موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الأول
مكث يعقوب أو إسرائيل في
مصر مذ جاءها ليلتقي بابنه يوسف.. حتى إذا حضرته الوفاة دفنوه حيث ولد في فلسطين..
وفضل أبناء إسرائيل أن يعيشوا في مصر في ظل يوسف.. شدهم إلى الحياة في مصر خيرها
الكثير واستواء أرضها واعتدال المناخ.. عاش أبناء إسرائيل في مصر زمنا.. تزوجوا
وتكاثروا وزاد عددهم.. ومرت سنوات.. ومات يوسف.
كان يوسف قد حول مصر إلى
دين الإسلام أثناء حكمه.
كان يوسف عليه السلام، وكل أنبياء الله تعالى على الإسلام،
ابتداء من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وينصرف الإسلام هنا إلى معنى توحيد
الله بالعبادة والقصد والسؤال.
وإسلام الوجه والعمل والنية لله.
هذا ما نقصده من
كلمة الإسلام إذا أطلقت، ولا نقصد النظام الاجتماعي الذي جاء به خاتم الأنبياء محمد
صلى الله عليه وسلم.
فقد كان هذا النظام متقدما عن الأنظمة الاجتماعية التي جاء بها
الأنبياء، وان بقي جوهر العقيدة واحدا لا يختلف من آدم إلى محمد صلى الله عليه
وسلم.
وحين صار يوسف عزيزا لمصر
وكبيرا للوزراء فيها تحولت ديانة مصر إلى التوحيد والإسلام، لقد كان يدعو للإسلام
في سجنه بقوله:
أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ
ودعا يوم تحقيق رؤياه
بقوله:
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
وحين مات يوسف هجرت مصر
نظام التوحيد إلى تعدد الآلهة مرة أخرى.
وأغلب الظن أن هذا تم بكيد الطبقة الحاكمة
وتدبيرها، فقد كانت هذه الطبقة في ظل نظام التوحيد لا تكاد تتميز بشيء عن الجماهير
العريضة.. وكان من مصلحتها إذن أن يعود نظام الأرباب المتفرقون.. ويعود نظام
الفرعون الإله.. وهكذا توالت على مصر أسر من الفراعنة الذين زعموا أنهم آلهة أو
يمثلون الآلهة أو ينطقون باسمها.
والأصل في الشعب المصري
أنه شعب متحضر، يعنيه بناء الحضارة، ويملك وجدانا دينيا عميقا، وربما آمنت طبقات
عديدة من الشعب المصري أن الفرعون ليس إلها، غير أن إيمان المصريين الكامن في
أعماقهم لم يكن يعني الحاكم، طالما أنه لا يتحول إلى الظهور أو الثورة ويسفر عن
وجهه.
كان الفرعون لا يريد من قومه غير الطاعة.
ليؤمنوا في قرارة أنفسهم بما يحبون
من آلهة.
الآلهة الوثنية المتعددة في مصر كثيرة.
أهم شيء أن يكون مفهوما أن الفرعون
يهيمن على جميع أنواع الآلهة ويرمز لها ويتكلم باسمها.. وكان هذا مفهوما في
مصر..
وعلى حين تعددت آلهة
الشعب المصري.. مع إيمانه بإله مركزي هو الفرعون.. كانت الطبقة الحاكمة تقتصر على
عبادة الفرعون وإنفاذ أوامره وتصديق استبداده.. ومطاوعة أعظم نزواته جنونا.. ولسوف
نحس ونحن نتصفح معا أوراق موسى عليه الصلاة والسلام، كيف كان الشعب المصري يعيش في
عصره.
كانت الجماهير مستذلة مستعبدة تطيع الفرعون، وتمضي خانعة تحت ظل وزرائه وقادة
جنده وتسمع إلى ادعائه الألوهية دون أن تحرك ساكنا.
حكى الله تعالى في قرآنه
الكريم عن فرعون موسى، قال في سورة النازعات:
فَحَشَرَ
فَنَادَى (23) فَقَالَ
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى
وحنى الناس رؤوسهم للكلمة
الكافرة وأطاعوا –ربما على كره- مقالة الفرعون.
ودفع الشعب ثمن خنوعه لفرعون.. وقد
كان ثمنا باهظا لو قيس بالثورة عليه.
عادت مصر إلى نظام تعدد الآلهة بعد فترة
التوحيد المضيئة القصيرة التي قضاها فيها يوسف.
أما أبناء يعقوب، أو
أبناء إسرائيل، فقد انحرفوا عن التوحيد وقلدوا المصريين.. لولا بعض أسر ظلت على
التوحيد وإن أخفت ذلك.. وقد جاء وقت على أبناء إسرائيل تزايدوا فيه وتكاثروا
واشتغلوا في عديد من الحرف وملئوا أسواق مصر.
مرت أيام.. وحكم مصر ملك
جبار كان المصريون يعبدونه.. ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون ويزيدون
ويملكون.. سمعهم يتحدثون عن نبوءة غامضة تقول إن واحدا من أبناء إسرائيل سيسقط
فرعون مصر عن عرشه، وربما كانت النبوءة حلما من أحلام اليقظة التي تجيش بها قلوب
الأقلية المضطهدة، وربما كانت بشارة في صحفهم.
مهما يكن من أمر، فقد بلغت هذه
النبوءة أسماع الفرعون وأصدر الفرعون أمره العجيب ألا يلد أحد من بني إسرائيل.. كان
معنى هذا الأمر ببساطة أن يقتل كل من يولد من الأولاد الذكور.
وبدأ تطبيق النظام، ثم
قال خبراء الاقتصاد لفرعون إن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار
يذبحون، وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل فتضيع على الفرعون ثروة بشرية تعمل له
ويستعبدها ويستحيي نساءها.. والأفضل أن تنظم العملية بالشكل التالي.. يذبحون الذكور
في عام ويتركونهم في العام الذي يليه.. ووجد الفرعون أن هذا الحل اسلم من
الناحية الاقتصادية.
وحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يقتل فيه الغلمان،
فولدته علانية آمنة.
فلما جاء العام الذي يقتل فيه الغلمان ولد موسى.
حمل ميلاده
خوفا عظيما لأمه.. خافت عليه من القتل.. راحت ترضعه في السر.. ثم جاءت عليها ليلة
مباركة أوحى الله إليها فيها..
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ
عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
لم يكد وحي الله ينتهي
حتى أطاعت أم موسى هذا النداء الرحيم المقدس.
أمرت بصنع صندوق صغير لموسى.. أرضعته
ووضعته في الصندوق.. وذهبت إلى شاطئ النيل وألقته في المياه.. كان قلب الأم، وهو
أرحم القلوب في الدنيا، يمتلئ بالألم وهي ترمي ابنها في النيل، لكنها كانت تعلم أن
الله أرحم بموسى منها، إن الله يحبه أكثر منها، والله هو ربه ورب النيل.. لم يكد
الصندوق يلمس مياه النيل حتى أصدر الخالق أمره إلى الأمواج أن تكون هادئة حانية وهي
تحمل هذا الرضيع الذي سيكون نبيا فيما بعد، ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار أن
تكون بردا وسلاما على إبراهيم، كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورفق حتى
يسلمه إلى قصر فرعون.. وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون.. وهناك
أسلمه الموج للشاطئ وأوصى عليه الشاطئ..
وقالت الرياح للعشب الذي
يرقد بجوار الصندوق: لا تتحرك كثيرا فإن موسى نائم.. وأطاع العشب أمر الرياح وظل
موسى نائما.. أشرقت الشمس في ذلك الصباح وخرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر
كعادتها كل يوم.. لا نعرف ما الذي جعلها تمشي مسافة أطول مما تمشيه عادة كل يوم في
الحديقة..
|