نوح
عليه
السلام
في البداية، تصور الكفرة
يومها أن دعوة نوح لا تلبث أن تنطفئ وحدها، فلما وجدوا الدعوة تجتذب الفقراء
والضعفاء وأهل الصناعات البسيطة بدءوا الهجوم على نوح من هذه الناحية.
هاجموه في
اتباعه، وقالوا له: لم يتبعك غير الفقراء والضعفاء والأراذل.
قال تعالى في سورة
(هود):
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
(25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
(26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن
قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ
الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن
فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
هكذا اندلع الصراع بين
نوح ورؤساء قومه.
ولجأ الذين كفروا إلى المساومة.
قالوا لنوح: اسمع يا نوح.
إذا
أردت أن نؤمن لك فاطرد الذين آمنوا بك.
إنهم ضعفاء وفقراء، ونحن سادة القوم
وأغنياؤهم.. ويستحيل أن تضمنا دعوة واحدة مع هؤلاء.
واستمع نوح إلى كفار قومه
وأدرك أنهم يعاندون، ورغم ذلك كان طيبا في رده.
أفهم قومه أنه لا يستطيع أن يطرد
المؤمنين، لأنهم أولا ليسوا ضيوفه، إنما هم ضيوف الله.. وليست الرحمة بيته الذي
يدخل فيه من يشاء أو يطرد منه من يشاء، إنما الرحمة بيت الله الذي يستقبل فيه من
يشاء.
قال تعالى في سورة (هود):
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ
الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا
تَجْهَلُونَ (29) وَيَا
قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
(30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ
عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ
وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا
اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ
الظَّالِمِينَ
كان نوح يناقش كل حجج
الكافرين بمنطق النبي الكريم الوجيه.
وهو منطق الفكر الذي يجرد نفسه من الكبرياء الشخصي وهوى المصالح
الخاصة.
قال لهم إن الله قد آتاه
الرسالة والنبوة والرحمة.
ولم يروا هم ما آتاه الله، وهو بالتالي لا يجبرهم على
الإيمان برسالته وهم كارهون.
إن كلمة لا إله إلا الله لا تفرض على أحد من البشر.
أفهمهم أنه لا يطلب منهم مقابلا لدعوته، لا يطلب منهم مالا فيثقل عليهم، إن أجره
على الله، هو الذي يعطيه ثوابه. أفهمهم أنه لا يستطيع أن يطرد الذين آمنوا بالله،
وأن له حدوده كنبي.
وحدوده لا تعطيه حق طرد المؤمنين لسببين: أنهم سيلقون الله
مؤمنين به فكيف يطرد مؤمنا بالله؟
ثم أنه لو طردهم لخاصموه عند الله وهذا يستتبع أن
يثبتهم الله على إيمانهم، ويجازي من طردهم، فمن الذي ينصر نوحا من الله لو طردهم؟
وهكذا انتهى نوح إلى أن مطالبة قومه له بطرد المؤمنين جهل منهم.
وعاد نوح يقول لهم أنه لا
يدعى لنفسه أكثر مما له من حق، وأخبرهم بتذللـه وتواضعه لله عز وجل، فهو لا يدعي
لنفسه ما ليس له من خزائن الله، وهي إنعامه على من يشاء من عباده، وهو لا يعلم
الغيب، لأن الغيب علم اختص الله تعالى وحده به.
أخبرهم أيضا أنه ليس ملكا. بمعنى أن
منزلته ليست كمنزلة الملائكة.. وقد استدل بعض العلماء من هذه الآية على أن الملائكة
أفضل من الأنبياء (انظر تفسير القرطبي).
قال لهم نوح: إن الذين تزدري أعينكم وتحتقر
وتستثقل.. إن هؤلاء المؤمنين الذي تحتقرونهم لن تبطل أجورهم وتضيع لاحتقاركم لهم،
الله أعلم بما في أنفسهم.
هو الذي يجازيهم عليه ويؤاخذهم به.. أظلم نفسي لو قلت إن
الله لن يؤتيهم خيرا.
وسئم الملأ يومها من هذا
الجدل الذي يجادله نوح.. حكى الله موقفهم منه في سورة (هود):
قَالُواْ
يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا
إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ
إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
(33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ
أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
أضاف نوح إغواءهم إلى
الله تعالى. تسليما بأن الله هو الفاعل في كل حال.
غير أنهم استحقوا الضلال بموقفهم
الاختياري وملئ حريتهم وكامل إرادتهم.. وقديما قال إبليس عليه لعنة
الله:
قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
وينصرف معنى العبارة
الظاهري إلى أن الله تعالى هو الذي أغواه.. والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى أعطاه
حريته ثم حاسبه عليها، ونحن لا نرى رأي القدرية والمعتزلة والإمامية.
أنهم يرون إن
إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم
خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه.
لا نرى رأيهم هذا
بإطلاقه.
إنما نرى إن الإنسان صانع لأفعاله ولكنه محتاج في صدورها عنه إلى ربه.
بهذه النظرة يستقيم معنى مساءلة الإنسان عن أفعاله.
كل ما في الأمر أن الله ييسر كل
مخلوق لما خلق له، سواء أكان التيسير إلى الخير أم إلى الشر.. وهذا من تمام الحرية
وكمالها.
يختار الإنسان بحريته فييسر له الله تعالى طريق ما اختاره.
اختار إبليس
طريق الغواية فيسر الله له طريق الغواية.
واختار كفار قوم نوح نفس الطريق فيسره
الله لهم.
وتستمر المعركة، وتطول
المناقشة بين الكافرين من قوم نوح وبينه إذا انهارت كل حجج الكافرين ولم يعد لديهم
ما يقال، بدءوا يخرجون عن حدود الأدب ويشتمون نبي الله:
قَالَ
الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
ورد عليهم نوح بأدب
الأنبياء العظيم:
قَالَ يَا
قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ
(61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي
وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
ويستمر نوح في دعوة قومه
إلى الله.
ساعة بعد ساعة. ويوما بعد يوم.
وعاما بعد عام.
ومرت الأعوام ونوح يدعو
قومه.
كان يدعوهم ليلا ونهارا، وسرا وجهرا، يضرب لهم الأمثال. ويشرح لهم الآيات
ويبين لهم قدرة الله في الكائنات، وكلما دعاهم إلى الله فروا منه، وكلما دعاهم
ليغفر الله لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا عن سماع الحق.
حكى الله تعالى ما لقيه
نوح في سورة (نوح):
فَلَمْ
يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا
(6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا
(8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ
لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا
(10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا
(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا
ماذا كان جواب قومه بعد
هذا كله؟
قَالَ
نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا
(22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا
تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
(23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا
واستمر نوح يدعو قومه إلى
الله ألف سنة إلا خمسين عاما.
قال تعالى في سورة (العنكبوت):
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
|