موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثاني
إن الانحراف عن الإيمان
بالله.. ولو شعرة واحدة.. ينتهي بالإنسان إلى كبرياء تضطرب معها الحقائق، وتختلط
الأمور، ويصبح الادعاء الكاذب شيئا منطقيا ومفهوما ولا حاجة لتحليله.. لم يكد خسف
قارون يتم، حتى ارتفعت رءوس المؤمنين بموسى وانقشع غمهم بعد طول استياء.
عاين
المصريون وأبناء إسرائيل هذه المعجزة.
وعاد الصراع بين موسى وفرعون يصل إلى ذروته..
وأيقن فرعون أن موسى يهدده في ملكه..
كان موسى مثل كل الأنبياء
يحمل برسالته حكما بالإعدام على شرور عصره ومراكز القوة الظالمة.. واتحدت شرور
العصر في قصر الفرعون.. هناك طرح فرعون مصر فكرة قتل موسى.. كان فرعون قد صار إلى
اقتناع بأن قتل موسى هو الكفيل بحل مشكلاته..
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ
إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسَادَ
سنلاحظ أن فرعون يرتدي
مسوح الداعين إلى الحق، إنه يختلس لنفسه مهام الأنبياء، ويخاف على الناس أن يضلهم
موسى.. وهو يقترح على وزرائه وكبار رجاله أن يتركوه يقتل موسى.. والمفهوم الطبيعي
أنه لن يقتل موسى بيديه وإنما هو يطرح فكرة قتله أمامهم، لتقوم السلطات بتنفيذها..
ونتعقد أن هامان حبذ الفكر، وتكونت جبهة من المنافقين الذين يؤيدون فكرة
الفرعون..
كادت الفكرة تحصل على
التصديق، لولا رجل من آل فرعون.. رجل من رجال الدولة الكبار، لا يذكر القرآن اسمه،
لأن اسمه لا يهم، لم يذكر صفته أيضا لأن صفته لا تعني شيئا، إنما ذكر القرآن أنه
رجل مؤمن.. ذكره بالصفة التي لا قيمة صفة بعدها.
تحدث هذا الرجل المؤمن،
وكان
(يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)،
تحدث في الاجتماع الذي
طرحت فيه فكرة قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها.
قال إن موسى لم يقل أكثر من أن
الله ربه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولا، وهناك احتمالان لا ثالث
لهما: أن يكون موسى كاذبا، أو يكون صادقا، فإذا كان كاذبا
(فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)،
وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله.
وإذا كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا
به؟
تحدث المؤمن الذي يكتم
إيمانه فقال لقومه: إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة، مثلما كان قارون بالأمس في
مركز الثراء والقوة، ثم أصابه ما أصابه.. من ينصرنا من بأس الله إذا جاء؟
ومن
ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟
إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا..
وبدت كلماته مقنعة.. إنه
رجل ليس متهما في ولائه لفرعون.. وهو ليس من اتباع موسى.. والمفروض أنه يتكلم بدافع
الحرص على عرش الفرعون.. ولا شيء يسقط العروش كالكذب والإسراف وقتل
الأبرياء..
ومن هذا الموضع استمدت
كلمات الرجل المؤمن قوتها.. بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله.. ورغم أن فرعون وجد
فكرته في قتل موسى، صريعة على المائدة.
رغم تخويف الرجل المؤمن لفرعون.. رغم ذلك
قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة..
قَالَ
فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشَادِ
هذه كلمة الطغاة دائما
حين يواجهون شعوبهم..
(مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا
أَرَى)..
هذا رأينا الخاص.. وهو رأي يهديكم سبيل الرشاد.
وكل رأي غيره
خاطئ.. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.. حدثنا الله عن هذا الموقف في سورة
غافر.
وَقَالَ
رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا
أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن
يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي
الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا
أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشَادِ
لم تتوقف المناقشة عند
هذا الحد.. قال فرعون كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن.. وعاد الرجل المؤمن
يتحدث:
وَقَالَ
الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ
(30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ
وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا
قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ
اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا
هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ
اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ
بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ
آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ
جَبَّارٍ
|