يوسف عليه السلام
المشهد
السابع:
تحركت القافلة في طريقها
إلى مصر.. إخوة يوسف في طريقهم إلى العزيز.. تدهور حالهم الاقتصادي وحالهم النفسي..
إن فقرهم وحزن أبيهم ومحاصرة المتاعب لهم، قد هدت قواهم تماما.. ها هم أولاء يدخلون
على يوسف.. معهم بضاعة رديئة.. جاءوا بثمن لا يتيح لهم شراء شيء ذي بال.. قال
تعالى:
فَلَمَّا
دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا
الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ
عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ
انتهى الأمر بهم إلى
التسول.. إنهم يسألونه أن يتصدق عليهم.. ويستميلون قلبه، بتذكيره أن الله يجزي
المتصدقين.
عندئذ.. وسط هوانهم
وانحدار حالهم.. حدثهم يوسف بلغتهم، بغير واسطة ولا مترجم:
قَالَ
هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
(89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ
يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ
مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
(90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ
اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ
يكاد الحوار يتحرك بأدق
تعبير عن مشاعرهم الداخلية.. فاجأهم عزيز مصر بسؤالهم عما فعلوه بيوسف.. كان يتحدث
بلغتهم فأدركوا أنه يوسف.. وراح الحوار يمضي فيكشف لهم خطيئتهم معه.. لقد قالوا له
وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
مرت السنوات، وذهب كيدهم
له.. ونفذ تدبير الله المحكم الذي يقع بأعجب الأسباب.. كان إلقاؤه في البئر هو
بداية صعوده إلى السلطة والحكم.. وكان إبعادهم له عن أبيه سببا في زيادة حب يعقوب
له. وها هو ذا يملك رقابهم وحياتهم، وهم يقفون في موقف استجداء عطفه.. إنهم
يختمون حوارهم معه بقولهم:
قَالُواْ
تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا
لَخَاطِئِينَ
إن روح الكلمات واعترافهم
بالخطأ يشيان بخوف مبهم غامض يجتاح نفوسهم.. ولعلهم فكروا في انتقامه منهم وارتعدت
فرائصهم.. ولعل يوسف أحس ذلك منهم فطمأنهم بقوله:
قَالَ لاَ
تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ
لا مؤاخذة، ولا لوم،
انتهى الأمر من نفسي وذابت جذوره.. لم يقل لهم إنني أسامحكم أو أغفر لكم، إنما دعا
الله أن يغفر لهم، وهذا يتضمن أنه عفا عنهم وتجاوز عفوه، ومضى بعد ذلك خطوات.. دعا
الله أن يغفر لهم.. وهو نبي ودعوته مستجابة.. وذلك تسامح نراه آية الآيات في
التسامح.
ها هو ذا يوسف ينهي حواره
معهم بنقلة مفاجئة لأبيه.. يعلم أن أباه قد ابيضت عيناه من الحزن عليه.. يعلم أنه
لم يعد يبصر.. لم يدر الحوار حول أبيه لكنه يعلم.. يحس قلبه.. خلع يوسف قميصه
وأعطاه لهم:
اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
وعادت القافلة إلى
فلسطين.
المشهد الثامن:
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ
إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن
تُفَنِّدُونِ
في فلسطين.. قال يعقوب
-عليه السلام- لمن حوله: إني أشم رائحة يوسف، لولا أنكم تقولون في أنفسكم أنني شيخ
خرِف لصدقتم ما أقول.
فرد عليه من حوله:
قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي
ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ
لكن المفاجأة البعيدة
تقع:
فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ
أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
هنا يذكر يعقوب حقيقة ما يعلمه من ربه:
قَالَ
أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
(96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ
لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
ونلمح هنا أن في قلب
يعقوب شيئا من بنيه، وأنه لم يصف لهم بعد، وإن كان يعدهم باستغفار الله لهم بعد أن
يصفو ويسكن ويستريح.
ها هو
المشهد الأخير في قصة يوسف:
بدأت قصته برؤيا.. وها هو
ذا الختام تأويل رؤياه:
فَلَمَّا
دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن
شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ
أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا
تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي
إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن
نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا
يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
تأمل الآن مشاعره ورؤياه
تتحقق.. إنه يدعو ربه:
رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
هي دعوة واحدة.. تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
لا نريد أن نترك قصة يوسف
الكريم ابن يعقوب الكريم، قبل أن نلاحظ هذه الملاحظة:
في قصة
سيدنا إبراهيم، ينزع الحب الغريزي من قلبه لابنه سيدنا إسماعيل، حتى يصير القلب
خالصا لله وحده.. فإذا تحقق الأمر يرفع أمر الذبح ويأتي الفداء.
وثمة
مماثلة في قلب سيدنا يعقوب.. بالنسبة لابنه يوسف، أحب يوسف فابتلي بضياعه، فلما صار
قلبه خالصا لله دون أغيار من يوسف وأخيه، رد الله إليه ولديه.
وثمة
مماثلة في قصة الإفك.. إذ ينزع ميل سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى السيدة
عائشة، رضي الله تعالى عنها، حتى يصير القلب خالصا لله دون أغيار.. بعدها تنزل
براءتها وتحتل مكانتها باسم الله.. بكلمة الله.
|