موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثاني
انكفأ فرعون على مشكلته
الجديدة..
بدأت سلسة اجتماعات خطيرة
في قصره.. استدعى المسؤول عن الجيش والشرطة.. واستدعى -ما نسميه اليوم- مدير
الاستخبارات، واستدعى الوزراء والأمراء والكهنة.. وراح يستدعي كل من يملك قوة
للتأثير في سير الحوادث، أو يتصور أنه يملك هذه القوة.
سأل
الفرعون مدير استخباراته: ماذا يقول الناس؟ قال: نشر رجالي بينهم أن كسب موسى للمباراة كان
مؤامرة دبرها معه كبير السحرة.
وقد تم كشف المؤامرة التي يعتقد أن جهات مجهولة
تمولها. سأل
الفرعون مدير الشرطة: ماذا تم في جثث السحرة؟ قال: علقها رجالي في الميادين العامة والأسواق
لإرهاب الناس، ونحن نشيع أن الفرعون يقتل كل من له علاقة
بالمؤامرة. سأل
الفرعون قائد الجيش: ماذا يقول الجيش؟ قال: يتمنى أن تصدر له الأوامر للحركة في أي اتجاه
يحدده الفرعون. قال
فرعون: لم يأت دور الجيش بعد.. سيأتي دوره. سكت فرعون.. وتحرك هامان كبير الوزراء ورفع يده
يطلب الكلمة. سمح له فرعون
فقال هامان: هل سنترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض
ويتركوا عبادتك؟ قال فرعون: أنت تقرأ أفكاري يا هامان.
سنقتل أبنائهم ونستحيي نسائهم
وإنا فوقهم قاهرون.
أصدروا التعليمات بذلك.
وانطلق رجال الفرعون يقتلون الأبناء وينتهكون النساء ويسجنون من يعترض.
ووقف موسى
يشهد ما يحدث دون أن يملك التدخل أو يقوى على دفعه.. كل ما فعله أنه أمر قومه
بالصبر.. أمرهم أن يستعينوا بالله ويصبروا على المحنة.. ضرب لهم مثلا بالسحرة
المصريين الذين احتملوا في الله ما احتملوه بغير شكاة.
أفهمهم أن جنود فرعون
يتصرفون في الأرض كما لو كانت الأرض ملكا خاصا لهم، غير أن هذا ليس صحيحا.. سيرث
هذه الأرض من يتقي الله..
وأشاع إرهاب الفرعون في
نفوس بني إسرائيل روحا من الانهزام والتشاؤم.
وقالوا لموسى: أوذينا من قبل أن
تأتينا ومن بعد ما جئتنا.. كانت الأنبياء تقتل قبل مجيئك وبعد مجيئك إلينا. كأنهم
يقولون له إن وجودك لا يؤثر في شيء.. نحن وحدنا تماما.
ورد موسى جهلهم وأفهمهم أن
الله سيهلك عدوهم ثم يستخلفهم في الأرض فيرى كيف يعملون.. غير أنهم استمروا على
شكايتهم وتأذيهم.
وبدا موقف موسى صعبا..
إنه يواجه غضب الفرعون ومؤامرته، وتذمر قومه في الوقت نفسه.. ووسط هذه الظروف تحرك
قارون.. كان قارون من أبناء إسرائيل..
(كَانَ مِن قَوْمِ
مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ)
إن ثرائه وظروفه جعلاه أقرب طبقيا وعاطفيا إلى
نظام فرعون.
يحدثنا الله عن كنوز
قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مفاتيح الحجرات التي تضم الكنوز، كان يصعب حملها على
مجموعة من الرجال الأشداء.
ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال، فكيف كانت الكنوز
ذاتها؟!
كان لقارون عدد عظيم من الخيل والمركبات والرجال والحرس، وكانت مركباته
مطعمة بالذهب والفضة. وكانت سروج خيله المطهمة مصنوعة من الجلد المزين بالذهب
والفضة وبالبرونز والنحاس.
وكان قارون إذا خرج في زينته، تلألأ الذهب والنحاس تحت
أشعة الشمس، وخطف الوهج أبصار أهل الدنيا..
وكان طبيعيا أن يملك
قارون مع أمواله كبرياء لا يفلح معها نصح.
ويبدو أن ثراءه وكبرياءه أسلماه معا
لإحساس متصل بالفرح.
صارت ضحكته أشهر ضحكة في بني إسرائيل، وصار موكبه أشهر المواكب
بعد موكب فرعون وموكب هامان.
كان الاثنان يملكان مصر كلها، ولم يكن قارون يملك غير
جزء من مصر على أي حال..
ويبدو أن العقلاء من قومه
نصحوه أن يفكر قليلا في آخرته،
ولعلهم قالوا له: إن أحدا لا ينصحك بترك الدنيا كلها
والانخراط في سلك الزاهدين.
إنما نصحوه ألا ينسى نصيبه من الدنيا، وكان هذا النصح
مأخوذا به ولا حاجة إليه، كما نصحوه ألا ينسى نصيبه من الآخرة.. ويبدو أن قارون
اكتفى بنصيبه من الدنيا، وأوهمه عقله أن هذا الثراء جاء بسبب علمه، كما أوهمه ثراؤه
أن الله يحبه.. وذهبت به الظنون إلى أنه أفضل من موسى.. إن موسى فقير وقارون شديد
الثراء.
كيف يكون الفقير الذي لا يرتدي أسورة واحدة من الذهب، أفضل عند الله من
الغني الذي يصنع سروج خيله من الذهب؟
|