موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثالث
انتهى ميقات موسى مع ربه
تعالى.. وعاد غضبان أسفا إلى قومه.. لم يكن في الوجود كله إنسان في مثل رضاه.. لكنه
يعلم من ربه أنباء تسوءه فينقلب إلى قومه غضبان أسفا..
قال تعالى في سورة
طه:
وَمَا
أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ
إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ
فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ
(85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ
غَضْبَانَ أَسِفًا
انحدر موسى من قمة الجبل
وهو يحمل ألواح التوراة، قلبه يغلي بالغضب والأسف.
نستطيع أن نتخيل انفعال موسى
وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه.
لم يكد موسى يغادر قومه
إلى ميقات ربه.. حتى وقعت فتنة السامري.
وتفصيل هذه الفتنة أن بني إسرائيل حين
خرجوا من مصر، صحبوا معهم كثيرا من حلي المصريين وذهبهم، أخذوه للتمتع به في
احتفالهم الذي ادعوه، ثم نجوا بعد معجزة شق البحر، وانطبق البحر على فرعون وجنوده
فغرقوا، وصار ما معهم من الذهب ملكا لهم.. ويبدو أن هارون عليه السلام، أدرك أن هذا
الذهب ليس من حقهم، فأخذه ودفنه في الأرض.. لم يكن القوم في حاجة إليه.. كانوا
يعيشون في التيه.. يسيرون وسط صحراء لا ينفعهم فيها الذهب.
حفر هارون شقيق موسى
حفرة وألقى فيها الذهب وأهال عليه التراب.
ورآه السامري وهو يدفن الذهب فاستخرجه
بعد ذلك وصهره، وصنع منه تمثالا لعجل يشبه العجل أبيس، معبود المصريين، وكان
السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو صائغا سابقا، فصنع العجل مجوفا من الداخل، ووضعه
في اتجاه الريح، بحيث يدخل الهواء من فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه
خوار العجول الحقيقية..
ويقال إن سر هذا الخوار،
أن السامري كان قد أخذ قبضة من تراب سار عليه جبريل عليه السلام حين نزل إلى الأرض
في معجزة شق البحر.. أي أن السامري أبصر بما لم يبصروا به، فقبض قبضة من أثر الرسول
- جبريل عليه السلام- فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل.. وكان جبريل لا يسير على
شيء إلا دبت فيه الحياة.. فلما أضاف السامري التراب إلى الذهب، ثم صنع منه العجل،
خار العجل كالعجول الحقيقية..
هذه قصة السامري التي
ألقاها لموسى، ونعتقد أنه كاذب.. إن كفره يرجح عندنا كذبه.
نعلم الآن أن التراب إذا
أضيف إلى الذهب وصهر، انفصل التراب من الذهب وترك تجويفا في مكان انفصاله. وأغلب
الظن أن السامري استخدم هذا التراب، كأي تراب آخر، في صنع تجويف داخل العجل، بحيث
تحول التمثال إلى تمثال له صوت..
بعد ذلك، خرج السامري على
بني إسرائيل بما صنعه..
سألوه: ما
هذا يا سامري؟ قال:
هذا إلهكم واله موسى! قالوا: لكن موسى ذهب لميقات إلهه. قال السامري: لقد نسي موسى.
ذهب للقاء ربه هناك،
بينما ربه هنا.
وهبت موجة من الرياح
فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخار العجل.
وعبد بنو إسرائيل هذا العجل..
لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة.. كيف يمكن الاستخفاف بعقول القوم لهذه
الدرجة..؟!
لقد وقعت لهم معجزات هائلة.. فكيف ينقلبون إلى عبادة الأصنام في لحظة..؟
تزول هذه الدهشة لو نظرنا في نفسية القوم الذين عبدوا العجل. لقد تربوا في مصر،
أيام كانت مصر تعبد الأصنام وتقدس فيما تقدس العجل أبيس، وتربوا على الذل
والعبودية، وانكسر داخل أنفسهم شيء، التوى في فطرتهم شيء، ومرت عليهم معجزات الله
فصادفت نفوسا تالفة الأمل.
لم يعد هناك ما يمكن أن يصنعه لهم أحد.
إن كلمات الله لم
تعدهم إلى الحق، كما أن المعجزات الحسية لم تقنعهم بصدق الكلمات، ظلوا داخل أعماقهم
من عبدة الأوثان.
كانوا وثنيين مثل سادتهم المصريين القدماء.
ولهذا السبب انقلبوا
إلى عبادة العجل..ولم يكن انقلابهم هذا
مفاجأة لنا نحن أهل هذا الزمان، فإنهم بعد خروجهم من معجزة شق البحر شاهدوا قوما
يعبدون الأصنام فسألوا موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها مثل هؤلاء القوم.
المسألة
إذن قديمة ومزمنة.. والرغبة في عبادة الأصنام، هي نفسها عبادة الأصنام، ولقد كان
ككل ما فعله السامري، أنه استغل حنين القوم إلى عبادة الأوثان، استغل حاجة نفسية
شبه عامة وحققها لهم حين قدم إليهم عجله.
وأختار أن يكون العجل
ذهبا لأنه يعلم ضعف بني إسرائيل إزاء الذهب عموما.
وهكذا انتشرت فتنة السامري،
وفوجئ هارون عليه الصلاة والسلام يوما بأن بني إسرائيل يعبدون عجلا من الذهب.
انقسموا إلى قسمين: الأقلية المؤمنة أدركت أن هذا هراء.
والأغلبية الكافرة طاوعت
حنينها لعبادة الأوثان.
ووقف هارون وسط قومه وراح يعظهم.
قال لهم: إنكم فتنتم به،
هذه فتنة، استغل السامري جهلكم وفتنكم بعجله.. ليس هذا ربكم ولا رب
موسى.
وَإِنَّ
رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي
ورفض عبدة العجل موعظة
هارون.
كانوا مجموعة الذين مرت عليهم الكلمات مرور النسيم بالحجارة.
لم تفعل فيها
شيئا .. وعاد هارون يعظهم ويذكرهم بمعجزات الله التي أنقذهم بها، وتكريمه ورعايته
لهم، فأصموا آذانهم ورفضوا كلماته، واستضعفوه وكادوا يقتلونه، وأنهوا مناقشة
الموضوع بتأجيله حتى عودة موسى.. كان واضحا أن هارون أكثر لينا من موسى، لم يكن
يهابه القوم للينه وشفقته.
وخشي هارون أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم صنمهم الذي
يعبدونه فتثور فتنة بين القوم.
ويحدث ما يشبه الحرب الأهلية.
آثر هارون تأجيل
الموضوع إلى أن يحضر موسى.
كان يعرف أن موسى بشخصيته
القوية، يستطيع أن يضع حدا لهذه الفتنة دون إراقة دماء.
واستمر القوم يرقصون حول
العجل..
|