موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثالث
التفت موسى إلى السامري
بعد حديثه القصير مع هارون.. لقد أثبت له هارون براءته كمسؤول عن قومه في غيبته،
كما سكت القوم ونكسوا رءوسهم أمام ثورة موسى، لم يبق إلا المسؤول الأول عن الفتنة..
لم يبق إلا السامري.
تحدث موسى إلى السامري
وغضبه لم يهدأ بعد:
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا
سَامِرِيُّ إنه يسأله عن قصته، ويريد أن يعرف منه ما الذي حمله على ما
صنع.. قال السامري:
بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا
بِهِ رأيت جبريل وهو يركب فرسه فلا تضع قدمها على شيء إلا دبت فيه
الحياة..
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ أخذت حفنة من التراب الذي سار عليه جبريل وألقيتها على
الذهب..
فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي
نَفْسِي هذا ما ساقتني نفسي إليه..
لم يناقش موسى، عليه
السلام السامري في ادعائه.. إنما قذف في وجهه حكم الحق.. ليس المهم أن يكون السامري
قد رأى جبريل، عليه السلام، فقبض قبضة من أثره.. ليس المهم أن يكون خوار العجل بسبب
هذا التراب الذي سار عليه فرس جبريل، أو يكون الخوار بسبب ثقب اصطنعه السامري ليخور
العجل.. المهم في الأمر كله جريمة السامري، وفتنته لقوم موسى، واستغلاله إعجاب
القوم الدفين بسادتهم المصريين، وتقليدهم لهم في عبادة الأوثان.. هذه هي الجريمة
التي حكم فيها موسى، عليه السلام، بحكمه المزدوج:
قَالَ
فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ
مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ
نَسْفًا
حكم موسى على السامري
بالوحدة في الدنيا.. يقول بعض المفسرين: إن موسى دعا على السامري بأن لا يمس أحدا،
معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه..ونعتقد أن الأمر أخطر
كثيرا من هذه النظرة السريعة.. إن السامري أراد بفتنته ضلال بني إسرائيل وجمعهم حول
عجله الوثني والسيادة عليهم، وقد جاءت عقوبته مساوية لجرمه، لقد حكم عليه بالنبذ
والوحدة.
هل مرض السامري مرضا جلديا بشعا صار الناس يأنفون من لمسه أو مجرد
الاقتراب منه؟
هل جاءه النبذ من خارج جسده؟
لا نعرف ماذا كان من أمر الأسلوب الذي
تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له.. كل ما نعرفه أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة،
كان أهون منها القتل، فقد عاش السامري منبوذا محتقرا لا يلمس شيئا ولا يمس أحدا ولا
يقترب منه مخلوق.. هذه هي عقوبته في الدنيا، ويوم القيامة له عقوبة ثانية، يبهمها
السياق لتجيء ظلالها في النفس أخطر وأرعب.
نهض موسى بعد فراغه من
السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار.. لم يكتف بصهره أمام عيون القوم
المبهوتين، وإنما نسفه في البحر نسفا.. تحول الإله المعبود أمام عيون المفتونين به
إلى رماد يتطاير في البحر.. ارتفع صوت موسى:
إِنَّمَا
إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْمًا
هذا هو إلهكم، وليس ذلك
الصنم الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا..
بعد أن نسف موسى الصنم،
وفرغ من الجاني الأصلي، التفت إلى قومه، وحكم في القضية كلها فأفهمهم أنهم ظلموا
أنفسهم وترك لعبدة العجل مجالا واحدا للتوبة.. وكان هذا المجال أن يقتل من اتبعوا
العجل أنفسهم..
قال
تعالى:
وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيم
كانت العقوبة التي قررها
موسى على عبدة العجل مهولة، وتتفق مع الجرم الأصلي. إن عبادة الأوثان إهدار لحياة
العقل وصحوته، وهي الصحوة التي تميز الإنسان عن غيره من البهائم والجمادات، وإزاء
هذا الإزهاق لصحوة العقل، تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجسد نفسه، فليس بعد العقل
للإنسان حياة يتميز بها.. ومن نوع الجرم جاءت العقوبة..
جاءت قاسية ثم رحم الله
تعالى وتاب..
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم
..
أخيرا..
سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ.
تأمل تعبير
القرآن الكريم الذي يصور الغضب في صورة كائن يقود تصرفات موسى، ابتداء من إلقائه
لألواح التوراة، وشده للحية أخيه ورأسه.
وانتهاء بنسف العجل في البحر، وحكمه بالقتل
على من اتخذوه ربا.
أخيرا سكت عن موسى الغضب.
زايله غضبه في الله، وذلك أرفع أنواع
الغضب وأجدرها بالاحترام والتوقير.. التفت موسى إلى مهمته الأصلية حين زايله غضبه
فتذكر أنه ألقى ألواح التوراة.. وعاد موسى يأخذ الألواح ويعاود دعوته إلى
الله.
|