موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الأول
كانت زوجة فرعون تختلف
كثيرا عن فرعون.. كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة.. كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة.. كان
جبارا وكانت رقيقة وطيبة.. وأيضا كانت حزينة.. لم تكن تلد.. وكانت تتمنى أن يكون
عندها ولد.. توقفت زوجة فرعون عند حديقة من أشجار الفل.. حملت الرائحة المعطرة
إليها إحساسا محزنا بالوحدة.. في نفس هذا الوقت.. كان جواريها يملأن الجرار من
النهر..
كان الصندوق يرقد عند
أقدامهن.. حملن الصندوق كما هو إلى زوجة فرعون.. أمرتهن أن يفتحنه ففتحنه.. رأت
موسى داخله فأحست أنها تحبه كابنها، ألقى الله في قلبها محبته فانهمرت دموعها
وحملته من الصندوق، راحت تقبله وهي تبكي.. استيقظ موسى وبدأ يبكي هو الآخر.. كان
جائعا يحتاج إلى رضعة الصباح فبكى..
جلس فرعون على مائدة
الإفطار ينتظر زوجته فلم تحضر.. خرج غاضبا يبحث عنها.. فوجئ بها تحمل موسى وهي
تغرقه بالقبلات والدموع.. سأل فرعون من أين جاء هذا الرضيع، فحدثوه أنهم وجدوه في
صندوق بجوار الشاطئ.. قال فرعون بغباء: آه.. هذا أحد أطفال بني إسرائيل.. أليس
المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟
صرخت زوجته وهي تضم موسى
إلى صدرها أكثر:
وَقَالَتِ
امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن
يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا
دهش فرعون كثيرا وهو يرى
زوجته تضم لصدرها هذا الرضيع الذي وجدوه على الشاطئ.
دهش أكثر لأن زوجته كانت تبكي
من الفرح وهو لم يرها تبكي قبل ذلك من الفرح، وأحس فرعون أن زوجته تتمسك بهذا الطفل
كما لو كان ابنها، قال في نفسه لعلها تذكرت أنها لا تنجب أطفالا وتريد هذا الطفل..
أخيرا وافق فرعون على ما تقوله زوجته.. استجاب لرغبتها وسمح لها أن تربي هذا الطفل
في قصره.
لم يكد فرعون يستجيب
لزوجته حتى شاهد وجهها يضيء من الفرح.
لم ير فرعون زوجته فرحة قبل ذلك أبدا.. كان
يحضر لها الهدايا والجواهر والعبيد فلا تبتسم ابتسامة واحدة، وظن فرعون أنها لا
تعرف معنى الابتسام، وها هو إذا يراها الآن وكل وجهها ابتسامة مضيئة واحدة.. بكى
موسى من الجوع فانتبهت زوجة فرعون إلى أنه جائع..
قالت لفرعون: ابني الصغير
جائع..
قال فرعون: أحضروا له
المراضع.. حضرت مرضعة من القصر وأخذت موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها.. - أحضروا
مرضعة ثانية!
حضرت مرضعة ثانية وثالثة
وعاشرة وموسى يبكي ولا يريد أن يرضع.. وبدأت زوجة فرعون تبكي هي الأخرى بسبب بكائه،
ولم تكن تعرف ماذا تفعل.
لم تكن زوجة فرعون هي
وحدها الحزينة الباكية.. كانت أم موسى هي الأخرى حزينة باكية.. لم تكد ترمي موسى في
النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها في النيل.
غاب الصندوق في مياه النيل واختفت
أخباره.. وجاء الصباح على أم موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها، وكادت تذهب
إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون.. لولا أن الله تعالى ربط على قلبها
وملأ بالسلام نفسها فهدأت واستكانت وتركت أمر ابنها لله..
كل ما في الأمر أنها قالت
لأخته: اذهبي بهدوء إلى جوار قصر فرعون وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.. وإياك أن
يشعروا بك..
وذهبت أخت موسى بهدوء
ورفق فإذا بها تسمع القصة الكاملة.. رأت موسى من بعيد وسمعت بكاءه، ورأتهم حائرين
لا يعرفون كيف يرضعونه، سمعت أنه يرفض كل المراضع.. وقالت أخت موسى لحرس فرعون: هل
أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟
قالت زوجة فرعون: لو
أحضرت لنا مرضعة يقبل الرضاعة منها فسوف أمنحك جائزة عظيمة.
أي شيء ستطلبينه
ستحصلين عليه..
وعادت أخت موسى وأحضرت
أمه.. وأرضعته أمه فرضع.. وتهللت زوجة فرعون
وقالت: "خذيه حتى تنتهي فترة رضاعته
وأعيديه إلينا بعدها، وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له".
وهكذا رد الله تعالى موسى
لأمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه
تنفذ رغم أي شيء.. ورغم كل شيء..
قال تعالى في سورة
القصص:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ
لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ
فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ
فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ
نَاصِحُونَ (12)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ
أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
أتمت أم موسى رضاعته
وأسلمته لبيت فرعون.. كان موضع حب الجميع.. قال تعالى في سورة طه:
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي
كان أحد لا يراه إلا
أحبه.. وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته.. بدأت تربية موسى
في بيت فرعون.. وكان هذا البيت يضم اعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت.. كانت مصر
أيامها أعظم دولة في الأرض.. وكان فرعون أقوى ملك في الأرض، ومن الطبيعي أن يضم
قصره أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الأرض.. وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن
يتربى موسى اعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين، وان يتم هذا كله في بيت عدوه الذي
سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة الخالق..
|