُنَيْهَةً يسيرةً ينتظر جواب ربّه له
بقوله: "حمدني
عبدي" فإذا قال: "الرحمن
الرحيم" انتظر الجواب بقوله: "أثنى
عليّ عبدي" فإذا قال: "مالك
يوم الدين" انتظر جوابه: "مجدّني
عبدي" (مسلم:1/38) فيا
لذّة قلبه, وقرّة عينه, وسرور نفسه, بقول
ربه: "عبدي" ثلاث مرّات! فو الله لولا ما
على القلوب من دخان الشهوات, وغيم النفوس؛
لاستطيرت فرحاً وسروراً بقول ربّها
وفاطرها ومعبودها: "حمدني عبدني" و"أثنى
عليّ عبدي" و"مجدّني عبدي".
ثمّ يكون لقلبه
مجالٌ من شهود هذه الأسماء الثلاثة التي هي
أصول الأسماء الحسنى, وهي: الله,
والرّب, والرحمن. فشاهدَ قلبُه من
ذكر اسم الله تبارك وتعالى؛ إلهاً معبوداً
موجوداً مَخُوفَاً, لا يستحق العبادةَ
غيره, ولا تنبغي إلا له, قد عنت له
الوجوه, وخضعت له الموجودات, وخشعت له
الأصوات "تسبح له السموات السبع والأرض
ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده" (
الإسراء: 44) "وله من في السموات والأرض
كلّ له قانتون" ( الروم: 26).
وشاهد من ذكر اسمه "رب
العالمين" قيّوماً قام بنفسه, وقام
به كل شيء, فهو قائمٌ على كلّ نفس بخيرها
وشرها, قد استوى على عرشه, وتفرّد بتدبير
ملكه, فالتدبير كله بيديه, ومصير الأمور
كلها إليه, فمراسيم التدبيرات نازلة من
عنده على أيدي ملائكته؛ بالعطاء والمنع,
والخفض والرفع, والإحياء والإماتة, والقبض
والبسط, وكشف الكروب, وإغاثة الملهوفين,
وإجابة المضطرين "يسأله من في السموات
والأرض كلّ يوم هو في شأن" (الرحمن: 29)
لا مانع لما أعطى, ولا معطي لما منع, ولا
معقّب لحكمه, ولا رادّ لأمره, ولا مبدّل
لكلماته, تعرج الملائكة والروح إليه,
وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه؛
فيقدّر المقادير, ويوقّت المواقيت, ثم
يسوق المقادير إلى مواقيتها, قائماً
بتدبير ذلك كله, وحفظه ومصالحه.
ثمّ يشهد عند ذكر اسم "الرحمن"
جلّ جلاله؛ ربّاً محسناً إلى خلقه بأنواع
الإحسان, متحبّباً إليهم بصنوف النعم, وسع
كل شيء رحمة وعلماً, وأوسع كل مخلوق نعمة
وفضلاً, فوسعت رحمته كل شيء, ووسعت نعمته
كل حي, فبلغت رحمته حيث بلغ علمه, فاستوى
على عرشه برحمته, وخلق خلقه برحمته, وأنزل
كتبه برحمته, وأرسل رسله برحمته, وشرع
شرائعه برحمته, وخلق الجنة برحمته, والنار
أيضاً برحمته؛ فإنها سوطه الذي يسوق به
عباده المؤمنين إلى جنته, ويُطَهّرُ بها
أدران الموحدين من أهل معصيته,
وسجنه الذي يسجن فيه أعداءه من خليقته.
فتأمّل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعظه
من الرحمة البالغة, والنعمة السابغة, وما
في حشوها من الرحمة والنعمة, فالرحمة هي
السبب المتصل منه بعبادة, كما أن العبودية
هي السبب المتصل منهم به, فمنهم إليه
العبودية, ومنه إليهم الرحمة,
ومن أخصّ مشاهد هذا الاسم؛ شهود المصلّي
نصيبه من الرحمة الذي أقامه بها بين يدي
ربه, وأهّله لعبوديته ومناجاته, وأعطاه
ومنع غيره, وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره,
وذلك من رحمته به.
فإذا قال: "مالك
يوم الدين" فهنا شهد المجد الذي لا
يليق بسوى الملك الحق المبين, فيشهد ملكاً
قاهراً, قد دانت له الخليقة, وعَنَتَ له
الوجوه, وذلّت لعظمته الجبابرة, وخضع
لعزته كل عزيز. فيشهد بقلبه ملكاً على عرش
السماء مهيمناً, لعزّته تعنو الوجوه
وتسجدُ, يرسل إلى أقاصي مملكته بأوامره؛
فيرضى على من يستحق الرّضا, ويثيبه ويكرمه
ويدنيه, ويغضب على من يستحق الغضب,
ويعاقبه ويهينه ويقصيه, فيعذب من يشاء,
ويرحم من يشاء, ويعطى من يشاء, ويقرّب من
يشاء, ويقصى من يشاء. له دار عذاب وهي
النار, وله دار سعادة عظيمة وهي الجنة.
فإذا قال: "إياك
نعبد وإياك نستعين" ففيها سرّ
الخلق والأمر, والدنيا والآخرة. وهي
متضمنة لأجلّ الغايات, وأفضل الوسائل,
فأجلّ الغايات؛ عبوديته, وأفضل الوسائل؛
إعانته, فلا معبود يستحق العبادة إلا هو,
ولا معين على عبادته غيره, فعبادته أعلى
الغايات, وإعانته أجلّ الوسائل. وقد انزل
الله سبحانه وتعالى مئة كتاب وأربعة كتب,
جمع معانيها في أربعة؛ وهي التوراة
والإنجيل والقرآن والزبور, وجمع معانيها
في القرآن, وجمع معانيه في المفصّل, وجمع
معانيه في الفاتحة, وجمع معانيها في "إياك
نعبد وإياك نستعين" وقد اشتملت هذه
الكلمة على نوعي التوحيد وهما: توحيد
الربوبية, وتوحيد الإلهية. وتضمّنت التعبد
باسم الرب واسم الله, فهو
يُعْبَدُ بألوهيته, ويُستعانُ بربوبيته,
ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته.
فكان أول السورة ذكر اسمه الله والرب
والرحمن تطابقاً لأجَلِّ المطالب من
عبادته وإعانته وهدايته, وهو المنفرد
بإعطاء ذلك كله, لا يعين على عبادته سواه,
ولا يهدي سواه.
ثم يشهد الداعي بقوله: "اهدنا
الصراط المستقيم" شدّة فاقته
وضرورته إلى هذه المسألة, التي ليس هو
إلى شيء أشدّ فاقةً وحاجة منه إليها
البتة, فإنه محتاج إليها في كل نَفَسٍ
وطرفة عين, وهذا المطلوب من هذا
الدعاء لا يتم إلا بالهدية إلى الطريق
الموصل إليه سبحانه, والهداية فيه, وهي
هداية التفصيل, وخلق القدرة على الفعل,
وإرادته, وتكوينه, وتوفيقه لإيقاعه له على
الوجه المرضي المحبوب للرب سبحانه وتعالى,
وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد
فعله.
ولمّا كان العبد مفتقراً في كل حال إلى
هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من
أمور قد أتاها على غير الهداية, فهو يحتاج
إلى التوبة منها, وأمور هُدي إلى أصلها
دون تفصيلها, أوهُدي إليها من وجه دون
وجه, فهو يحتاج إلى إتمام الهداية فيها
ليزداد هدى, وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل
له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل
له في الماضي, وأمور هو خال عن اعتقاد
فيها, فهو يحتاج إلى الهداية فيها, وأمور
لم يفعلها فهو يحتاج إلى فعلها على وجه
الهداية, وأمور قد هُدي إلى الاعتقاد الحق
والعمل الصواب فيها فهو محتاج إلى الثبات
عليها, إلى غير ذلك من انواع الهدايات,
فرض الله سبحانه عليه أن يسأله هذه
الهداية, في أفضل أحواله, مرّات متعددة,
في اليوم والليلة.
ثم بيّن أن أهل هذه الهداية هم المختصون
بنعمتة, دون المغضوب عليهم _وهم الذين
عرفوا الحق ولم يتبعوه_ ودون الضالين _وهم
الذين عبدوا الله بغير علم_ فالطائفتان
اشتركتا في القول في خلقه وأمره وأسمائه
وصفاته بغير علم, فسبيل المنعَمِ عليه
مغايرة لسبيل أهل الباطل كلّها علماً
وعملاً.
فلمّا فرغ من هذا الثناء والدعاء
والتوحيد؛ شرع
له أن يطبع على ذلك بطابع من "التأمين"
يكون كالخاتم له, وافق فيه ملائكة
السماء, وهذا التأمين من زينة الصلاة,
كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة, واتباع
للسنة, وتعظيم أمر الله, وعبودية اليدين,
وشعار الانتقال من ركن إلى ركن.
ثم يأخذ في مناجاة ربه بكلامه, واستماعه
من الإمام بالإنصات, وحضور القلب وشهوده. وأفضل
أذكار الصلاة؛ ذكر القيام, وأحسن هيئة
المصلي؛ هيئة القيام, فخصّت بالحمد,
والثناء, والتمجيد, وتلاوة كلام الرب جل
جلاله. ولهذا نهى عن قراءة القرآن
في الركوع والسجود (مسلم: 1/348) لأنهما
حالتا ذل وخضوع وتطامن وانخفاض, ولهذا شرع
فيهما من الذكر ما يناسب هيئتهما, فشرع
للراكع أن يذكر عَظَمَةَ ربّه في حال
انخفاضه هو, وتطامنه وخضوعه, وأنه سبحانه
يوصف بوصف عظمته عما يضادّ كبرياءه وجلاله
وعظمته. فأفضل ما يقول الراكع على
الإطلاق: "سبحان
ربي العظيم" فإن الله سبحانه أمر
العباد بذلك, وعيّن المبلّغ عنه, السفير
بينه وبين عباده, هذا المحلّ لهذا الذكر,
لمّا نزلت: "فسبح باسم ربك العظيم"
(الواقعة: 96) قال: "اجعلوها في ركوعكم"
(أبو داود: 869 وضعفه الألباني) وأبطل
كثير من أهل العلم صلاة من تركها عمداً,
وأوجب سجود السهو على من سها عنها, وهذا
مذهب الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة
الحديث والسنة. وبالجملة؛ فسرّ الركوع؛
تعظيم الرب جلّ جلاله بالقلب والقالب
والقول. ولهذا قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب"
(مسلم: 479)
ثم يرفع رأسه عائداً إلى أكمل هيئاته,
وجُعِلَ شعارُ هذا الركن؛ حمدُ الله
والثناء عليه, فافتتح هذا الشعار بقول
المصلّي: "سمع
الله لمن حمده" أي: سَمِعَ سَمْعَ
قبولٍ وإجابة. ثمّ شفع بقوله: "ربنا
ولك الحمد, ملء السموات, وملء الأرض, وملء
ما بينهما, وملء ما شئت من شيء بعد"
ولا يهمل أمر هذه الواو في قوله: "ربنا
ولك الحمد" فإنه قد نُدب الأمر بها في
الصحيحين (البخاري: 734 , مسلم: 392) وهي
تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين
بأنفسهما, فإن قوله "ربّنا" متضمنٌ في
المعنى: أنت الربُّ, والملكُ القيومُ الذي
بيديه أزمّة الأمور, وإليه مرجعها. ثم
أخبر عن شأن هذا الحمد وعظمته قدراً وصفة,
فقال: "ملء السموات, وملء الأرض, وملء ما
بينهما, وملء ما شئت من شيء بعد" أي: قدر
ملء العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي
بينهما, فهذا الحمد قد ملأ الخلق الموجود,
وهو يملأ ما يخلقه الرب تبارك وتعالى بعد
ذلك مما يشاؤه, فحَمْدُهُ
قد ملأ كلَّ موجود, وملأ ما سيوجد,
فهذا أحسن التقديرين. ثم أتبع ذلك بقوله:
"أهل الثناء والمجد" فعاد الأمر بعد
الركعة إلى ما افتتح به الصلاة قبل
الركعة؛ من الحمد والثناء والمجد, ثمّ
أتبع ذلك بقوله: "أحقّ
ما قال العبد" تقريراً لحمده
وتمجيده والثناء عليه, وأن ذلك أحقّ ما
نطق به العبد, ثم أتبع ذلك بالاعتراف
بالعبودية, وأن ذلك حكم عام لجميع العبيد,
ثم عقّب ذلك بقوله: "لا مانع
لما أعطيت ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا
الجَدِّ منك الجَدّ" وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يقول ذلك بعد
انقضاء الصلاة أيضاً, فيقوله في
هذين الموضعين؛ اعترافاً بتوحيده, وأن
النعم كلها منه, وهذا يتضمن أموراً:
أحدها:
أنه المنفرد بالعطاء والمنع.
الثاني:
أنه إذا أعطى؛ لم يُطق أحد منع من أعطاه,
وإذا منع؛ لم يُطق أحد إعطاء من منعه.
الثالث:
أنه لا ينفع عنده, ولا يخلص من عذابه, ولا
يدني من كرامته, جدود بني آدم وحظوظهم, من
الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير
ذلك, إنما ينفعهم عنده؛ التقرّبُ إليه
بطاعته, وإيثار مرضاته.
ثم ختم ذلك بقوله: "اللهم
اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"
(متفق عليه) كما افتتح به الركعة في أول
الاستفتاح, كما كان يختم الصلاة
بالاستغفار(النسائي: 1336 بسند صحيح) وكان
الاستغفار في أول الصلاة ووسطها وآخرها,
فاشتمل هذا الركن على أفضل الأذكار, وأنفع
الدعاء؛ من حمده وتمجيده والثناء عليه,
والاعتراف له بالعبودية والتوحيد,
والتنصّل إليه من الذنوب والخطايا. فهو
ذكر مقصود, في ركن مقصود, ليس بدون الركوع
والسجود.
ثم يكبّرُ, ويخرُّ لله ساجداً, غير
رافع يديه؛ لأن اليدين تنحطان للسجود كما
ينحط الوجه, فهما ينحطان لعبوديتهما,
فأغنى ذلك عن رفعهما, ولذلك لم
يشرع رفعهما عند رفع الرأس من السجود؛
لأنهما يُرفعان معه, كما يوضعان معه.
وشُرع السجودُ على أكمل الهيئة وأبلغها في
العبودية, وأعمّها لسائر الأعضاء, بحيث
يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية.
والسجود سرُّ الصلاة,
وركنها الأعظم, وخاتمة الركعة, وما قبله
من الأركان كالمقدمات له, ولهذا أقرب ما
يكون العبد من ربه وهو ساجد.
(مسلم: 482). وأفضل الأحوال له؛ حال يكون
فيها أقرب إلى الله, ولهذا كان الدعاء في
هذا المحلّ أقرب إلى الإجابة.
ولمّا خلق الله سبحانه
العبد من الأرض؛ كان جديراً بأن لا يخرج
عن أصله, بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع
والنفس بالخروج عنه, فإن العبد لو تُرِكَ
لطبعه ودواعي نفسه؛ لتكبر وأشِرَ, وخرج عن
أصله الذي خُلق منه, ولوثب على حقّ ربّه
من الكبرياء والعظمة, فنازعه إياهما! وأُمر
بالسجود؛ خضوعاً لعظمة ربه وفاطره,
وخشوعاً له وتذللاً بين يديه, وانكساراً
له. فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلّل
ردّاً له إلى حُكْمِ العبوديةِ, ويتدارك
ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض,
الذي خرج به عن أصله, فتمثّل له حقيقة
التراب الذي خلق منه, وهو يضع أشرف شيء
منه وأعلاه _وهو الوجه_ وقد صار أعلاه
أسفله؛ خضوعاً بين يدي ربه الأعلى,
وخشوعاً له, وتذللا لعظمته, واستكانة
لعزته. وهذا
غاية خشوع الظاهر, فإن
الله سبحانه خلقه من الأرض, التي هي مذللة
للوطء بالأقدام, واستعمله فيها, وردّه
إليها, ووعده بالإخراج منها, فهي أمه
وأبوه, وأصله وفصله, فضمَّتْهُ حيّاً على
ظهرها, وميتاً في بطنها, وجُعلت له طهوراً
ومسجداً. فأُمر بالسجود, إذ هو غاية خشوع
الظاهر, وأجمعُ العبوديةِ لسائر الأعضاء,
فيعفّر وجهه في التراب؛ استكانةً وتواضعاً
وخضوعاً وإلقاء باليدين.
وقال مسروق لسعيد بن جبير:
ما بقي شيء يُرغب فيه؛ إلا أن نُعفّر
وجوهنا في التراب له. وكان النبي صلى الله
عليه وسلم لا يتّقِي الأرض بوجهه قصداً,
بل إذا اتفق له ذلك فعله. ولذلك سجد في
الماء والطين (البخاري: 813, مسلم: 1167)
ولهذا كان من كمال السجود الواجب؛ أن يسجد
على الأعضاء السبعة؛ الوجه واليدين
والركبتين وأطراف القدمين, فهذا فرض أمر
الله به رسوله صلى الله عليه وسلم, وبلّغه
الرسولُ لأمته. ومن كماله الواجب أو
المستحب؛ مباشرةُ
مُصَلّاهُ بِأَدِيمِ وجهه, واعتماده على
الأرض, بحيث ينالها ثقل رأسه, وارتفاع
أسافله على أعاليه, فهذا من تمام السجود.
ومن كماله؛ أن يكون على هيئةٍ يأخذُ فيها
كلُّ عضوٍ من البدن بحظه من الخضوع, فيقلّ
بطنه عن فخذيه, وفخذيه عن ساقيه, ويجافي
عضديه عن جنبيه, ولا يفرشهما على الأرض؛
ليستقل كل عضو منه بالعبودية.
ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجداً
لله؛ اعتزل ناحية يبكي, ويقول: "يا ويله!
أُمِرَ ابن آدم بالسجود؛ فسجد, فله الجنة.
وأمرتُ بالسجود؛ فعصيتُ, فلي النار".
(مسلم: 81) ولذلك أثنى الله سبحانه على
الذين يخرون سُجَّداً عند سماع كلامه,
وذمّ من لا يقع ساجداً عنده, ولذلك كان
قول من أوجبه قوياً في الدليل. ولما علمت
السحرةُ صدق موسى وكذب فرعون؛ خرّوا سجداً
لربهم, فكانت تلك السجدة أول سعادتهم
وغفران ما افنوا فيه أعمارهم من السحر.
ولذلك أخبر سبحانه عن سجود جميع المخلوقات
له, فقال تعالى: "ولله يسجد ما في السموات
وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا
يستكبرون . يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون
ما يؤمرون" (النحل: 49 _ 50) فأخبر عن
إيمانهم بعلوّه وفوقيته, وخضوعهم له
بالسجود تعظيماً وإجلالاً. وقال تعالى: "
ألم تر أن الله يسجد له من السموات ومن في
الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال
والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق
عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم
إن الله يفعل ما يشاء" ( الحج: 18) فالذي
حقّ عليه العذاب هو الذي لا يسجد له
سبحانه, وهو الذي أهانه بترك السجود له.
ولما كانت العبودية غاية
كمال الإنسان, وقُربهُ من الله بحسب نصيبه
من عبوديته, وكانت الصلاة جامعة لمتفرّق
العبودية, متضمنة لأقسامها؛ كانت أفضل
أعمال العبد, ومنزلتها من الإسلام بمنزلة
عمود الفسطاط منه, وكان السجود أفضل
أركانها الفعليّة, وسرُّها الذي شُرعت
لأجله؛ كان تكرّره في الصلاة أكثر من
تكرّر سائر الأركان,
وجُعل خاتمة الركعة وغايتها, وشُرع فعله
بعد الركوع, فإن الركوع توطئة له
ومُقدِّمةٌ بين يديه, وشُرع فيه من الثناء
على الله ما يناسبه, وهو
قول العبد: "سبحان ربي الأعلى" فهذا أفضل
ما يُقال فيه, ولم يرد عن النبي صلى الله
عليه وسلم أمرٌ في السجود بغيره, حيث قال:
"اجعلوها في سجودكم"(أبو داود: 869 وضعفه
الألباني) ومن تركه عمداً؛ فصلاته باطلة
عند كثير من العلماء, منهم الإمام احمد
وغيره؛ لأنه لم يفعل ما أُمِرَ به. وكان
وصفُ الرب بالعلو في هذه الحال في غاية
المناسبة لحال الساجد, الذي قد انحط إلى
السُّفْلِ على وجهه, فذكر علوَّ ربِّهِ في
حال سقوطه, كما ذكر عظمته في حال خضوعه في
ركوعه, ونزّه ربَّهُ عما لا يليق به, مما
يضاد عظمته وعلوّه.
ثم لما شُرع السجود بوصف التكرار, لم يكن
بدٌّ من الفصل بين السجدتين, ففصل بينهما
بركن مقصود, شُرع فيه من الدعاء ما يليق
به ويناسبه, وهو سؤال العبد المغفرة
والرحمة والهداية والعافية والرزق
(الحاكم, ووافقه الذهبي: 1/262) فإن هذه
تتضمن جلب خير الدنيا والآخرة, ودفع شر
الدنيا والآخرة,
فالرحمة تُحَصِّلُ الخير, والمغفرة تقي
الشر, والهداية توصل إلى هذا وهذا,
والرزق إعطاء ما به قوام البدن من الطعام
والشراب, وما به قوام الروح والقلب من
العلم والإيمان. وجُعِلَ جلوسُ الفصلِ
محلًّا لهذا الدعاء؛ لما تقدّمه من رحمة
الله والثناء عليه والخضوع له, فكان هذا
وسيلة للداعي, ومقدّمة بين يدي حاجته. فهذا
الركن مقصود, والدعاء فيه مقصود, فهو ركن
وضع للرغبة وطلب العفو والمغفرة والرحمة,
فإن العبد لما أتى بالقيام والحمد والثناء
والمجد, ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرب
وتعظيمه, ثم عاد إلى الحمد والثناء, ثم
كمّل ذلك بغاية التذلل والخضوع
والاستكانة, بقي سؤالُ حاجتِهِ واعتذاره
وتنصّله؛ فشُرع له أن يتمثّل في العبادة, فيقعد
قعود العبد الذليل, جاثياً على ركبتيه
كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده, راغباً
راهباً, معتذراً إليه, مستعدياً
إليه على نفسه الأمارة بالسوء. ثمّ شرع له
تكرير هذه العبودية مرّة بعد مرّة, إلى
إتمام الأربع, كما شرع له تكرير الذّكر
مرّة بعد مرّة؛ لأنه أبلغُ في حصول
المقصود, وأدعى إلى الاستكانة والخضوع,
فلما أكمل ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها
وتسبيحها وتكبيرها؛ شُرع له أن يجلس في
آخر صلاته جلسة المتخشّعِ المتذلّل
المستكين, جاثياً على ركبتيه, ويأتي في
هذه الجلسة بأكمل "التَّحِيَّاتِ"
وأفضلها, عوضاً عن تحيّة المخلوق للمخلوق
إذا واجهه أو دخل عليه, فإن الناس يحيّون
ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي
يتحببون بها إليهم, فتحيّاتهم بينهم
تتضمّنُ ما يحبُّهُ المُحَيَّى من الأقوال
والأفعال. والمشركون يحيّون أصنامهم, قال
الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسّحون
بأصنامهم, ويقولون: لك الحياة الدائمة.
فلما جاء الإسلام أُمروا أن يجعلوا أطيب
تلك التحيات وأزكاها وأفضلها لله.
فالتحيّة: هي تحيّةُ من العبد للحيّ الذي
لا يموت, وهو سبحانه أولى بتلك التحيّات
من كل ما سواه, فإنها تتضمنُ الحياةَ
والبقاء والدوام,
ولا يستحقّ أحدٌ هذه التّحيّات إلا الحيّ
الباقي, الذي لا يموت, ولا يزول ملكه.
وكذلك قوله: "والصّلوات"
فإنه لا يستحق أحدٌ الصلاة إلا الله عز و
جل, والصلاة لغيره من أعظم الكفر والشرك
به.
وكذلك قوله: "والطّيّبات"
وهي: صفة الموصوف المحذوف, أي: الطيبات من
الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله
وحده,
فهو طيَّبٌ, وأفعاله طيّبة, وصفاته أطيب
شيء, وأسماؤه أطيب الأسماء, واسمه
الطَّيِّب, ولا يصدر عنه إلا طيّب, ولا
يصعد إليه إلا طيّب, ولا يقرب منه إلا
طيّب, وإليه يصعد الكلم الطيّب, وفعله
طيّب, والعمل الطيّب يعرج إليه, فالطيّبات
كلّها له, ومضافةٌ إليه, وصادرةُ عنه,
ومنتهية إليه. قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "إن الله طيّب لا يقبل إلا طيّباً"
(مسلم: 1015) ولا يجاوره من عبادة إلا
الطيّبون, كما يُقال لأهل الجنة: "سلام
عليكم طبتم فادخلوها خالدين" (الزمر: 73)
وقد أحكم سبحانه شرعه وقدره؛ أن الطيّبات
للطيبين, فإذا
كان هو سبحانه الطيّب على الإطلاق؛
فالكلماتُ الطيّباتُ, والأفعال الطيبات,
والصفات الطيبات, والأسماء الطيبات؛
كلُّها له سبحانه, لا يستحقّها أحدٌ سواه.
بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه,
فطيب كل ما سواه من آثار طيبته, ولا تصلح
هذه التحية الطيّبة إلا له.
ولما كان "السّلام"
من أنواع التحية, وكان المسلِّم داعياً
لمن يحييه, وكان الله سبحانه هو الذي
يُطلبُ منه السلام لعباده الذين اختصهم
بعبوديته, وارتضاهم لنفسه؛
شُرع أن يبدأ بأكرمهم عليه وأحبّهم إليه,
وأقربهم منه منزلة في هذه التحيّة, صلوات
الله وسلامه عليه.
ثم خُتمت هذه التحيّة بـ"الشهادتين"
اللتين هما مفتاح الإسلام, فشُرع أن يكون
خاتمة الصلاة, فَدَخَلَ فيها بالتكبير
والحمد والثناء والتمجيد وتوحيد الربوبية
والإلهية, وَخَتَمَهَا بشهادة أن لا إله
إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله. وشُرعت
هذه التحية في وسط الصلاة إذا زادت على
ركعتين, تشبيهاً لها بجلسة الفصل بين
السجدتين, وفيها مع الفصل راحة للمصلي؛
لاستقباله الركعتين الآخرتين بنشاط وقوّة,
بخلاف ما إذا والى بين الركعات.
وجُعِلَتْ كلمات التّحيات في آخر الصلاة, بمنزلة
خُطبةِ الحاجة أمامها, فإن المصلي
إذا فرغ من صلاته؛ جلس جلسة الرّاغب
الراهب, يستعطي من ربه ما لا غنى به عنه,
فشُرع له أمام استعطائه كلمات التحيات,
مقدمة بين يدي سؤاله, ثم
يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه
النعمة على يده. فكأنّ المصلّي
توسّل إلى الله سبحانه بعبودتيه, ثم
بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية,
ولرسوله بالرسالة, ثم الصلاة على رسوله,
ثم قيل له: تخيّر
من الدعاء أحبه إليك, فذاك الحقّ الذي
عليك, وهذا الحق الذي لك.
وشُرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه؛ تكميلاً
لقرّةِ عينه, بإكرام آله والصلاة عليهم,
وأن يصلي عليه وعلى آله, كما صلي على أبيه
إبراهيم وآله. والأنبياء كلُّهم بعد
إبراهيم من آله, ولذلك كان المطلوب لرسول
الله صلاةً مثل الصلاة على إبراهيم وعلى
جميع الأنبياء بعده وآله المؤمنين. فلهذا
كانت هذه الصلاة أكمل ما يصلي على رسول
الله بها وأفضل.
فإذا أتى بها المصلي
أُمر أن يستعيذ بالله من مجامع الشرّ كلّه,
فإن الشر؛ إما عذاب الآخرة, وإما سببه, فليس
الشر إلا العذاب وأسبابه. والعذاب
نوعان: عذاب في البرزخ, وعذاب في الآخرة,
وأسبابه الفتنة, وهي نوعان؛ كبرى وصغرى,
فالكبرى: فتنة الدجال وفتنة الممات,
والصغرى: فتنة الحياة التي يمكن تداركها
بالتوبة, بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال,
فإن المفتون فيهما لا يتداركهما.
ثم شُرع له من الدعاء ما
يختاره من مصالح دنياه وآخرته,
والدعاء في هذا المحلّ قبل السلام أفضل من
الدعاء بعد السلام, وأنفع للداعي. وهكذا
كانت عامّة أدعية النبي صلى الله عليه
وسلم كلّها كانت في الصلاة من أولها إلى
آخرها, فكان يدعو في الاستفتاح
أنواعاً من الدعاء, وفي الركوع, وبعد رفع
رأسه منه, وفي السجود, وبين السجدتين, وفي
التشهد قبل التسليم, وعلّم الصديق دعاءً
يدعوا به في صلاته, وعلّم الحسن بن علي
دعاء يدعو به في قنوت الوتر, وكان إذا دعا
لقوم أو على قوم جعله في الصلاة بعد
الركوع. ومن ذلك أن المصلي قبل سلامه في
محلّ المناجاة والقربة بين يدي ربه,
فسؤاله في هذا الحال أقرب إلى الإجابة من
سؤاله بعد انصرافه من بين يديه. وقد سُئل
النبي صلى الله عليه وسلم:
أي الدعاء أسمع؟ فقال: "جوف الليل, وأدبار
الصلوات المكتوبة" (الترمذي: 3494
بسند صحيح) وَدُبُرَ الصلاةِ جزؤها
الأخير.
ثمّ خُتمت بـ"التّسليم"
وجُعل تحليلاً لها, يَخرجُ به المصلي
منها. وجُعل هذا التحليل دعاء الأمام لمن
وراءه بالسلامة, التي هي أصل الخير
وأساسه, فشُرع لمن وراءه أن يتحلّل بمثل
ما تحلّل به الإمام, وفي ذلك دعاء له
وللمصلين معه بالسلام, ثم شُرع ذلك لكلّ
مصلٍّ وإن كان منفرداً, فلا أحسن من هذا
التحليل للصلاة, وكما أنه لا أحسن من كون
التكبير تحريماً لها, فتحريمها تكبير
الرّبِّ تعالى, والجامع لإثبات كلّ كمال
له, وتنزيهه عن كلّ نقص وعيب, وإفراده
وتخصيصه بذلك, وتعظيمه وإجلاله. فالتكبير
يتضمّن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها
وهيئاتها, فالصلاة من أولها إلى آخرها
تفصيلٌ لمضمون "الله أكبر" وأي
تحريمٍ أحسنَ من هذا التحريم المتضمن
للإخلاص والتوحيد, وهذا التحليل المتضمّن
الإحسان إلى إخوانه المؤمنين؟ فافتُتِحَتْ
بالإخلاص, وخُتِمَتْ بالإحسان".
وصلى الله وسلّم وبارك وأنعم على البشير
النذير, والسراج المنير, ما تعاقبت
الأزمان والدهور, وعلى آله وأصحابه ومن
تبعهم بإحسان. |