الإيمان بالقضاء والقدر
إيهاب عبدالجليل عباس
بسمِ
اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد ,
الإيمان بالقضاء والقدر هو السعادة، وهو
ركن الإفادة من هذه الدنيا والاستفادة،
منه تنشرح الصدور، ويعلوها الفرح والحبور،
وتنزاح عنها الأحزان والكدور، فما أحلاها
من حياة عندما يسلِّم العبد زمام أموره
لخالقه، فيرضى بما قسم له، ويسلِّم لما
قدّر عليه، فتراه يحكي عبداً مستسلماً
لمولاه، الذي خلقه وأنشأه وسواه، وبنعمه
وفضله رباه وغذاه، فيسعد في الدنيا ويؤجر
في الأخرى.
ولا يتم ذلك إلا لمن فهم القضاء والقدر،
وعرف أسراره، وعلم حكمه على فهم سلف
الأمة، فهم على علم أقدموا، وعن فهم كفوا
وأحجموا، فلابد من الوقوف حيث وقفوا، وقصر
الأفهام على ما فهموا.
القضاء والقدر لغة وشرعا :-
القضاء لغة فهو: الحكم،
والقدر: هو التقدير.
فالقدر: هو
ما قدره الله سبحانه من أمور خلقه في
علمه.
والقضاء: هو
ما حكم به الله سبحانه من أمور خلقه
وأوجده في الواقع.
وعلى هذا فالإيمان بالقضاء والقدر معناه:
الإيمان بعلم الله الأزلي، والإيمان
بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة
سبحانه
@ حكم الخوض فى مسائل القدر :-
الأصل أن المؤمن يؤمن بقضاء الله وقدره
ويمسك لسانه عن الخوض فى دقائق القدر ,
ويضع نصب عينيه عدل الله ورحمته . بهذا
ينجو من أمواج هذا البحر العميق .
وقبل أن نسبح فى هذا المحيط العظيم أذكر
بأن اعظم الأخطار فى مسائل الإعتقاد أن
تنظر إليها من جانب واحد دون الإمساك
بخيوطها جميعها .
@ مراتب القدر وأركانه :-
الإيمان بالقدر يقوم على أربعة اركان تسمى
مراتب القدر أو اركانه , وهى المدخل لفهم
باب القدر ولا يتم الإيمان به إلا
بتحقيقها كلها , فبعضها مرتبط ببعض , فمن
أقر بها جميعا اكتمل إيمانه بالقدر ومن
انتتقص واحداً منها أو أكثر اختل إيمانه
بالقدر ,
وهذه الأركان هى :-
1) العلم 2) الكتابة
3) المشيئة 4) الخلق
المرتبة الأولى : العلم :-
وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شئ جملة
وتفصيلاً , ازلاً وأبداً , سواء كان ذلك
مما يتعلق بأفعاله , أو بأفعال عباده ,
فعلمه محيط بما كان , وما سيكون ومالم يكن
لو كان كيف كان يكون , ويعلم الموجود
والمعدوم والممكن والمستحيل , وقد علم
جميع خلقه قبل أن يخلقهم , فعلم أرزاقهم
وآجالهم , واقوالهم واعمالهم , وجميع
حركاتهم وسكناتهم ,,اهل الجنة , وأهل
النار .
والأدلة على هذه المرتبة من القرآن الكريم
والسنة المطهرة كثيرة جداً منها .
1) قوله
تعالى ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ )) ( الحشر / 22 )
أى عالم ما غاب من الإحساس و ما حضر ,
وقيل عالم السر والعلانية , وقيل ما كان
وما يكون وقيل الآخرة والدنيا
وقوله تعالى ((أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْمًا )) ( الطلاق /12)
2) وفي
الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما
قال : « سئل النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلِّم عن أولاد المشركين فقال
: الله أعلم بما كانوا عاملين » (البخاري)
.
المرتبة الثانية : الكتابة :-
وهى الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه
من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة فى
اللوح المحفوظ .
وقد اجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل
السنة والحديث على أن كل كائن إلى يوم
القيامة فهو مكتوب فى ام الكتاب التى هى
اللوح المحفوظ .
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة من الكتاب
والسنة منها .
أولا : الأدلة من
الكتاب :
1) قوله تعالى :- { مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (الأنعام/38) .
2) وقوله جل وعلا :- { وَمَا يَعْزُبُ
عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا
أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (يونس / 61)
.
3) وقوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
(الحج / 70) .
ثانيا : الأدلة من السنة :
1) روى
البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن علي
رضي الله عنه قال : كنا في جنازة في بقيع
الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس
وجعل ينكت بمخصرته ثم قال : « ما منكم من
أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من
الجنة ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل
على كتابنا ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما
خلق له ، أما من كان من أهل السعادة
فسيصير لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من
أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاء ثم
قرأ ».
2) وروى
مسلم عن جابر بن عبد الله قال : « جاء
سراقة بن مالك بن جعثم فقال : يا رسول
الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ، فيم
العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت
به المقادير ، أم فيما نستقبل ؟ قال : "
لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به
المقادير " ، قال : ففيم العمل ؟ قال : "
اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل
بعمله » .
3) وروى
الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما قال : « كنت خلف رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال لي : يا
غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك ،
احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل
الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن
الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن
اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء
قد كتبه الله عليك . رفعت الأقلام وجفت
الصحف » .
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) (رفعت
الأقلام وجفت الصحف) يعنى : على اللوح
المحفوظ , فهذا اللوح المحفوظ ليس فيه محو
ولا إثبات للتغير .
فاللوح المحفوظ كتب اللله فيه ما سيكون
إلى يوم القيامة , وما هو كائن , حتى لو
أن كتاباً آخر مُحى فيه شئ واثبت آخر لكان
هذا موجوداً فى اللوح المحفوظ أن يُمحى من
كتاب فلان كذا وكذا ولا محو ولا لإثبات فى
الللوح المحفوظ , رفعت الأقلام وجفت الصحف
.
ويتبع هذه الكتابة الأولى – وهى الكتابة
فى اللوح المحفوظ – كتابات وتقديرات أخر
:-
1) التقدير يوم
القبضتين :-
قال صلى الله عليه وسلم (( إن الله عز وجل
حلق آدم , ثم أخذ الخلق من ظهره , وقال
هؤلاء فى الجنة ولا أبالى , وهؤلاء فى
النار ولا أبالى )) فقال قائل : يا رسول
الله فعلى ماذا نعمل ؟ قال صلى الله عليه
وسلم (( على مواقع القدر )) وفى رواية ((
أخذ قبضة بيمينه فقال :- هؤلاء فى الجنة
ولا أبالى واخذ قبضة بشماله وقال هؤلاء فى
النار ولا أبالى ))
فلا يبالى الله عز وجل بطاعة الطائعين ,
ولا معصية العاصين ولا يزيد فى ملكه طاعة
طائع , ولا ينقص من ملكه معصية عاصٍ , ولو
أن أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا
على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك فى ملكه
شيئاً لأنه هو الذى قدر ذلك , وهو الذى
جعله كذلك سبحانه وتعالى ولكنهم مأمورين
بالأخذ بالأسباب وبين النبى صلى الله عليه
وسلم أن وجود القدر السابق لا يعنى ترك
العمل , لأن الله عز وجل كتب المقادير
بأسبابها فقال (( هؤلاء للجنة وبعمل أهل
الجنة يعملون )) وقال (( وهؤلاء للنار
وبعمل أهل النار يعملون )) رواه الترمذى
وصححه الشيخ الألبانى رحمه الله
وليس هذا أمرأ مكتوباً بلا أسباب فلذا
عليك أن تأخذ بالأسباب لأن الله عز وجل
خلق لك قدرة وإرادة يقع بها فعلك ولكن ذلك
لا يعنى الخروج عن القدر .
وهذه المسألة هى التى حيرت البشرية و
جوابها فى هذا الحديث الذى لا يتجاوز
السطر أن الناس تعمل , وكل ميسر لما خلق
له , فالإنسان ليس مُيسراً فقط , ولا
مخيرا ً فقط , لأن كلمة " مسير " يعنى إنه
لا اختيار له كالسيارة يقودها صاحبها
ويوجهها وكونه مخيراً يعنى إنه لا سلطان
لأحد عليه , فكلا الأمرين باطل .
إنما يُجمع بين الأمرين فالإنسان له
أختيار ومشيئة وجعل الله وقدر له قدرة فلا
يلزمنا أحد بأحدى إجابتين كلاهما خطأ ,
فيقول لك الإنسان مسير أم مخير ؟ وكأنه
يقول 5+ 5 = 9 أم 11 فنقول كلتى
الإجابيتين خطأ , والصواب ما قاله النبى
صلى الله عليه وسلم (( اعملوا فكل ميسر
لما خلق له )) فكلمة (( اعملوا )) قالها
ما إثبات القدر , فإثبات القدر لا يعنى
ترك العمل , فقال ( اعملوا )) فأثبت العمل
(( فكل ميسر لما خلق له )) فكلمة (( لما
خلق له )) لا تعنى أنه يدخله بغير عمل غلا
أن بعض اهل الجنة يدخلهم الله جل وعلا
الجنة بلا عمل عملوه ولا خير قدموه , وهذا
فضل الله يؤتيه من يشاء , ولكن النار لا
يدخلها أحد غلا بعمله ولا يدخلها أحد غلا
بعدل الله سبحانه .
2) التقدير العمرى
:-
وهو تقدير كل ما يجرى على العبد فى حياته
إلى نهاية أجله , وكتابة شقاوته أو سعادته
.
وقد دل على ذلك حديث الصادق المصدوق فى
الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً (0 إن
أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً
, ثم يكون علقة مثل ذلك , ثم يكون مضغة
مثل ذلك , ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح
ويؤمر بأربع كلمات , يكتب رزقه وأجله ,
وعمله , وشقى أم سعيد )) رواه البخارى
ومسلم وابن ماجه .
3) التقدير السنوى
:-
وذلك فى ليلة القدر من كل سنة , ويدل عليه
قوله سبحانه وتعالى ((فِيهَا يُفْرَقُ
كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )) الدخان / 4
فكل أمور السنة تقدر تقديراً أخر فى ليلة
القدر وهذه كتابات وتقديرات قد تكون
منسوخة – أى منقوله – من اللوح المحفوظ
فكتب الله عز وجل ما يشاء فى ليلة القدر
:- من يحج ومن يموت ومن يغزو ........الخ
4 ) التقدير اليومى
:-
قال تعالى ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
)) الرحمن / 29
(( من شأنه أن يغفر ذنباً , ويفرج كرباً
ويرفع قوماً ويخفض أخرين )) حسنه الألبانى
المرتبة الثالثة :- المشيئة :-
وهذه المرتبة تقتضى الإيمان بمشيئة الله
النافذة , وقدرته الشاملة , فما شاء كان ,
ومالم يشأ لم يكن , وأنه لا حركة , ولا
سكون , ولا هداية , ولا إضلال إلا بمشيئته
.
والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جداً
من الكتاب والسنة :-
1- قال تعالى ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
)) التكوير / 29
ومشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة
يجتمعان فيما كان وما سيكون ويفترقان فيما
لم يكن , ولا هو كائن , فما شاء الله كونه
فهو كائن بقدرته لا محالة ومالم يشأ كونه
فإنه لا يكون , لعدم مشيئته له لا لعدم
قدرته عليه .
قال تعالى ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ
مَا يُرِيدُ )) البقرة / 253
فعدم اقتتالهم ليس لعدم قدرة الله ولكن
لعدم مشيئته ذلك
@ الإرادة مردافة للمشيئة .
وهى تنقسم إلى قسمين : _
إرادة شرعية وإرادة كونية قدرية
1) فالإرادة الكونية القدرية :-
بها تكون الأشياء , وتقع كقوله تعالى
((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
)) يس /82
وهذه تشمل كل الموجودات , خيرها وشرها ,
ما الله منها وما أبغض , وما مدحه وما ذمه
, يشمل كل شئ وجد بإرادة الله سبحانه اراد
وجود غبليس وأبى لهب وفرعون ووجود الشر ,
وهو يبغض كل ذلك .
كما أنه الذى أراد وجود الملائكة ,
والأنبياء والمؤمنين , وكل الخير , ويحب
ذلك فخلق ما يرضاه وما لا يرضاه , وما
أراده شرعاً , ومن نهى عنه شرعاً , وخلق
كلا لحكمة يعلمها فلو سأل سائل :-
فلماذا خلق الله عز وجل مالا يحب ؟
فنقول : خلق هذه الأشياء لحكمة يعلمها ,
وقد يُطلع بعض خلقه على بعض حكمه .
قال النبى صلى الله عليه وسلم فى بيان
حكمة وقوع الذنوب المكروهة لله عز وجل من
عباده (( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم
ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر
لهم ) رواه مسلم
فهنا يظهر آثار الأسماء والصفات , فالله
عز وجل يجب أن يغفر عز وجل فكيف يغفر لمن
يوجد منه الذنب ؟ وإنما الأمر مرتبط بوجود
الذنوب وهذا يقاس عليه ما تراه , فظهور
آثار الرحمة , وظهور أثار شدة العقاب ,
وظهور اثار العزة , وظهور أنه ذو انتقام
عز وجل وإنما ينتقم من المجرمين , ولا
ينتقم من المؤمنين الذى اطاعوه عز وجل ,
وهذا بعض معانى حكمته عز وجل وهى كثيرة
جداً فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم , فيكثر بيان أنواع من الحكم
الكونية , كما يكثر بيان أنواع من الحكم
الشرعية , ولكن لا يحيط علماً بحكمته عز
وجل إلا هو .
2) الإرادة الشرعية :-
وهذه الغرادة تشمل كل ما يحبه الله ويرضاه
فقط , سواء أوجد أم لم يوجد (( والله يريد
أن يتوب عليكم )) النساء /27
وهذه الإرادة ليست غرادة كونية وإنما هى
إرادة شرعية , فمن الناس من يتوب, ومنهم
من لا يتوب , والله يريد التوبة من الجميع
شرعاً ولا يريدها كوناً إلا من بعضهم
فالتوبة التى حدثت من بعضهم متعلقة بإرادة
الله الكونية , التى هى متعلقة بكل ما
يوجد مما يحبه ومما لا يحبه , والتوبة عمل
يحبه عز وجل .
المرتبة الرابعة :- الخلق :-
وهذه المرتبة تقتضى الإيمان بأن جميع
الكائنات مخلوقة لله بذواتها وصفاتها
وحركاتها وبأن كل من سوى الله مخلوق موجد
من العدم , كائن بعد أن لم يكن .
والأدلة على هذه المرتبة لا تكاد تحصر
منها :- قوله تعالى (( الله خالق كل شئ ))
الزمر / 62
وكذلك أفعال العباد هة من الله خلقاً
وإيجاداً وتقديراً , وهى من العباد فعلاً
وكسباً , فالله هو الخالق لفعالهم , وهم
الفاعلون لها
تم بحمد الله تعالى |