موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثالث
يقص الله تبارك وتعالى
علينا ماذا كان من أمر موسى حين ذهب لميقات ربه.
كان موسى بصومه - أربعين ليلة -
يقترب من ربه أكثر.. وكان موسى بتكليم الله له يزداد حبا في ربه أكثر.. ونحن لا
نعرف أي مشاعر كانت تجيش في قلب موسى عليه الصلاة والسلام حين سأل ربه الرؤية.
أحيانا كثيرة يدفع الحب البشري الناس إلى طلب المستحيل.. فما بالك بالحب الإلهي،
وهو أصل الحب..؟
إن عمق إحساس موسى بربه، وحبه لخالقه، واندفاعه الذي لم يزل يميز
شخصيته.. دفعه هذا كله إلى أن يسأل الله الرؤية.
قال تعالى في سورة
الأعراف:
وَلَمَّا
جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ
إِلَيْكَ
هكذا باندفاع العاشقين
الكبار سأل موسى ربه ما سأل.
وجاءه رد الحق عز وجل:
قَالَ لَن
تَرَانِي
ولو أن الله تبارك وتعالى
قالها ولم يزد عليها شيئا، لكان هذا عدلا منه سبحانه، غير أن الموقف هنا موقف حب
الهي من جانب موسى.
موقف اندفاع يبرره الحب ولهذا أدركت رحمة الله تعالى موسى.
أفهمه أنه لن يراه، لأن أحدا من الخلق لا يصمد لنور الله.. أمره أن ينظر إلى الجبل،
فإن استقر مكانه فسوف يراه.
قال
تعالى:
وَلَـكِنِ
انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا
تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا
لا يصمد لنور الله أحد.
أدرك موسى هذه الحقيقة وعاينها بنفسه.
والصعق هو الموت أو الإغماء.
ونحن لا نعرف
الفترة التي قضاها موسى غائبا عن حياته أو وعيه.. غير أنه حين
أفاق..
فَلَمَّا
أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ
وقف المفسرون القدماء
كثيرا أمام هذه الآيات.
تساءلوا مثلا: كيف يطلب موسى رؤية الله مع علمه بأنها غير
ممكنة؟
وتنازعوا في ذلك فذهب
المعتزلة إلى رأي، وذهب أهل السنة إلى رأي، وكان مدار الحديث كله كيف لا يعلم النبي
وهو أقرب خلق الله إليه أن رؤية الله مستحيلة.. وهكذا انصرفنا عن عمق الآيات
البعيد، ورحنا نبحث حول جزئيات لا تغني ولا تسمن..
أعتقد أن هذا الموقف موقف
موسى يمثل قمة من قمم الحب، وعمقا من أعماق الوجد - لا مثيل له في كل سيرة موسى.
نحن
أمام ذروة الحب لله..
والمحب لا يريد غير
الرؤية، ورؤية الله عز وجل مستحيلة، هذا هو منطق العقل والأعصاب، لكن.. متى كان
الحب يعبأ بالمنطق أو يستمع للأعصاب..؟!
وهكذا يندفع موسى إلى التجربة وهي تجربة
قام بها بدلا عنا جميعا.. كان أجرأنا في الطلب، وكان أسبقنا إلى الصعق، وأثبت لنا
بجسده الكريم وروحه الطاهر أن أحدا لا يصمد لنور الله..
ها هو ذا يفيق فيمجد الله
ويتوب إليه ويستغفره..
قَالَ
سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ
من أي شيء كان موسى
يتوب..؟
قال الصوفية كان يتوب من اندفاعة عاشق عظيم سأل المحال وهو يعلم أنه
محال..وذلك تفسير مقنع.. يؤيد
ذلك سياق الآيات.. انظر إلى آيات الله وكيف يستلفته إلى ما أنعم عليه من نعم،
قال
تعالى لموسى:
قَالَ يَا
مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا
آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ
شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ
الْفَاسِقِينَ
وقف كثير من المفسرين
أمام قوله تعالى لموسى:
إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي
وأجريت مقارنات بينه وبين
غيره من الأنبياء.
فقيل إن هذا الاصطفاء كان خاصا بعصره وحده، ولا ينسحب على العصر
الذي سبقه لوجود إبراهيم فيه، وإبراهيم خير من موسى، أيضا لا ينطبق هذا الاصطفاء
على العصر الذي يأتي بعده، لوجود محمد بن عبد الله فيه، وهو أفضل
منهما.
ونحب أن نبتعد عن هذا
الجدال كله.
لا لأننا نعتقد أن كل الأنبياء سواء.. إذ إن الله سبحانه وتعالى
يحدثنا أنه فضل بعض النبيين على بعض، ورفع درجات بعضهم على البعض.
غير أن هذا
التفضيل ينبغي أن يكون منطقة محرمة علينا، ولنقف نحن في موقع الإيمان بجميع
الأنبياء لا نتعداه.
ولنؤد نحوهم فروض الاحترام على حد سواء.
لا ينبغي أن يخوض
الخاطئون في درجات المعصومين المختارين من الله.. ليس من الأدب أن نفاضل نحن بين
الأنبياء.. الأولى أن نؤمن بهم جميعا.
|