البــدايـــة

القــرآن الكـريــم

الحديث النبوي الشريف

المكتبـه العـامـــه

المكتبـــة العـــامـــه

قصص الأنبيــاء(عليهم السلام)

 

يوسف عليه السلام

سقط الصمت بعد تعليق الإخوة الأخير.. ثم انمحى إحساسهم بالنجاة، وتذكروا يعقوب.. لقد أخذ عليهم عهدا غليظا، ألا يفرطوا في ابنه. وبدءوا استرحام يوسف: يوسف أيها العزيز.. يوسف أيها الملك.. إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ

قال يوسف بهدوء: كيف تريدون أن نترك من وجدنا كأس الملك عنده.. ونأخذ بدلا منه أنسانا آخر..؟ هذا ظلم.. ونحن لا نظلم.

كانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف. وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج أمام أبيهم حين يرجعون.

المشهد الخامس:

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

عقدوا مجلسا يتشاورون فيه. لكن السياق القرآني لا يذكر أقوالهم جميعا. إنما يثبت آخرها الذي يكشف عما انتهوا إليه. ذكر القرآن قول كبيرهم إذ ذكّرهم بالموثق المأخوذ عليهم، كما ذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل. ثم يبين قراره الجازم: ألا يبرح مصر، وألا يواجه أباه، إلا أن يأذن أبوه، أو يقضي الله له بحكم، فيخض له وينصاع. وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم فيخبروه صراحة بأن ابنه سرق، فأخذ بما سرق. ذلك ما علموه شهدوا به. أما إن كان بريئا، وكان هناك أمر وراء هذا الظاهر لا يعلمونه، فهم غير موكلين بالغيب. وإن كان في شك من قولهم فليسأل أهل القرية التي كانوا فيها -أي أهل مصر- وليسأل القافلة التي كانوا فيها، فهم لم يكونوا وحدهم، فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتأخذ الطعام.

المشهد السادس:

فعل الأبناء ما أمرهم به أخوهم الكبير، وحكوا ليعقوب -عليه السلام- ما حدث. استمع يعقوب إليهم وقال بحزن صابر، وعين دامعة:

بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) كلمته ذاتها يوم فقد يوسف.. لكنه في هذه المرة يضيف إليها الامل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه فيرد ابنه الآخر المتخلف هناك.

هذا الشعاع من أين جاء إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ إنه الرجاء في الله، والاتصال الوثيق به، والشعور بوجوده ورحمته. وهو مؤمن بأن الله يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات. ويأتي بكل امر في وقته المناسب، عندما تتحق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع. يحس أنه منفرد بهمه، وحيد بمصابه، لا تشاركه هذه القلوب التي حوله ولا تجاوبه، فينفرد في معزل، يندب فجيعته في ولده الحبيب يوسف. الذي لم ينسه، ولم تهوّن من مصيبته السنون، والذي تذكره به نكبته الجديدة في أخيه الأصغر فتغلبه على صبره الجميل: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ

أسلمه البكاء الطويل إلى فقد بصره.. أو ما يشبه فقد بصره. فصارت أمام عينيه غشاوة بسبب البكاء لا يمكن أن يرى بسببها.

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

والكظيم هو الحزين الذي لا يظهر حزنه. ولم يكن يعقوب -عليه السلام- يبكي أمام أحد.. كان بكاؤه شكوى إلى الله لا يعلمها إلا الله.

ثم لاحظ أبناؤه أنه لم يعد يبصر ورجحوا أنه يبكي على يوسف، وهاجموه في مشاعره الإنسانية كأب.. حذروه بأنه سيهلك نفسه:

قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

ردهم جواب يعقوب إلى حقيقة بكائه.. إنه يشكو همه إلى الله.. ويعلم من الله ما لا يعلمون.. فليتركوه في بكائه وليصرفوا همهم لشيء أجدى عليهم:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

إنه يكشف لهم في عمق أحزانه عن أمله في روح الله.. إنه يشعر بأن يوسف لم يمت كما أنبئوه.. لم يزل حيا، فليذهب الإخوة بحثا عنه.. وليكن دليلهم في البحث، هذا الأمل العميق في الله.