موسى وهارون عليهما السلام
الجزء
الثالث
كان السامري - لعنه الله
تعالى - هو صاحب هذه الفتنة القديمة.. فتنة الرقص والتواجد حول الأوثان، وهي فتنة لم
تزل مظاهرها حية إلى اليوم رغم اندثار عبادة الأوثان، يقوم بها الناس في زماننا
بحسن نية دون أن يدركوا أصلها القديم وكونها ديانة الكفار وعباد
العجل.
أورد القرطبي في الجزء
الحادي عشر في تفسيره لفتنة السامري.. هذه المسألة..
قال: "سئل
الإمام أبو بكر الطرطوشي: ما يقول سيدنا الفقيه في جماعة من رجال، يكثرون من ذكر
الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من
الأديم.. ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه.. ويحضرون شيئا يأكلونه.. هل
الحضور معهم جائز أم لا.. أفتونا مأجورين".
أجاب
القرطبي عن هذه المسألة نقلا عن أستاذه
قال: "مذهب الصوفية (يقصد الراقصين) بطالة
وجهالة وضلالة.
وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله.
وأما الرقص والتواجد فأول من
أحدثهما فأصحاب السامري.
لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه
ويتواجدون.
فهو دين الكفار وعباد العجل.
وإنما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه وكأنما على رءوسهم الطير من الوقار.
فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها.
ولا يحل لأحد يؤمن
بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم.
ولا أن يعينهم على باطلهم.
هذا مذهب مالك وأبي
حنيفة والشافعي واحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين.. وبالله
التوفيق".
انتهى كلام القرطبي
المتصل بهذه المسألة.
فتأمل مضاء ذهنه وتقواه، وربطه لبدعة الرقص الصوفي الحديث
بعبادة العجل القديم والرقص حوله.
انحدر موسى عائدا لقومه
فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العجل.. توقف القوم حين ظهر موسى وساد صمت.
صرخ موسى يقول:
بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ
اتجه موسى نحو هارون
وألقى ألواح التوراة من يده على الأرض.
كان إعصار الغضب داخل موسى يتحكم فيه الآن
تماما.
مد موسى يديه وأمسك هارون
من شعر رأسه وشعر لحيته وشده نحوه وهو يرتعش.
قال موسى:
يَا
هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ
أَمْرِي
إن موسى يتساءل هل عصى
هارون أمره.
كيف سكت على هذه الفتنة؟
كيف طاوعهم على البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم
ويتبرأ منهم؟
كيف سكت عن مقاومتهم أصلا؟
إن الساكت عن الخطأ مشترك فيه بشكل ما.
زاد
الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة.
وتحدث هارون إلى موسى.
رجا منه أن يترك رأسه
ولحيته.
بحق انتمائهما لأم واحدة.. وهو يذكره بالأم ولا يذكره بالأب ليكون ذلك أدعى
لاستثارة مشاعر الحنو في نفسه.
قَالَ يَا
ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي
أفهمه أن الأمر ليس فيه
عصيان له.
وليس فيه رضاء بموقف عبدة العجل.
إنما خشي أن يتركهم ويمضي، فيسأله موسى
كيف لم يبق فيهم وقد تركه موسى مسؤولا عنهم، وخشي لو قاومهم بعنف أن يثير بينهم
قتالا فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولم ينتظر عودته.
إِنِّي
خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي
أفهم هارون أخاه موسى
برفق ولين أن القوم استضعفوه، وكادوا يقتلونه حين قاومهم.
رجا منه أن يترك رأسه
ولحيته حتى لا يشمت به الأعداء، ويستخف به القوم زيادة على استخفافهم به. أفهمه أنه
ليس ظالما مثلهم عندما سكت عن ظلمهم.
قَالَ
ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ
تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ
أدرك موسى أنه ظلم هارون
في غضبه الذي أشعلته غيرته على الله تعالى وحرصه على الحق.. أدرك أن هارون تصرف
أفضل تصرف ممكن في هذه الظروف.. ترك رأسه ولحيته واستغفر الله له ولأخيه.. التفت
موسى لقومه وتساءل بصوت لم يزل يضطرب غضبا:
يَا
قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ
فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي
إنه يعنفهم ويوبخهم
ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ما عملوه.
عاد موسى يقول غاضبا أشد
الغضب:
إِنَّ
الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
لم تكد الجبال تبتلع
أصداء الصوت الغاضب حتى نكس القوم رءوسهم وأدركوا خطأهم.. كان افتراؤهم واضحا على
الحق الذي جاء به موسى.
أبعد كل ما فعله الله
تعالى لهم، ينكفئون على عبادة الأصنام..؟!
أيغيب موسى أربعين يوما ثم يعود ليجدهم
يعبدون عجلا من الذهب..
أهذا تصرف قوم، عهد الله
إليهم بأمانة التوحيد في الأرض؟
|