موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثالث
قاسى موسى من قومه أشد
المقاساة، وعانى عناء عظيما، واحتمل في تبليغهم رسالته ما احتمل في سبيل الله..
ولعل مشكلة موسى الأساسية أنه بعث إلى قوم طال عليهم العهد بالهوان والذل، وطال
بقاؤهم في جو يخلو من الحرية، وطال مكثهم وسط عبادة الأصنام، ولقد نجحت المؤثرات
العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة التي لا تصلح
لشيء.. إلا أن تعذب أنبيائها ومصلحيها..
وقد عذب بنو إسرائيل موسى
عذابا نستطيع - نحن أبناء هذا الزمان - أن ندرك وقعه على نفس موسى النقية الحساسة
الكريمة.
ولم يقتصر العذاب على العصيان والغباء واللجاجة والجهل وعبادة الأوثان،
وإنما تعدى الأمر إلى إيذاء موسى في شخصه..
قال تعالى في سورة
الأحزاب:
يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ
اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا
ونحن لا نعرف كنه هذا
الإيذاء، ونستبعد رواية العلماء التي يقولون فيها أن موسى كان رجلا حييا يستتر
دائما ولا يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بمرض جلدي أو برص،
فأراد الله أن يبرئه مما قالوا، فذهب يستحم يوما ووضع ثيابه على حجر، ثم خرج فإذا
الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى شاهده بنو إسرائيل عاريا وليس
بجلده عيب.. نستبعد هذه القصة لتفاهتها، فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملابسه،
لا تعطي موسى حقه من التوقير، وهي تتنافى مع عصمته كنبي..
ونعتقد أن اليهود آذوا
موسى إيذاء نفسيا، هذا هو الإيذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها حقا، ولا نعرف
كيف كان هذا الإيذاء، ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري الآثم الذي يستطيع بلوغه
بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى..
ولعل أعظم إيذاء لموسى،
كان نكول بني إسرائيل عن القتال من أجل نشر عقيدة التوحيد في الأرض، أو على أقل
تقدير، السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الأرض في مكان، وتأمن على نفسها، وتمارس
تعبدها في هدوء.. لقد رفض بنو إسرائيل القتال.. وقالوا لموسى كلمتهم
الشهيرة:
فَاذْهَبْ
أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ
وبهذه النفسية حكم الله
عليهم بالتيه.. وكان الحكم يحدد أربعين عاما كاملة، وقد مكث بنو إسرائيل في التيه
أربعين سنة، حتى فني جيل بأكمله.. فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل، وولد في
ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد.. جيل لم يتربى وسط مناخ وثني، ولم يشل روحه
انعدام الحرية.. جيل لم ينهزم من الداخل، جيل لم يعد يستطيع الأبناء فيه أن يفهموا
لماذا يطوف الآباء هكذا بغير هدف في تيه لا يبدو له أول ولا تستبين له نهاية.. إلا
خشية من لقاء العدو.. جيل صار مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه.. جيل لا
يقول لموسى
(فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا
هَاهُنَا قَاعِدُونَ)..
جيل آخر يتبنى قيم
الشجاعة العسكرية، كجزء مهم من نسيج أي ديانة من ديانات التوحيد.. أخيرا ولد هذا
الجيل وسط تيه الأربعين عاما..
ولقد قدر لموسى.. زيادة
في معاناته ورفعا لدرجته عند الله تعالى.. قدر له ألا تكتحل عيناه بمرأى هذا
الجيل.. فقد مات موسى عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل بنو إسرائيل الأرض التي كتب
الله عليهم دخولها.. قال الله تبارك وتعالى عن موسى في سورة مريم:
وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا
(51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ
الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ
هَارُونَ نَبِيًّا
وقال تعالى عنه في سورة
الأعراف بعد طلب رؤية الله:
قَالَ يَا
مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا
آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ
وقال عز وجل عنه في سورة
النساء:
وَرُسُلاً
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله: قد أوذي موسى بأكثر من ذلك
فصبر..
مات هارون قبل موسى بزمن
قصير.. واقترب أجل موسى، عليه الصلاة والسلام.. وكان لم يزل في التيه.. قال يدعو
ربه: رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر..
أحب أن يموت قريبا من
الأرض التي هاجر إليها.. وحث قومه عليها.. ولكنه لم يستطع، ومات في التيه.. ودفن
عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله في الأرض حين أسرى به..
قال محمد صلى الله
عليه وسلم: لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب
الأحمر..
تروي الأساطير عديدا من
الحكايات حول موت موسى، وتحكي أنه ضرب ملك الموت حين جاء يستل روحه، ففقأ عينه..
وأمثال هذه الخرافات كثيرة.. ومن المؤسف أن يتداولها علماء لهم احترامهم، وان كانوا
لا يميزون بين التراب والذهب، فهم يبدون كحاطب ليل يضم الغث إلى النفيس، ويكوم
الهراء على الحقائق حتى لتختفي الحقائق..
مات موسى عليه الصلاة
والسلام ميتة طيبة كريمة، أغلب الظن أنه اشتاق إلى رؤية الله عز وجل، وقد دفعه الحب
إلى طلبها في حياته، وها هي ذي فرصته تزيد بعد موته..
وإذن يتقبل كليم الله
موته بنفس راضية وقلب مطمئن وروح تهفو إلى الحق وتتعجل لقائه وتستبشر.. عليه الصلاة
والسلام..
|