يوسف عليه السلام
المشهد
الأخير من الفصل الأول من حياة سيدنا يوسف عليه السلام:
وَجَاءتْ
سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا
غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
أثناء وجود يوسف
بالبئر، مرت عليه قافلة.. قافلة في طريقها إلى مصر.. قافلة كبيرة.. سارت طويلا
حتى سميت سيارة.. كلها تتجه إلى البئر.. توقفوا للتزود بالماء.. أدلى الدلو في
البئر.. تعلق يوسف به.. ظن من دلاه أنه امتلأ بالماء فسحبه.. يا للبشرى! هذا غلام..
حكمه حكم الأشياء المفقودة التي يلتقطها أحد.. يصير عبدا لمن التقطه.. هكذا كان
قانون ذلك الزمان البعيد.
فرح به من وجده في
البداية، ثم زهد فيه حين فكر في همه ومسئوليته، وزهد فيه لأنه وجده صبيا صغيرا..
وعول على التخلص منه لدى وصوله إلى مصر.. ولم يكد يصل إلى مصر حتى باعه في سوق
الرقيق بثمن بخس دراهم معدودة. ومن هناك اشتراه رجل تبدو عليه
الأهمية.
انتهت المحنة الأولى في حياة هذا النبي
الكريم، لتبدأ المحنة الثانية، والفصل الثاني من حياته.
وَقَالَ
الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن
يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ
وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
انظر كيف يكشف الله تعالى
مضمون القصة البعيد في بدايتها (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). لقد انطبقت جدران العبودية على يوسف. ألقي في البئر، أهين، حرم من
أبيه، التقط من البئر، صار عبدا يباع في الأسواق، اشتراه رجل من مصر، صار مملوكا
لهذا الرجل.. انطبقت المأساة، وصار يوسف بلا حول ولا قوة.. هكذا يظن أي إنسان.. غير
أن الحقيقة شيء يختلف عن الظن تماما.
ما نتصور نحن أنه مأساة
ومحنة وفتنة.. كان هو أول سلم يصعده يوسف في طريقه إلى مجده.. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) .. ينفذ تدبيره رغم تدبير
الآخرين. ينفذ من خلاله تدبير
الآخرين فيفسده ويتحقق وعد الله، وقد وعد الله يوسف بالنبوة.
وها هو ذا يلقي محبته على
صاحبه الذي اشتراه.. وها هو ذا السيد يقول لزوجته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو
نتخذه ولدا. وليس هذا السيد رجلا هين الشأن.. إنما هو رجل مهم.. رجل من الطبقة
الحاكمة في مصر.. سنعلم بعد قليل أنه وزير من وزراء الملك. وزير خطير سماه القرآن
"العزيز"، وكان قدماء المصريين يطلقون الصفات كأسماء على الوزراء. فهذا العزيز..
وهذا العادل.. وهذا القوي.. إلى آخره.. وأرجح الآراء أن العزيز هو رئيس وزراء
مصر.
وهكذا مكن الله ليوسف في
الأرض.. سيتربى كصبي في بيت رجل يحكم. وسيعلمه الله من تأويل الأحاديث والرؤى..
وسيحتاج إليه الملك في مصر يوما. (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). تم هذا كله من
خلال فتنة قاسية تعرض لها يوسف.
ثم يبين لنا المولى عز
وجل كرمه على يوسف فيقول:
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
كان يوسف أجمل رجل في
عصره.. كان وجهه يحمل طاقة من الجمال البشري المدهش.. وكان نقاء أعماقه وصفاء
سريرته يضفيان على وجهه مزيدا من الجمال. وأوتي صحة الحكم على الأمور.. وأوتي علما
بالحياة وأحوالها. وأوتي أسلوبا في الحوار يخضع قلب من يستمع إليه.. وأوتي نبلا
وعفة، جعلاه شخصية إنسانية لا تقاوم.
وأدرك سيده أن الله قد
أكرمه بإرسال يوسف إليه.. اكتشف أن يوسف أكثر من رأى في حياته أمانة واستقامة
وشهامة وكرما.. وجعله سيده مسئولا عن بيته وأكرمه وعامله كابنه.
|