يوسف عليه السلام
ويبدأ فصل
جديد من فصول حياة يوسف عليه السلام:
وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ
إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
(56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
بعد ما رأى الملك من أمر يوسف. براءته، وعلمه، وعدم تهافته
على الملك. عرف أنه أمام رجل كريم، فلم يطلبه ليشكره أو يثني عليه، وإنما طلبه
ليكون مستشاره. وعندما جلس معه وكلمه، تحقق له صدق ما توسمه فيه. فطمئنه على أنه ذو
مكانه وفي أمان عنده. فماذا قال يوسف؟
لم يسجل شكرا للملك، ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك
الخاضع أو خادمك الأمين، كما يفعل المتملقون للطواغيت؛ كلا إنما طالب بما يعتقد أنه
قادر على أن ينهض به من الأعباء في الازمة القادمة.
كما وأورد القرطبي في
تفسيره. أن الملك قال فيما قاله: لو جمعت أهل مصر ما أطاقوا هذا الأمر.. ولم يكونوا فيه
أمناء.
كان الملك يقصد الطبقة
الحاكمة وما حولها من طبقات.. إن العثور على الأمانة في الطبقة المترفة شديد
الصعوبة
اعتراف الملك ليوسف بهذه
الحقيقة زاد من عزمه على تولي هذا الامر، لأنقاذ مصر وما حولها من البلاد من هذه
المجاعة.. قال يوسف: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). لم يكن يوسف في كلمته يقصد النفع أو الاستفادة.
على العكس من ذلك. كان يحتمل أمانة إطعام شعوب جائعة لمدة سبع سنوات.. شعوب يمكن أن
تمزق حكامها لو جاعت.. كان الموضوع في حقيقته تضحية من يوسف.
لا يثبت السياق القرآني
أن الملك وافق.. فكأنما يقول القرآن الكريم إن الطلب تضمن الموافقة.. زيادة في
تكريم يوسف، وإظهار مكانته عند الملك.. يكفي أن يقول ليجاب.. بل ليكون قوله هو
الجواب، ومن ثم يحذف رد الملك.. ويفهمنا شريط الصور المعروضة أن يوسف قد صار في
المكان الذي اقترحه
وهكذا مكن الله ليوسف في
الأرض.. صار مسؤولا عن خزائن مصر واقتصادها.. صار كبيرا للوزراء.. وجاء في رواية أن الملك قال ليوسف: يا يوسف ليس لي من الحكم إلا
الكرسي.. ولا ينبئنا السياق القرآني كيف تصرف في مصر.. نعرف أنه حكيم عليم..
نعرف أنه أمين وصادق.. لا خوف إذا على اقتصاد مصر.
دارت عجلة الزمن.. طوى
السياق دورتها، ومر مرورا سريعا على سنوات الرخاء، وجاءت سنوات المجاعة.. وهنا يغفل
السياق القرآني ذكر الملك والوزراء.. كأن الأمر كله قد صار ليوسف.
المشهد
الثاني من هذا الفصل:
لا يذكر القرآن لنا أن
المجاعة بدأت.. لا يصف لنا بدؤها، إنما يعرض لمشهد أخوة يوسف وقد جاءوا من فلسطين
لابتياع طعام من مصر.
وَجَاء
إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
(58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ
قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ
عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ
سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ
فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
قيل أن يوسف -عليه
السلام- كان يعطي كل فرد في الفترة الواحدة حمل بعير. لم يكن كل من يملك الشراء
يشتري المقادير التي يستطيع شرائها لخزنها ويموت الآخرون. وكان قصد يوسف أن يوازن
بين حاجات المحتاجين والزمن الطويل الذي يضطلع فيه بالتموين.
جاء أخوة يوسف من
الصحراء.. جاءوا يبتاعون طعاما من مصر.
عرف يوسف اخوته على
الفور.. ولم يعرفوه هم.. يستحيل أن يعبر طيف يوسف أفكارهم الآن.. لقد تخلصوا منه من
زمان بعيد.. وضاق بهم الحال فجاءوا من فلسطين يبحثون عن الطعام في مصر.. وأجرى يوسف
حواره مع إخوته، بغير أن يكشف لهم عن نفسه.
كان عدد الأخوة عشرة..
وكان معهم أحد عشر بعيرا.
سألهم يوسف
-مستخدما أحد المترجمين- لكي لا يتحدث لغته العبرانية: نظامنا يقضي بإعطاء كل
إنسان قدر بعير من الطعام.. كم عددكم؟ قالوا: نحن أحد
عشر. قال يوسف للترجمان قل لهم: لغتكم مخالفة للغتنا.. وزيكم يخالف
زينا.. فلعلكم جواسيس. قالوا: والله ما نحن بجواسيس.. بل
نحن بنو أب واحد.. شيخ طيب. سأل يوسف: قلتم أن عددكم أحد عشر.. ولكنكم
عشرة..؟ قالوا: كنا أثني عشر أخا.. هلك لنا أخ في البرية..
ولنا أخ آخر يحبه أبونا، ولا يستطيع أن يصبر على فراقه.. جئنا ببعيره بدلا
منه. قال يوسف: كيف أتأكد من صدقكم؟ قالوا: اختر
شيئا تسكن إليه نفسك. قال يوسف: يقضي النظام ألا نصرف لأحد غير موجود..
ائتوني بأخيكم لأصرف له طعامه.. (أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي
الْكَيْلَ)...؟
استمر الحوار بين أخوة
يوسف ويوسف.. أفهمهم يوسف أنه سيستثنيهم هذه المرة.. فإذا جاءوا في المرة القادمة
بغير أخيهم فلن يصرف لهم.. قالوا له سنحاول إقناع والده بأن يتركه
معنا.
انتهى هذا المشهد في مصر،
ليبدء مشهد أخر في أرض كنعان.
|