موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثاني
وشاء الله تعالى أن يشدد
على آل فرعون.. ابتلاء لهم وتخويفا، ولكي يصرفهم عن الكيد لموسى والرجل المؤمن،
وإثباتا لنبوة موسى وصدقه في الوقت نفسه.
وهكذا سلط على المصريين
أعوام الجدب.. أجدبت الأرض وشح النيل ونقصت الثمار وارتفعت الأسعار وجاع الناس،
واشتد القحط وأخذ بخناق الأمة المصرية.. ومن المعروف أن هذه العقوبة تصيب الناس
دائما حين ينصرفون عن الإيمان والتقوى.. يقول الله تعالى في محكم كتابه في سورة
الأعراف:
وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَاء وَالأَرْضِ
انطبق القانون القديم على
أهل مصر لسببين: وقوفهم موقف المتفرج من قتل السحرة.. ووقوفهم موقف المتفرج من
طغيان حاكمهم..
ومن المدهش أن قوم فرعون
أرجعوا هذه الجدب والقحط والجوع إلى سبب غريب.
قالوا إنهم تشاءموا من موسى.. إن ما
أصابهم من جوع وفقر ونقص في الثمرات أصابهم بسبب وجود موسى بينهم.. واشتد فقرهم
واشتد بعدهم عن إدراك الحق، فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط.
وصور لهم حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم، آية جاء بها موسى ليسحرهم بها، وهي
آية لن يؤمنوا بها.
ومن المفهوم ضمنا أن هذه
لم تكن أفكار العامة من الناس، إنما هي أفكار الطبقة الحاكمة التي أشاعت هذا الرأي،
وروجت له، فردده الناس بعد ذلك.. ولقد استتبع بقاء الصراع وامتداده، أن يعاقبهم
الله تعالى ويشدد عليهم أكثر وأكثر..
قال
تعالى:
وَلَقَدْ
أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا
جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ
لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ
وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ
فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ
شدد الله عليهم مع اختلاف
الأساليب لعلهم يرجعون إلى الله، ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم
معه.
أرسل عليهم الطوفان، بعد
سنوات الجدب العديدة.. جاءت سنة فاض فيها النيل وأغرق الأرض فاستحالت الزراعة..
وبعد أن كان عذابهم وجوعهم ينبعان من قلة المياه، نبع عذابهم وجوعهم هذه المرة من
زيادة المياه.. وهرعوا إلى موسى..كانت المشكلة تستدعي
تدخله..
قَالُواْ
يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا
الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي
إِسْرَآئِيلَ
ودعا موسى ربه فكشف عنهم
عذاب إغراق الأرض.. توقف تدفق المياه وشربت الأرض ماءها وعادت صالحة للزراعة..
وطالبهم موسى بتحقيق وعدهم له بإطلاق سراح بني إسرائيل، فلم يجيبوه.
ووقعت آية الجراد.. أرسل
الله أسرابا من الجراد حطت على الزروع والثمار، فلما طارت عنها كانت الزروع والثمار
قد اختفت.
أكل الجراد طعام المصريين فهرعوا إلى موسى يسألونه أن يدعو ربه ليكشف
عنهم هذا العذاب.. وسوف يرسلون معه بني إسرائيل هذه المرة.. ودعا موسى ربه فكشف
عنهم العذاب ورحل الجراد عائدا من حيث جاء.. وعادوا يزرعون الأرض.. وطالبهم موسى
بإطلاق سراح بني إسرائيل فراحوا يماطلونه.. حتى تأكد أنهم ليسوا جادين في وعودهم
له.
ووقعت آية القمل.. انتشر
القمل بما يحمله من أمراض.. وتكرر لجوءهم إلى موسى وتكررت وعودهم له وتكرر دعاؤه
لله.. وتكرر إخلافهم لوعدهم.
ثم وقعت آية الضفادع..
امتلأت الأرض بالضفادع فجأة.. كانت تتواثب في أطعمة المصريين وتشاركهم بيوتهم
وتزعجهم أعظم الإزعاج.. وذهبوا إلى موسى ووعدوه فسأل ربه فكشف عنهم فأخلفوا
وعدهم.
ثم وقعت آخر الآيات وهي
الدم.
تحولت مياه النيل إلى دم لا يستطيع أن يسيغه أحد.
ونلاحظ أن الآيات السابقة
كانت آيات من النوع المتوقع في بيئة زراعية تقوم حياتها على النهر.. فيضا أو
إمساكا.
إن نقص مياه النيل أو
زيادته أو هجوم الجراد أو القمل أو الضفادع.. هذه كلها أمور ليست جديدة على
المصريين.. الجديد هو وقوعها بهذا العنف المفاجئ واختفاؤها بنفس العنف المفاجئ..
أما آخر الآيات فكانت من لون لم تألفه البيئة المصرية.. كانت آية أكبر من كل ما
سبقها من الآيات.. تحولت مياه النيل إلى دم.. وتم هذا التحول بالنسبة للمصريين
وحدهم، فكان موسى وقومه يشربون مياها عادية وكان أي مصري يملأ كأسه ليشرب، يكتشف أن
كأسه مملوءة بالدم.
واهتز المصريون كما اهتز
قصر الفرعون أمام هذه الآية الرهيبة الجديدة.
وهرعوا إلى موسى يتوسلون إليه أن يدعو
ربه وسوف يطلقون سراح الإسرائيليين هذه المرة.
ودعا موسى ربه فانكشف العذاب عن
المصريين، ورغم ذلك رفض قصر الفرعون أن يسمح له باصطحاب قومه
والرحيل.
على العكس من ذلك.. اشتد
الفرعون صلابة وقحة.. وأعلن فرعون في قومه أنه إله.. أليس له ملك مصر، وهذه الأنهار
تجري من تحته، أعلن أن موسى ساحر كذاب.. ورجل فقير لا يرتدي أسورة واحدة من
الذهب.
قال تعالى في سورة
الزخرف:
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا
جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ
مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا
هُمْ يَنكُثُونَ (50) وَنَادَى
فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ
الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ
مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن
ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
انظر إلى التعبير
القرآني:
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ).
استخف
بعقولهم.. واستخف بحريتهم.. واستخف بمستقبلهم.. واستخف بآدميتهم.. فأطاعوه.. أليست
هذه طاعة غريبة.. تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قوما فاسقين.
إن الفسق يصرف
الإنسان عن الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره، ويورده الهلاك.
وذلك ما وقع لقوم
فرعون.
يقول
تعالى:
فَلَمَّا
آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا
لِلْآخِرِينَ
|