البــدايـــة

القــرآن الكـريــم

الحديث النبوي الشريف

المكتبـه العـامـــه

المكتبـــــة العـــــامـــه

 الغزو الفكري

 

الكاتـــب
تقديم: عمر عبيد
مقـد مـة
لفصل الأول
لفصل الثاني
الفصل الثالث

بدايـات وبناء حقيقة الإيمان الحوار الحضاري إعــداد القــوة ضــرورة حياتيـــة

الحـــــوار الحضـــاري

مفهوم الحوار

بداية يحسن بنا أن نعرض لمفهوم الحوار.  ومفهوم الحضارة. حتى نتعرف على حوار الحضارات، وننطلق لرؤية واضحة، تكشف عن ضرورة الحوار للإنسان وحاجة الإنسان إليه.

والحوار:  الرجوع عن الشيء ، والى الشيء، يقال: حار إلى الشيء وعنه حورا ومحارا ومحاورة: رجع عنه وإليه، وفي الحديث: (من دعا رجلا بالكفر، وليس كذلك حار عليه ) أي رجع إليه ما نسب إليه.  والمحاورة، مراجعة المنطق، والكلام في المخاطبة.  قال تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره )(الكهف:37) أي وهو يراجعه الكلام ويجادله.

والتحاور: التجاوب. لذلك كان لا مندوحة في الحوار من متكلم ومخاطب، ولا بد  فيه من مراجعة الكلام، وتبادله وتداوله.

وغاية الحوار:  توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم. لا الاقتصار على عرض الأفكار القديمة، وفي هذا التجاوب توضيح للمعاني، وإغناء للمفاهيم يفيضان إلى تقدم الفكر.

وإذا كان الحوار تجاوبا بين الأضداد، كالمجرد والمشخص، والمعقول والمحسوس، سمي جدلاً.  والجدل هو النقاش والخصومة.  وهو  منطقياً: قياس  مؤلف من مقدمات مشهورة أو مسلمة، وغرضه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان.

والجدل أصلا: هو فن الحوار والمناقشة، قال أفلاطون: (الجدلي هو الذي يحسن السؤال والجواب، وغايته الارتقاء من تصور إلى تصور، ومن قول إلى قول، للوصول إلى أعم التصورات، وأعلى المبادئ.

واقتبس المحدثون عن أفلاطون.  فأطلقوا الجدل على: الارتقاء من المدركات الحسية إلى المعاني العقلية، ومن المعاني المشخصة إلى الحقائق المجردة، ومن الأمور الجزئية إلى الأمور الكلية.

وقبل أفلاطون زعم سقراط: أن العلم لا يعلم، ولا يدون في الكتب. بل يكشف بطريق الحوار.  ويذكر العلماء: أن قاعدة القواعد في النظام الكوني، هي حوار الكائنات، ليأخذ بعضها من بعض، ويعطي بعضها بعضا كما هي طبيعة الحاجة، فيكون الانسجام والشد، والعقد، والاستمرار.

فالحوار ليس قاصرا على الكلمات اللسانية المسموعة،  إنما قد يتجاوز إلى الإشارة الموضحة، والبسمة المشرقة، والحس الخافق، والدورة المقبلة، والعمل الصالح، والموقف الصالح، حتى الصمت، لا يبعد أحياناً أن يتأتى حواراً.

ومن البدهة القول: بأن الإنسان كائن عقل واجتماع، كائن علاقة وحاجة: ومن البداهة القول: إن هذه الأحوال من أحوج حاجاتها اللقاءات المتحاورة: ليكون المجتمع على بينة من أمر علاقاته، وعلى تناسق مؤتلف، وتفاهم واع، وترابط معقود.  كما  الكون بقوانينه وأنظمته التي تجعله يحفظ بعضه بعضاً، ويستمر بعضه ببعض. . وهذا هو أصل مفهوم الحوار.

أما الحضارة: فإنها مأخوذة من الحضر، والحضر خلال البدو،: والحاضر خلاف البادي: وفي الحديث:  (لا يبع حاضر لباد) الحاضر المقيم في المدن والقرى: والبادي المقيم بالبادية. ويقال: فلان من أهل الحاضرة، وفلان من أهل البادية، والحضارة - بكسر الحاء - الإقامة في الحضر، وكان الأصمعي يقول: الحضارة بالفتح.  قال القطامي:

فمــن تكــن الحضارة أعجبتــــــه

               فــأي رجــال بـــاديـــة تــــرانــــا

والحضر والحاضرة: خلاف البادية.  وهي المدن والقرى والريف، سميت بذلك، لأن أهلها حضروا الأمصار، ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار.  إذن أهل الحضر يوصفون بأنهم أهل القرار، كما يقال: قراري للحضري الذي لا ينتجع ولا يتنقل طلباً للكلأ في مواضعه.  كذلك يوصف أهل الحضر بأنهم (أهل المدر) وهو قطع الطين المتماسك.  أو أهل الحجر، لأنهم يسكنون بيوتا متينة ثابتة، خلافا لأهل الوبر، الذين يسكنون الخيام، من وبر الإبل ، أو صوف الغنم، أو شعر الماعز.

ومفهوم كلمة (الحضارة) مفهوم متطور مع الزمن، لا سيما في تاريخ الحياة العربية.  ولقد عرف العرب الفارق، بين حياة البادية، وحياة الحضر، منذ كانت بادية، ومنذ كان حضر.  ولكن أول من تصدى لهذا التمييز على أساس الدراسة الواعية، هو العلامة عبد الرحمن بن خلدون. بل إن هذا العالم، هو أول من عالج شؤون الحضارة العربية بطريقة علمية. . ويرى : أن الحضارة هي النمط من الحياة المستقرة، والذي يناقض البداوة، ويضفي على حياة أصحابه فنوناً منتظمة من العيش، والعمل، والاجتماع، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الدعة، وأسباب الرفاهية.

والحضارة عند ابن خلدون (طور طبيعي أو جيل من أجيال طبيعية في حياة المجتمعات المختلفة، وأنها غاية العمران).. ويقول: (إن الحضارة في الأمصار من قبل  الدول، وأنها ترسخ باتصال الدول ورسوخها، إنها أحوال زائدة على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة، تفاوتاً غير منحصر، ويقع عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه، والمهرة فيه.

والباحث يجد أن مفهوم الحضارة في العصور المتأخرة، قد امتد إلى ألوان من المعنى، هي أبعد  وأوسع مما رآه ابن خلدون في عصره، وفي البيئة العربية، وفي انتقالها الاجتماعي والسياسي والمدني من البادية إلى الحضر.  إن لفظ الحضارة في مفهومه العام والحديث المعاصر بصفة خاصة، قد أصبح أكثر اتساعاً،  مما يدل عليه اللفظ في مفهومه اللغوي التقليدي. . ولذا جاء في المعاجم الحديثة: أن الحضارة هي الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي والاقتصادي في الحضر .  وبعبارة أخرى أكثر شمولا هي: الحصيلة الشاملة  للمدنية والثقافة والفكر، ومجموع الحياة في أنماطها المادية والمعنوية، ولهذا كانت الحضارة، هي الخطة العريضة كما وكيفا، التي يسير فيها تاريخ أمة من الأمم.  ومنها الحضارات القديمة والحضارات الحديثة والمعاصرة، ومنها الأطوار الحضارية الكبرى، التي تصور انتقال الإنسان، أو الجماعات من مرحلة إلى مرحلة.

فالحضارة بكل بساطة، معناها: بذل المجهود، بوصفنا كائنات إنسانية، من أجل تكميل النوع الإنساني ، وتحقيق التقدم من أي نوع كان في أحوال الإنسانية، وأحوال العالم الواقعي.

إن الحضارة تنشأ حينما يستلهم الناس عزما واضحا صادقا عن بلوغ التقدم، ويكرسون أنفسهم تبعا لذلك، لخدمة الحياة وخدمة العالم.

والحضارة باختصار شديد: هي جملة المظاهر المعنوية التي يخلفها التاريخ، والتي تبقى في المجتمع على مر الأيام، دليلاً على القدرات الذهنية المميزة، وتعبيرا ، عن روح هذا المجتمع والشعب، الذي يمثله. ولا شك أن المظاهر المعنوية، تأخذ قوالب مادية مختلفة، تتجسم فيها تلك المعنويات، وتشكل المظاهر المعنوية في صور مختلفة كالفنون والآداب والعلوم والمعارف.  ومجموع ما ينتج عن ذلك كله من تسجيلات ومشاهد في الآثار والعمائر وأسلوب الحياة، وآداب المعاش اليومي.

لقد عرف العلماء الحضارة تعاريف متباينة، وتحدثوا عنها من وجهات نظر مختلفة، ولما كانت الحضارة إنسانية النشأة، كان علينا أن نختار من تعريفات الحضارة المتعددة تعريفا ذكره العلامة الفرنسي (جورج باستيد) جاء فيه: أن الحضارة هي التدخل الإنساني الإيجابي لمواجهة ضرورات الطبيعة، وتجاوبا مع إرادة التحرر في الإنسان ، وتحقيقا لمزيد من اليسر في إرضاء حاجاته ورغباته، وإنقاصا للعناء البشري).  فالسلوك الإنساني الذي ينتج الحضارة، هو استجابة لتحد من ظروف الطبيعة، يكون هو المثير والدافع والحافز للإنسان كي يتغلب على ما يواجهه، ومن ذلك عوامل في طبيعة الإنسان نفسها مثل حاجاته للطعام، والشراب، والدفء، والاستقرار، والأمن، وهناك منافسة الإنسان الآخر له، على ذلك: ثم ما يكون من قصور ظروف بيئته المادية عن تلبية هذه الحاجات.

فالحضارة تحقيق للراحة الإنسانية، في جوانبها المتعددة، المتقابلة المتكاملة، جسدية، وعقلية، ونفسية، وروحية،  والسلوك الحضاري هو جواب الإنسان على التحدي الموجه له؛ تحدي الطبيعة المادية من جهة، وتحدي حاجاته هو من جهة أخرى، وتحدي الإنسان الآخر أو المجتمع من جهة ثالثة؛  ويأتي هذا الجواب الإنساني  في شتى مجالات الآداب، والعلوم، والفنون.  كما تشمل أيضا صور الإنتاج  المادي من عمائر، وطرق، وجسور، وقناطر، وغيرها.  ومن مجالات الحضارة العقائد والعوائد والأدب الشعبي، وأدب الخاصة، أو الأدب الرفيع، والنظم السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية كما لا يخرج عنها تخطيط المدن والعمارة  ووسائل النقل، وأساليب المأكل والمشرب والزينة والترفيه.

والحضارة على أي حال، تمثل كل مظهر من مظاهر الإنتاج البشري، وغالبا ما يحدوها سلوك الإنسان وطرق معيشته وتفاعله مع البيئة.  لذا كان من الطبيعي أن تختلف كل حضارة في مظاهرها عن الحضارات الأخرى، فلكل حضارة من الحضارات قديمها وحديثها مظاهر مميزة.

والعقل البشري استطاع بما اكتسب من خبرة ودربة، ومرانة، أن يصنف المعارف الإنسانية ،  وأن يحكم ما بينها من وشائج، وأن يستفيد بما بينها من صلات وروابط.  والنتائج العلمية متصل بعضها ببعض ويعتمد بعضها على بعض. والحضارات الإنسانية، ليست ملكا لأمة بعينها، ولا هي وقف على جماعة من الناس.  لأنها صرح هائل قد أسهمت فيه كل أمة بنصيب.  والحضارات الإنسانية قد تتشابه في مظهرها، وفي عناصرها، وفي أسلوبها، ولا سيما إذا تعايشت في وجهات متقاربة، والحضارات الإنسانية سلسلة محكمة متينة الحلقات، يؤثر سابقها في لاحقها، ويتأثر حاضرها بماضيها، وينتفع بعضها من بعض.

ولقد تواجدت حضارات مختلفة في الزمان والمكان، وانتفعت من بعضها انتفاعا أدى إلى تقدمها عند الكثير.

وتشكل الحضارة مجموعة الصفات، والمزايا المشتركة لمجتمع، أو لمجموعة من المجتمعات، وهذه الصفات تمثل مجموع الحلول التي أوجدتها أو تبنتها مجموعة اجتماعية ما، تندمج  بشكل عام، في جو واسع جداً، ومكان جغرافي طويل جداً من التاريخ.

وتستخدم هذه  الأساليب المادية، والتقنية، والمفاهيم لحل جميع المشاكل، التي يطرحها وجود هذه المجموعة: الاتصالات، وإصلاح وتوزيع الأراضي، واستثمار الثروات، وكذلك الحياة الاقتصادية، والفكرية، والسياسية، والدينية.

وكل المجموعات البشرية، تعمر صدورها الرغبة بالحياة والخلود،  وهذا العامل عنصر غير مادي، وهو ضروري لكل حضارة، لكي تولد، وتحيا، وتتطور، وجميع العناصر المكونة للحضارة متفاعلة فيما بينها باستمرار، وتتطور بوتائر متفاوتة بين السرعة والبطء.

وإن أول ما يسترعي انتباه المراقب، الذي ينظر للحضارة من الخارج، هو صفاتها الجمالية، وإدراكها للجمال بشكل عام، والأساليب الفنية المعبرة عنه.  ولا يخفى أن الحوار الحضاري، يتم من أجل الصفات الجمالية في الحضارة.

وتعتبر المنشآت المادية، والأدوات والتماثيل والكتابات، ذات أهمية خاصة بالنسبة لمفاهيم الجمال في كل حضارة.  ويأتي بعد علم الجمال كل ما له علاقة  بالحياة المادية، كفن الطبخ، وطريقة التغذية، وصناعة الفخار، والأواني، والأدوات المنزلية، والمفروشات، والمنشآت والأدوات والآلات والأسلحة، حيث يتم الجمع بين الفائدة  المباشرة، والصفة الجمالية.

والفاحص المدقق: يجد أن تيار الفكر الحضاري الإنساني، يتخذ طابعا واحدا، لا ينحو كثيرا عن تاريخ الإنسان ذاته.  فالحضارات والثقافات المختلفة، تتفاعل مع بعضها.  فتنتج للإنسان ما يشبع حاجته الفكرية والمادية. . وبذا فإن الحضارات الإنسانية على مر العصور، تكون كلا متماسكا. يترابط بنيانه العضوي، كحلقات السلسلة الواحدة، التي لا تنفصم الواحدة منها عن الأخرى. .

ولا يمكن أن تكون كل حضارة نشأت بمعزل عن غيرها من الحضارات الأخرى.  أو أنها لم تتفاعل معها.  ونظرتنا الأساسية تقوم على أن الحضارات تأخذ وتعطي.  تأخذ ما يتفق مع طبيعة البنيان  العقلي والفكري للأمة.  وتعطي ما تجود به  نوعيتها ونشاطها الفعال.  وبطبيعة الحال، فإن هذا التفسير أقرب إلى فهم روح الفكر، والنشاط الإنساني المتصل، الذي بدأ تاريخه ومسيرته مع بداية الإنسان على هذه الأرض.

ولا يخفى أن النشاط العقلي، والإنتاج الحضاري، لا بد وأن يستند إلى أدلة ملموسة، والأدلة  في هذه الحالة، إما مادية مثل النقوش والمعابد، والآثار والمنشآت، وكل شكل الإنتاج التكنولوجي.  وإما فكرية مثل الوثائق، والمؤلفات، والكتب، والنظريات العلمية، والآراء المدونة كتابة.

أما  فيما يتصل بالأدلة المادية، فإنها ميدان اهتمام التاريخ وباحثيه، وعلماء الآثار، ودارسيها.  فدراسة هؤلاء تفسير الحضارة الإنسانية بالأدلة المادية، التي تميز حضارة من الحضارات عن غيرها.  على حين أن الفلاسفة ومؤرخي العلم، يهتمون بصورة أساسية بالنشاط الفكري، والنظريات والآراء، وتطور الأفكار، التي يقومون على تحليلها ونقدها، ثم محاولة تفسيرها من خلال عملية التركيب المنطقي، للوقوف على الفلسفة الكامنة في باطن الفكرة ذاتها.

الحـــوار الحـضــاري :

إن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض.  قال تعالى: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة )(البقرة:30)

وقد فضل الله الإنسان وكرمه. كما وضح ذلك في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ً)(الإسراء:70)

وهذه الكرامة التي اختص الله بها الإنسان ذات أبعاد مختلفة.  فهي حماية إلهية للإنسان، تنطوي على احترام حريته، وعقله، وفكره، وإرادته.

وهذه الكرامة تعني في النهاية، الحرية الحقيقية، وهي تلك الحرية الواعية المسؤولة التي تدرك أهمية تحملها أمانة التكليف والمسؤولية.  التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان )(الأحزاب:72)

وإذا كان الله قد اختص الإنسان بالتكريم، وجعله مكلفا ومسؤولاً، فإنه من ناحية أخرى قد خلق له هذا الكون، بما فيه، ليمارس فيه نشاطاته المادية، والروحية على السواء.

يقول الله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )(الجاثية:13)

والتفكير الذي تنص عليه الآية  هنا أمر جوهري لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان.

فإنه إذا كان الله قد سخر للإنسان هذا الكون.  فلا يجوز له أن يقف منه موقف الامبالاة، بل ينبغي عليه أن يتخذ لنفسه منه موقفا إيجابياً، وإيجابيته تتمثل في درسه ، والنظر فيه، للاستفادة منه، بما يعود على البشرية بالخير.

والاستفادة من كل المسخرات في هذا الكون، لا تكون إلا بالعلم والدراسة والفهم.

والنظر في ملكوت السماوات والأرض على هذا النحو، سيؤدي إلى الرقي المادي، وفي الوقت نفسه، إلى الرقي الروحي. والحضاري.

والحضارة الإسلامية هي عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها خلقياً، وعلمياً، وأدبياً، وفنياً، واجتماعياً، وفق منهج الله وشريعته.

وبناء على هذا المفهوم. فإن المجتمع الإسلامي، - وهو المجتمع الذي يطبق شريعة الله في كل جوانب الحياة - هو وحده المجتمع المتحضر. والمجتمع المتحضر هو الذي تكون القيم الإنسانية، والأخلاق الإنسانية التي يقوم عليها، هي السائدة فيه.  وهذه القيم هي التي تنمي خصائص إنسانية الإنسان، وهي التي تميزه عن غيره من المخلوقات.

وهذه القيم  إنما هي قيم إنسانية، ذات ميزان ثابت.  وهي مقررة في الشريعة الإسلامية منذ جاءت، وما على الإنسان إلا أن يمضي في بنائها وصيانتها في كل المجتمعات التي يقيمها، حضرية كانت أم بدوية؛ صناعية كانت، أم زراعية، فالمهم في كل الأحوال هو الارتقاء صعداً بالحقائق الإنسانية وحراستها من النكسة إلى الحيوانية التي تؤدي إلى التخلف.

إن الحضارة الإسلامية تقوم بهذه القيم، وبهذه الأخلاق، في كل مكان، وفي كل بيئة.  أما أشكالها وصورها المادية، فهي كثيرة ومتنوعة، لأنها في كل بيئة تستخدم المقدرات والمعطيات الموجودة بها فعلا، وتنميها وفقا لميزان الله الثابت،  وقيم الإنسان المقررة في شريعة الله.

فالإسلام حين يدخل المجتمعات البدائية ينشئ الحضارة المناسبة لهذا المجتمع.  وحين يدخل المجتمعات المتقدمة صناعيا أو زراعياً أو غير ذلك، فإنه يستخدم كل ما لديها من معطيات.  ويقيم حضارة  هذه المجتمعات مستفيدا مما لديها.

وإذا كان هذا هو مفهوم الحضارة الإسلامية، فإن التخلف الحقيقي -في مفهوم المجتمع الإسلامي المتحضر- هو تحويل منجزات العلم الهائلة إلى قوى باغية للتدمير والتسلط، وتسخير إمكانيات العلم غير المحدودة في نشر الفوضى والعادات غير الخلقية، بدلا من استخدامها في إعلاء القيم الإنسانية،  وفي خدمة الإنسان دون بغي أو ظلم أو تحكم أو إبادة.

إن مهمة العلم في مفهوم المجتمع الإسلامي المتحضر ليست قهر الطبيعة أو الانتصار عليها، بل التلطف مع الطبيعة، والجد في اكتشاف قوانين الله فيها.

وإذا كان هذا هو عمل الإسلام حينما ينشئ حضارة،  فإن هذه الحضارة التي دعا إليها الإسلام تتميز بأنها منفتحة الحدود الفكرية، والنفسية، والمادية.

والنصوص الإسلامية التي تعلن هذه الحقائق كثيرة. منها:

  عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ).

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالا فلسطه على هلكته في الحق: ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، يعلمها ).

 -و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الحكمة: الإصابة في غير النبوة ).

 -و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق بها ).

ويقول  ابن رشد: (إنّا ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجودات، واعتباراً لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان.  أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم.  فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم).

وسيراً في ضوء هذا المنهج الإسلامي وجدنا العصور الذهبية للمسلمين، تفتح صدورها لامتصاص المعرفة الإنسانية المادية التي خلفتها في الأمم والشعوب، وحضارات سالفة.

اللـــقــاء الحضـــاري:

اللقاء الحضاري الإسلامي، مع حضارات الأمم المختلفة، تم بناء على: أن العالم هو أقرب ما يكون إلى (منتدى) عالمي لحضارات متميزة، تشترك أممها في عضوية هذا المنتدى، ومن ثم فإن بينها ما هو (مشترك حضاري عام).  وأيضاً فإن هذه الأمم تتمايز حضارياً.  الأمر الذي يستدعي الحفاظ على الهويات الحضارية المتميزة، لا لمجرد الحفاظ عليها، رغم أهميته، إنما لأسباب وطنية، وعقدية، تلعب دورها، في إنهاض أمم كثيرة من كبوتها وتراجعها، لما لهذه الخصوصيات من قدرات على شحن شعوب هذه الأمم بالكبرياء المشروع، والطاقات المحركة، في معركة الإبداع، ولما للتعددية الحضارية من دور في إثراء مصادر العطاء العالمي.

والذين يعايشون حياة الشعوب والأمم ذات الحضارة الغنية، والتاريخ القديم، والتراث العريق، أو يغوصون في تراث هذه الأمم  وفلسفتها، ومذاهبها، وتقاليدها، وأعرافها، يدركون أن العالم الإنساني  به أمم متعددة ، تتميز كل منها بشخصيتها القومية، والحضارية المتميزة.

إن العناصر الخارجية ضرورة  حتمية، لا تستغني عنها أي حضارة، مهما سمت وارتفعت.  إنها تمتزج، لتكون وإياها صيغة جوهرية تختلف من تراث إلى آخر.  وهذه العناصر الخارجية، تأتي بطريق الاقتباس الإرادي المباشر المقصود.  والاقتباس  والنقل، عملة متداولة بين الشعوب  قاطبة، فكل حضارة أبدعت ونقلت وأخذت وأعطت، ولم توجد قط حضارة أبدعت ولم تنقل، فالنقل، ليس وباء وإنما هو غذاء، والاستعارة ليست عاراً، وإنما هي فخار.

فالتأثيرات الحضارية والاستعارات الثقافية والأفكار والآراء  والنظريات المتبادلة بين الأمم والشعوب، إنما هي ظاهرة صحية طبيعية سليمة، لا خطر فيها ولا خوف منها.

والعرب هم وارثو الحضارات القديمة، إذ لم يكونوا قبل الإسلام معزولين عن جيرانهم أصحاب الثقافات العريقة عزلة كاملة.  فقد انفردت الصحراء العربية بين صحاري العالم أجمع، بأنها أحيطت منذ القدم بأرقى حضارات العالم.

ففي الشمال ازدهرت حضارة ما بين النهرين، وحضارات الإغريق، والكنعانيين، والآراميين، وجزر بحر إيجه.

وفي الغرب ازدهرت حضارة المصريين القدماء، وفي الشرق كانت الحضارة الفارسية، ومن ورائها الحضارات الآسيوية الأخرى.  وفي الجنوب كانت حضارة اليمن.

وكانت القوافل العربية دائبة الحركة بين مراكز هذه الحضارات، عند أطراف الصحراء، تنقل البضائع والسلع، وكان لا بد أن تتحرك المعارف والثقافات مع السلع والبضائع، وأن تختلط هذه الثقافات، وتتزاوج في حركة بطيئة ولكنها ثابتة مستمرة.  وأن يؤدي كل ذلك إلى تصفية الأفكار والمعارف وتقدمها، تبعاً لهذا الاختلاط والتزاوج.

في هذا الجو جاء الإسلام .  إنه لم ينتشر في فراغ.  فالأمم التي صادفها أو اتصل بها، في حركة المد الكبيرة، أو تلك التي اعتنقته ودانت به، أمم عرفت حضارات شتى، وثقافات متنوعة، ومرت بتجارب روحية، وخبرات مادية متعددة.

وكان اختلاط العرب بهذه الأمم  اختلاط قتال وحروب ومعارك أولاً.  ثم اختلاط حضارة وثقافة وأفكار بعد ذلك .  ومن هنا كان التأثير والتأثر.  ومن هنا كان التفاعل والإخصاب، وكان الأخذ والعطاء، وتبادل الأفكار والآراء.

وبذلك عرف العرب حضارة الهند، وحكمة فارس، وفلسفة اليونان، واختلط المسلمون بأقوام تنوعت عقائدهم، وتشعبت آراؤهم.  والتقوا بمئات المفكرين والباحثين والمثقفين.  واتصلوا بأصناف من الأفراد والجماعات لا تدخل تحت حصر.  وشاع التزاوج والأصهار وتفاعلت العادات والتقاليد والآراء والأفكار والمذاهب والمواقف والعلاقات. وجاءت وحدة الدين لتعطي هذا التفاعل صيغة فريدة.  ونتج عن ذلك كله تمازج فكري واجتماعي وروحي جديد، أعطى الحضارة الإسلامية  معناها ومبناها.

وكلما ذهبنا نبحث في حضارات الأمم ، وجدنا أن اللقاء والتفاعل الحضاري، الذي عرفه التاريخ بين الحضارات العريقة المالكة لما هو (مشترك) ولما هو (خاص) قد تم وفق: أن هناك (ما هو مشترك إنساني عام) وهناك ما هو خاص.

فالتقاء الحضارات -وهو مَعْلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية، وتفاعل هذه الحضارات عندما تلتقي- هو قدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبه، لكنه تم دائما وأبداً، وفق هذا القانون الحاكم:  التمييز بين ما هو مشترك إنساني عام، تفتح له الأبواب والنوافذ، بل ويطلبه العقلاء، ويجدون السعي في تحصيله، وبين ما هو خصوصية حضارية. يدققون -في حذر- قبل استلهامه وتمثله.  ويعرضونه على معايير حضارتهم، لفرز ما يقبل  منه ويتمثل، من ذلك الذي يرفضونه، لما فيه من تناقض مع هويتهم الحضارية وقيمهم الإعتقادية.

ولقد اختلط الأوروبيون بمن هم أرقى منهم، فاستفادوا من الحضارة الإسلامية، فساعد هذا على قيام النهضة الأوروبية الحديثة.

إن أوروبا استطاعت أن تتفاعل مع الحضارة الإسلامية، وتأخذ عنها، وتستفيد منها، فيما هو (مشترك إنساني عام). . أما ما كان من خصوصية للحضارة الإسلامية، فقد رفضها الغرب.

لقد أقبل الغرب بنهم على امتلاك رصيد الحضارة الإسلامية من العلوم الطبيعية، علوم المادة وظواهرها، وخصائصها. . وعلوم التمدن المدني والعلمي، مثل علوم الطب، والصيدلة، وقواعد النظافة العامة والخاصة، وعلوم الزراعة، والنباتات، والحيوان،  وفنون وعلوم الحرف والصناعات، والتجارة، والمواصلات، ووسائل الاتصال، وفنون القتال، واستخدامات الحرب، وطبقات الأرض وأنواعها، والمعادن، والبصريات، والمناظر، والكيمياء، والفلك، والرياضيات، من جبر وهندسة وحساب، والجغرافيا، والرحلات، وعلوم البحار، والملاحة فيها. . وغير ذلك من علوم وفنون.

لقد أخذ الغرب، من الحضارة الإسلامية، ما هو (مشترك إنساني عام) وترك من الحضارة الإسلامية، ما هو خصوصية حضارية إسلامية.

(لقد أجمعت تيارات فكر النهضة الغربية، على رفض أبرز خصائص الحضارة الإسلامية.  وهي خصيصة (التوحيد) وخصيصة  (الوسطية) وخصائص أخرى كثيرة تتصل بالإسلام، وعقائده.

ورفض الغرب لهذه الخصائص الإسلامية، هو الذي ميّز الحضارة الغربية بطابعها المميز: الطابع المادي.

 - فالحضارة الإسلامية قامت بعملية (توفيق) ما بين الحكمة والشريعة، ولكن الحضارة الغربية تميزت بإخراج الدين من إطار العقل، كما أخرجت الدنيا والدولة وعلوم التمدن من إطار الدين.

 - والحضارة الإسلامية ربطت بين الدين والدولة، والحاكم والمحكوم، والحضارة الغربية فصلت بين الدين والدولة في خصوصية حضارية فكانت العلمانية.

(لقد أجمعت تيارات فكر النهضة الغربية، على رفض أبرز خصائص الحضارة الإسلامية.  وهي خصيصة (التوحيد) وخصيصة (الوسطية) وخصائص أخرى كثيرة تتصل بالإسلام، وعقائده.

ورفض الغرب لهذه الخصائص الإسلامية، هو الذي ميز الحضارة الغربية بطابعها المميز: الطابع المادي.

 - فالحضارة الإسلامية قامت بعملية (توفيق) ما بين الحكمة والشريعة، ولكن الحضارة الغربية تميزت بإخراج الدين من إطار العقل، كما أخرجت الدنيا والدولة وعلوم التمدن من إطار الدين.

 - والحضارة الإسلامية ربطت بين الدين والدولة، والحاكم والمحكوم، والحضارة الغربية فصلت بين الدين والدولة في خصوصية حضارية فكانت العلمانية.

 - الحضارة الإسلامية وفقت بين الفرد والمجموع في ربط متناسق، أما الحضارة الغربية فقد انحازت للفرد في (ليبرالية) واضحة.

 - والحضارة الإسلامية ربطت الأعمال بالحكمة منها.  والوسائل بأخلاقيات الغايات المبتغاة من ورائها.  أما الحضارة الغربية، فكان اهتمامها قائماً على اللذة والشهوة واللحظة.  وكانت  سياسة الحضارة الغربية تعني (بالميكيافيلية) (فن الممكن من الواقع بصرف النظر عن الأخلاق).

 - الحضارة الإسلامية وازنت بين سيادة الله وحاكميته، وبين سلطان الأمة وسلطاتها، في حين كانت الحضارة الغربية،  تقوم على أن الإنسان سيد الكون، يفعل ما يشاء.

إذن وبكل تأكيد: هناك ما هو (مشترك إنساني عام) تأخذه الحضارات من بعضها وتساهم فيه كل حضارة بالعطاء المتجدد، الذي يزيده قوة وفائدة.

وهناك ما هو خصوصية حضارية، لا تقبل الحضارات الآخذة أن يكون ضمن المأخوذ، ونجد ذلك واضحاً في أعمال أوروبا الناهضة، فحينما ترجمت أعمال الفيلسوف المسلم ابن رشد، أخذت من هذه الأعمال ما يتصل بالفلسفة اليونانية، ورفضت أخذ  ما هو خصوصية حضارية إسلامية.

فالرشيدة اللاتينية التي أخذتها أوروبا هي شروح ابن رشد على أرسطو حكيم اليونان، أما إبداع ابن رشد الفيلسوف المسلم، والمتكلم والقاضي، والفقيه، والذي تمثل في مؤلفاته: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) و (تهافت التهافت) و (مناهج الأدلة)، فقد رفضته أوروبا رفضاً تاماً.

يقول الفريد جيوم: (إن علينا أن نضع حداً فاصلاً بين  ابن رشد كفيلسوف،  وابن رشد كشارح لأرسطو).

وإذا كانت الحضارة الغربية قد رفضت منذ البداية الرشدية الإسلامية ؛  كما تمثلت في مؤلفات ابن رشد الإبداعية، فإن الحضارة الغربية، قد فصلت أيضاً إضافات ابن رشد التي تخللت شروحه على أعمال أرسطو.  ونهض بهذه المهمة القديس توما الاكويني (1225-1274م) ولذا نرى الجامعات الغربية تتبنى أرسطوا في ذات الوقت الذي تحرم فيه فكر ابن رشد، وتحكم بالكفر على مائتين وتسع عشرة مسألة، تمثل إضافات ابن رشد على الشروح التي قدمها لأعمال حكيم اليونان.

ومما لا يحتاج إلى بيان، أنه كلما استلهمت الحضارات (ما هو مشترك إنساني عام) كلما تقدمت الحضارات واستفادت وازدهرت، وانتشر الأمن.

التـفـاعـل الحــضـاري

والتفاعل الحضاري ضرورة إنسانية، لا بد منها لقيام الحضارات، وتقدم الإنسان،  في كل ما من شأنه أن يأخذ بيد الإنسان، ويشيع في المجتمعات الإنسانية السلام والأمن.

أما الانغلاق الحضاري، فهو قاتل للإنسان. والتبعية الحضارية هي الأخرى قاتلة لكل إبداع، ولا بد من حوار الحضارات.  وإذا تأملنا في حال الأمة الإسلامية  وجدنا أنها -من وجهة نظرنا- محاصرة بين غربتين : غربة زمان ، وغربة مكان.

أما غربة الزمان، فهي بُعْد الأمة عن ماض حضاري مشرق، لم تعد تربطها به عوامل الثقافة الفاعلة أو البانية.

وأما غربة المكان، فهي بعد الأمة عن وضع حضاري معاصر.   تجهل عنه كل شيء.  مما مثل فجوات حضارية كبرى، ليس من السهل على الأمة الإسلامية  تجاوزها أو تجاهلها.

ولذلك كان لا بد لهذه الأمة، أن تعود إلى التفاعل الحضاري، وتستفيد من حضارات الإنسانية. ولا بد من خروج الأمة الإسلامية، من الاغتراب الزماني، والاغتراب المكاني، وذلك بالربط بين الواقع والثوابت الحضارة الإسلامية، وبين مصادر عوامل التقدم المعاصر.

وليس هناك من وسيلة للربط غير الدين، والعلم، والحياة، في إطار من حرية الفكر، وسياسة عقلانية للتقدم، وتسامح مستنير فإن فعلت الأمة ذلك، كان ذلك بداية في طريق حضاري.

والتقدم البشري في مختلف المراحل والمجالات، ليس إلا حصيلة الإبداع الفكري والتعاون، والاحتكاك بين المجتمعات.

ولا عيب أن نأخذ من حضارات الأمم ما يفيدنا.  ولكن العيب أن نظل عالة على أمم الأرض، نأخذ منها ولا نعطي..

ويجدر أن ندرك أن الانغلاق ليس بالموقف اللائق بالعقلاء. ولا التبعية الحضارية بمفيدة، أو ملائمة لمن يمتلكون خصوصية حضارية إسلامية.

والعزلة الحضارية والجهل صنوان. كلاهما تخلف، وكلاهما حجاب يمنع وصول الضوء، وكلاهما عقبة كأداء في طريق التطور والتقدم.

ويكاد يكون مؤكداً، أنه لا توجد حضارة قامت بذاتها، واكتفت بذاتها مستغنية عن غيرها.  وإنما هي نتيجة تطور حضاري دائم، وتفاعل بين حضارات أخرى، تفاعلت هي بدورها وغيرها من الحضارات في الزمان والمكان.

والنمو الحضاري إنما يعتمد على التجارب الحضارية الأخرى.  وكلما ازدادت فرص الالتقاء والتفاعل بين الحضارات، ازدادت فرص الحياة والنمو والاكتساب والتعلم.

والأمة الإسلامية وهي تتطلع إلى مستقبل مشرق، لا بد وأن تخوض معركة بناء الذات وتجديدها، مسوقة بقيم وأفكار ومواريث لها في وعيها فاعليتها القوية.

ولا يخفى أن الأمة الإسلامية تملك رصيداً ضخما من القيم الهادفة وتوجيهات الإسلام وهذه القيم كفيلة عند استثمارها، بأن تجعل الأمة الإسلامية في وضع، يسمح  لها بأن تنمي فلسفتها الحضارية الإنسانية،  وتتسابق مع أمم الأرض في بناء حضارة إنسانية.  ومما هو معروف أنه ليس كل عمل يصدر من الإنسان يسهم في الحضارة الإنسانية.  وإنما ذلك العمل الذي ينمي الحضارة، وينطلق من الإنسان للإنسان.

 
 
 

يتبع لطفا"