تــقــديــم: عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي أرسل
رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، فقال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ
ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً )(الفتح:28).. وهذا الإظهار، أو الظهور على الدين كله،
ليس سبيله القهر، والغلبة المادية، والتسلط، وإلغاء الآخر، وانتقاص كرامة الإنسان،
ونسخ اختياره، وإنما سوف يتحقق ذلك بما يمتلك الإسلام من خصائص ذاتية، تلتقي مع
الفطرة، وتحقق إنسانية الإنسان، وتحمي كرامته، وتصون حريته، وتحقق له اختياره،
وتهديه إلى المنهاج الحق، الذي يشكل دليل التعامل مع الحياة والأحياء، ويستنقذه من
الضلالة والشقوة، ذلك أن هذا المنهاج برئ من التعصب، لأنه ليس حكراً على لون أو
جنس، أو قوم، أو جماعة، أو طائفة، كما أنه ليس حكراً على زمان دون زمان، ومكان دون
مكان، وإنما هو من خالق الإنسان، الذي يعلم كينونته ومتقلبه ومثواه.
لذلك لا يمكن أن يكون
وسيلة لتسلط الإنسان على الإنسان، ولا أن يتجاهل حاجة من حاجات الإنسان التي فطره
الله عليها، وكأن بين دين الهدى والحق، الذي أنزله خالق الإنسان،والإنسان، تواعد
والتقاء، وأن معوقات هذا الظهور للدين، أو هذا اللقاء بالإنسان، إنما تكون بسبب
الإنسان نفسه، وما لحق به من الإصابات التي تشكل له حواجز وعثرات، أو بسبب من تخلف
أدوات الدعوة، وافتقادها القدرة على التوصيل، والبلاغ المبين.
وحسبنا أن نقول: إن من
أهم عوامل ومقومات الظهور والإظهار لهذا الدين، هي في إيقافه عبودية الإنسان
للإنسان،وتسلط الإنسان على الإنسان، وتحقيق انعتاق البشر، من إسار اللون، والجنس،
والقوم، وعقدة الذنب، والفعل الخاطئ ، أو الخطيئة، ومنحهم القدرة على التوبة
والتجاوز والارتقاء، حيث ميزان الكرامة التقوى والعمل الصالح، دون أي اعتبار آخر،
قال تعالى: (يا أيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم )(الحجرات:13).
والصلاة والسلام على
المبعوث بالهدى ودين الحق، الذي انتهت إليه أصول الرسالات السماوية جميعاً، فهو ليس
بدعا من الرسل، وإنما الهداية والحق الذي جاء به: هو ما وصى الله به، وشرعه طريقاً
للنبوة كلها، قال تعالى: (شرع
لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه كبر على المُشركين ما تدعوهم إليه الله
يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب )(الشورى:13).
لذلك فالذي يؤمن
بالإسلام دين الهداية والحق، هو مؤمن بطبيعة الحال بالأنبياء جميعاً، لا يفرق
بين أحد من رسل الله، والذي كانت سنته بيانا للقرآن، وسيرته تنزيلاً له على الواقع،
لإقامة المجتمع الأنموذج، الذي يسدده، ويصوبه، ويعصمه الوحي، ويربيه الله على
عينه، وكفى بالله شهيداً. وبعد:
فهذا كتاب الأمة
الثامن والثلاثون "في الغزو الفكري"، للدكتور أحمد عبد الرحيم السايح، أستاذ
العقيدة في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر، في سلسلة كتاب الأمة،
التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في دولة
قطر، مساهمة في إيقاظ الوعي الحضاري، وتحقيق الحصانة الفكرية والثقافية، وإعادة
بناء المرجعية، وتشكيل مركز الرؤية، في ضوء هدايات وعطاء الوحي، ومعارف وتجارب
ومكتسبات العقل، وفك قيود التحكم، والارتهان الثقافي، والاستلاب الحضاري، ومعالجة
أسباب التقليد الجماعي، والتخاذل الفكري، الذي يصيب الأمة بالوهن، والعجز عن
الإنتاج المأمول، في المجالات المتعددة، الأمر الذي يخلق عندها فراغات،
وقابليات لامتداد الآخر، ويجعلها أشبه بالأرض المنخفضة، التي تصب فيها، وتنتهي
إليها كل موارد ومواريث الأمم الأخرى. وإننا مهما حاولنا إقامة السدود، وبناء
الحدود، ومحطات الإنذار المبكر، أو المتأخر، فسوف لا يجدي ذلك شيئاً، إذا لم نكن
قادرين على الإنتاج، والعطاء، سواء في ذلك الداخل الإسلامي، أو الخارج الإنساني.
إن صوت النذير، وصيحات
التحذير، بالخطر القادم من الطوفان الإعلامي، والثقافي، والحراسة على الحدود، سوف
لا تغني عنا فتيلاً، إذا لم نحسن إعادة البناء، ووضع البرامج والكيفيات، التي ترتقي
بأدائنا إلى مستوى العطاء العالمي، إلى مستوى الإسلام والعصر.
ونخشى أن نقول: إن
استمرار وامتداد مرحلة التعبئة والتحذير، وضرب طبول الحرب، دون القدرة على صناعة
الأسلحة، وامتلاك الشوكات المتعددة، يمكن أن يصنف في النهاية، في إطار المساهمات
السلبية، والتمكين لوسائل الغزو الفكري، حيث تتحول هذه التحذيرات والصيحات إلى
أدوات نعالج بها أنفسنا، أو نوبخ بها أنفسنا، بشكل أصح، فمن خالف قوله فعله، فكأنما
يوبخ نفسه.
والأمر الذي لا بد أن
نذكِّر به هنا، أن مسألة الغزو الفكري، لم تعد تفد إلينا، أو تتهددنا من خارج
الحدود فقط، أي لم تعد غزواً من الخارج، ذلك الغزو، الذي يمكن إن أحسنا التعامل
معه، أن يستفزنا، ويحرك طاقاتنا، وجمِّع قوانا، ويقضي على الجوانب الرخوة، والشائخة
في حياتنا، ويعيد فاعليتنا، ويكون بمثابة منبه، أو محرض حضاري، وثقافي، لواقعنا
المتخلف، ويحفزنا على امتلاك القدرة على الصمود، والتجاوز للواقع، والإقلاع من
جديد.
إن مسألة الغزو
الفكري، لم تعد غزواً من الخارج كما أسلفنا، وإنما -وهذا هو الأمر الأخطر-
جرت وتجري محاولات متعددة الوسائل، لاستنباتها في تربة العالم الإسلامي،
وتكييفها مع ظروفه ومناخه الثقافي.
ولعلنا نقول أيضاً: إن
الأمر اليوم بدأ يتجاوز ذلك العموم إلى محاولة زراعتها في مؤسسات ومنظمات العمل
الإسلامي نفسها، وذلك باعتماد مجموعة من الممولين وأصحاب الشأن والنفوذ، تتولى
الإنفاق، وصناعة الكتاب والباحثين، الذين يوسمون في كثير من الأحيان
بالمفكرين الإسلاميين الكبار، حيث يكبرون وبكبّرون، بالترويج لهم، في وسائل
الإعلام، وإتاحة الفرصة أمامهم وإلقاء الأضواء عليهم، في المؤتمرات والندوات،
ليؤدوا دورهم المرسوم في هز الثوابت الإسلامية، وتوهين القيم الإسلامية في نفوس
المسلمين، والنيل من المسالك والأخلاق، والتقاليد الإسلامية، وحتى العقائد
الإسلامية الثابتة، في الكتاب والسنة، كالنبوة، والغيب، والآخرة، ومحاولة عزلها عن
حياة الناس، واهتمامهم، وممارسة هدم الذات الإسلامية، وجلدها، باسم النقد،
والتنظير، والترشيد. والقيام بمقاربات مع الحضارة الغربية، وتقديم الغطاء الإسلامي
لقيمها ومفاهيمها، وتحضير القابليات لاستقرارها، وقبول القيم الغربية في عالم
المسلمين، والتمكين لها، على حساب خصائص الحضارة والثقافة الإسلامية وثوابتها، إلى
درجة أصبحت معها قيم وكليات الحضارة الغربية، هي معيار القبول والرفض، لكل مواريثنا
الفكرية، والعقيدية، والثقافية، وتقاليدنا الاجتماعية.
ولعل الأمر
الخطير في مسألة الغزو الفكري، الذي ما يزال يتكرر في حياة المسلمين، والذي يأتي
كثمرة للوهن الثقافي، والوصول إلى مرحلة القصعة، التي تمر بها الأمة المسلمة،
والتي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الانتهاء إليها، حيث تؤدي إلى
اهتزاز الثوابت والمعايير، وغلبة الحالة الغثائية: هو الفرح بتحول بعض العناصر إلى
الاتجاه الإسلامي -وهو أمر مفرح حقاً لا شك- سواء في ذلك من جاء من الداخل
الإسلامي، كأن يتحول من الاتجاه العلماني أو اليساري أو الاشتراكي، بعد أن أيقن
فعلاً بضلالهِ في المعتقد، وإفلاسه في الواقع، وأتيحت له فرصة الاطلاع على القيم
الإسلامية، أو جاء من الخارج الإسلامي، من غير المسلمين، واعتنق الإسلام، بعد أن
أدركه الرشد وبلغ درجة الكمال، وانعتق من التدين الوراثي، وامتلك القدرة على
التمييز بين الحق والباطل.
أقول: إن الأمر
الخطير حقاً، هو أن يقودنا الفرح بتحول وإسلام هؤلاء، دون فحص واختبار، إلى حملهم
إلى مواقع الريادة، والقيادة والتنظير، والتأثير، حملهم إلى المؤتمرات، والندوات،
والجماعات والمؤسسات، دون أن يمتلكوا الحد الأدنى المطلوب من العلوم الشرعية،
والثقافة الإسلامية، أو بكلمة مختصرة دون أن يمتلكوا المرجعية الإسلامية المطلوبة،
للنظر والرأي والاجتهاد والتوليد، وتعدية الرؤية من خلال هذه المرجعية، وبذلك
يستمرون بالاغتراف من مرجعياتهم السابقة، التي لم يغادرها الكثير منهم تماماً،
ويفرغون في ساحة الفكر الإسلامي، ولا يمتلكون من المناهج والأصول الإسلامية،
والأصول الشرعية، إلا عموميات وشعارات الإسلام يستخدمها بعضهم كمدخل وجواز مرور إلى
المسلمين، أو مؤسسات العمل الإسلامي، دون أن نلحظ أثر ذلك في فكرهم ونظامهم وعطائهم
المعرفي فعلاً.
فهم سواء من حيث
النتيجة، من حسنت نيته منهم، أو من ساءت طويته، إنهم في الحقيقة يشكلون المعابر
الخفية للغزو الفكري الداخلي، أو الذاتي، الذي يتسلل تحت عناوين وشعارات الثقافة
والمعرفة الإسلامية ويقع الكثير ضحايا لهم، لافتقادهم المعايير الدقيقة.
ولا شك أن
العلوم الإنسانية، تشكل الميدان الخصب، والتربة المناسبة للغزو في حياة المسلمين
الفكرية، منذ عهد بعيد، وذلك لأنها بطبيعة الحال ممتدة ومتقدمة في نطاق الثقافة
الغربية، وأن آليتها ومناهجها، ونظامها المعرفي اليوم، يكاد يكون غربياً بالكامل،
وإننا نحن المسلمين، لا نمتلك في هذا الميدان إلا القيم في الكتاب والسنة، التي
تشكل لنا عواصم ومناعة ثقافية، إن أحسنا التعامل معها، حيث لا بد من
الاعتراف، أننا ما نزال نشكو فقر نظامنا التعليمي، والمعرفي، من آلية ومنهجية،
نابعة من قيمنا، ومتسقة معها، إلا القليل القليل، لذلك فمن السهل جداً، أن يُدخل
علينا، أو أن نُخترق من خلال النظام المعرفي الغربي، لأن الساحة تكاد تكون شبه
خالية تماماً، إلا من بعض النظرات المشتتة والمتفرقة، هنا وهناك، لا ينتظمها منهج
وبالتالي لا تشكل حصانة، ويكفي في غيبة الضوابط المنهجية، لقيم الكتاب والسنة أن
نبهر بما عندهم، أو تحضّر قابلياتنا للتلقي، خاصة إذا ما أضيف لهذه الآليات شعار
الإسلامية، وقدمت المسوغات، والأغطية الشرعية، بسبب إجراء بعض المقاربات مع القيم
الإسلامية، حتى ولو لم يمتلك صاحبها المرجعية الإسلامية، إلا ادعاءا، دون القدرة
على الخروج من معطيات مرجعيته الغربية، وهذا لا يقتصر على مجال الدراسات الإنسانية،
وإن كانت هي الأخطر، وإنما لا ينفك بشكل أو بآخر، عن سائر الحقول المعرفية.
ولعل من التوهم،
الظن بأن الإنتاج المادي، والعلوم التجريبية، هي منتجات وعلوم بريئة محايدة، ومجردة
عن العبور بثقافة أهلها ومنتجيها، إلى السوق الاستهلاكية، وبالتالي فهي لا تشكل
خطورة ثقافية على المتعاملين معها، مع أن الحقيقة: أن الإنتاج المادي كائناً ما كان
هو ثمرة للمكوّن الثقافي، وسبيل إليه، ذلك أن أي إنتاج مادي، لا يمكن أن ينشأ في
فراغ، وبدون خلفيات فكرية، وشاكلات ثقافية.
لذلك يمكن القول: بأن
أي إنتاج مادي لا بد أن يكون متشبعاً بثقافة المنتج، وحاملاً لبصماته، وقسماته
الثقافية، وهو بالتالي يصبح أحد المعابر الرئيسة، لإشاعة القيم الثقافية، بطبيعة
استعمالاته في المجالات المختلفة، وبذلك يعيد وإلى حد بعيد بناء النسيج الاجتماعي
للأمة، كما أنه ينشئ شبكة علاقات اجتماعية جديدة، لأن الإنتاج المادي وآفاق
الارتقاء به ، والتعامل معه، تغرس قيماً، وتنشئ علاقات اجتماعية، ومكونات نفسية،
تتسق معه، وتتشكل ثقافتها وأفكارها به.
صحيح أن المخاطر
المترتبة على العلوم والدراسات الإنسانية والاجتماعية، هي الأخطر في مجال
الغزو الفكري، والتشكيل الثقافي، لكن صحيح أيضاً، أنه من الصعب وضع الحدود الفاصلة،
بين الثقافة التي تمنحها العلوم الإنسانية، ودورها في الغزو الفكري، والتشكيل
الثقافي، لكن صحيح أيضاً، أنه من الصعب وضع الحدود الفاصلة، بين الثقافة التي
تمنحها العلوم الإنسانية، ودورها في الغزو الفكري، وبين ما تحمله العلوم والمنتجات
التجريبية، من ثقافة منتجيها، إلى مستهلكيها، ذلك أن منظومة الأفكار والمعتقدات، هي
التي تنتج العلم، وتحدد أهدافه، وتبين وظيفته وتضع فلسفته، التي تترافق معه، ولا
تغيب أو تتخلف عنه.
والحقيقة التي
لا بد من الإشارة إليها، والتوقف عندها قليلاً، بما يسمح هذا المجال: هي أن الغزو
الفكري لعالم المسلمين، شكل ولا يزال بعض الاختراقات - إن صح التعبير - وتسلل
إلى ميدان خطير يمكن أن نسميه الغزو الديني، ونقصد به هنا أمراً آخر، غير
عملية التنصير، أو التبشير النصراني، الذي يمارس في عالم المسلمين، تحت شتى
المسميات والعناوين. إن الغزو الديني الذي نقصده هنا، وننبه إلى مخاطره، هو في
انتقال علل التدين، وبعض التصورات والتأويلات التي ابتليت بها الأمم السابقة، إلى
المسلمين، الأمر الذي حذر منه القرآن في أكثر من مناسبة، وعرض له بأكثر من أسلوب
وحديث، وقدم دروسه وعبره من قصص الأنبياء، ومجتمعات الأنبياء، واعتبر ذلك نوافذ
للمسلمين ، للإطلالة على واقع الأمم السابقة، والتعرف على أسباب هلاكها وسقوطها،
واكتشاف سنة الله في النهوض والسقوط، لذلك جعل السير في الأرض، والتوغل في التاريخ
الإنساني، من الفرائض الحضارية والاجتماعية، وإنما شرع هذا السير لتحقيق الوقاية
الثقافية، والحصانة الحضارية، من غزو وانتقال علل التدين، التي كانت سبب السقوط
والهلاك للأمم السابقة، كما حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله:
(لتتبعن سنن من قبلكم شبراً
بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول
الله:آليهود والنصارى؟ قال فمن؟! )(رواه
مسلم).
ولعل من أخطر أنواع
الغزو الديني، أو انتقال علل التدين التي تسربت إلى المسلمين، ذلك الصراع المفتعل
بين الوحي، وبين العقل، أو بين الدين، وبين العلم، التي مارستها الكهانة الدينية
الكنسية، حيث احتكرت الفهم والتفسير، والاجتهاد، والتعليم، وجعلت الدين نقيض العلم،
والعقل، وجعلت من مقتضيات التدين الصحيح، إلغاء العقل، وإغلاقه، "فمن تفلسف فقد
تزندق"، وكان شعارها: "أطفئ سراج عقلك واتبعني"، وحالت دون العقل، ووظيفته في
النظر، والتفكير، واكتشاف السنن والأسباب، وإدراك علة الخلق، بدعوى أن ذلك من إرادة
الله، وكأن في الأمر تعارضاً، بين الأسباب التي لم تخرج في الأصل عن إرادة الله
الذي خلقها، وجعلها، موصلة إلى النتائج، وبين إرادة الله ! وتسرب هذا البلاء، أو
هذه الثنائية، بين الوحي والعقل، إلى الفكر الإسلامي، واستنزفت منه هذه الجدليات
العقيمة، البعيدة عن طبيعة الإسلام وقيمه، ردحاً طويلاً، مزق نسيج الأمة الثقافي،
وفرق طاقاتها وبعثر وحدتها الفكرية، وملأ حياتها بالفرق والاختلافات، بعيداً عن
المواقع الفكرية المجدية ، وبدل أن تترجم قيم ومبادئ الإسلام، إلى الأمم الأخرى،
لتخليصها من شقوتها، وما يمارس عليها من الإرهاب الديني، ومن ثم إلحاق الرحمة بها،
ترجمت تلك الجدليات إلى الإسلام، وفصِّلت عليه، فأدى ذلك إلى لون من الانشطار
الثقافي الرهيب، الذي لا يزال يفعل فعله في مناهجنا التعليمية إلى اليوم، ويمارسه
الشركاء المتشاكسون ويذهب ضحيته الطالب.
فالذين توجهوا صوب
الوحي الإلهي، توجسوا في كل دعوة، لإحياء وظيفة العقل، واستعادة دوره في الاجتهاد،
وتطبيق الإسلام على الواقع، من خلال الخلفيات الفكرية التاريخية، التي دخلت على
الإسلام، باسم العقل والعقلانية، لإلغاء الشرع، وتخوفوا من أن الدعوة العقلية في
حقيقتها، يمكن أن تكون مطروحة بديلاً عن الوحي، ونقيضاً له، خاصة وأن كثيرا من دعاة
إحياء وظيفة العقل، نشأوا في مناخ الفصام الثقافي النصراني، بين العقل، والوحي، ولم
يكن للدين نصيب في فكرهم وسلوكهم.. وساهمت بهذا التشوه الثقافي، مناهج
التعليم المزدوجة إلى حد بعيد، حيث توجه، أول ما توجه، الغزو إليها.
ولا يزال هذا الانشطار
الثقافي، يستنزف الكثير من الطاقات الفكرية والعقلية في العالم الإسلامي، وتقوم
معارك مفتعلة، بين الوحي والعقل، على الرغم من أن العقل في الإسلام سند الحقيقة
الدينية ، ومحل الوحي، وإذا أسقط العقل، سقط الوحي والتكليف، وأن الوحي هو
الإطار المرجعي، الذي يمنح العقل القيم المعصومة ولا تعارض -كما يقول الإمام
ابن تيمية وغيره- في الإسلام: بين صحيح المنقول، وصريح المعقول، ذلك أن مصدر
العقل والوحي هو الله، وبالتالي فلا يمكن أن يقع التناقض والتعارض، وأن أي تعارض
معناه ضعف في سند المنقول، أو عجز وخطأ في الفهم، وكيفية الاستدلال. وعند
احتمال التعارض، فإن حكم الوحي المعصوم مقدم على حكم العقل المظنون. ومع ذلك
يأبى دعاة التغريب والعلمنة -جسور ومعابر الغزو الفكري إلى العالم الإسلامي-
إلا أن يجعلوا الوحي، والغيب، والدين، نقيض العقل، والعلم اليقيني، ويضعونه
في خانة الخرافة والأسطورة.
ولعل من أخطر إصابات
الغزو الفكري، ما كان في مجال العملية التعليمية، أو نظم التعليم، في عالم المسلمين
اليوم، هو في إنتاج شخصيات مشوهة، مشوشة، متناقضة، وممزقة، تعيش صراعاً وانشطاراً
ثقافيًّا، لا ينتهي، نتيجة لتناقض الموارد التعليمية، واضطراب فلسفة التعليم،
الذي يذهب ضحيتها الطالب كما أسلفنا، وذلك بسبب الفصل بين التعليم الديني، والتعليم
المدني، الذي كان ثمرة طبيعية، للصراع بين العلم، والدين، أو بين العلم، ورجال
الكنيسة على الأصح، عندما وقف رجال الكنيسة، في وجه العلم والعلماء، ومن ثم جئ به
إلى عالم المسلمين ، الذي لم يعان من تلك المشكلات أصلاً، وإنما كان ارتقاؤه
العلمي، بسبب الإسلام الذي اعتبر العلم بشكل عام عبادة، وفريضة عينية، أو كفائية،
وأن تخلفه اليوم، هو بسبب انسلاخه عن الإسلام، لا بسبب استمساكه والتزامه به.
لذلك بإمكاننا القول:
إن مؤسسات التعليم المدني -إن صح التعبير- التي أقيمت في العالم الإسلامي ،
إنما بنت فلسفتها، على تكريس فصل الدين عن الحياة، ومعاداته، ووضعه في خانة الخرافة
والأساطير، والغيبيات المبهمة، وحاولت إلغاء الوحي كمصدر للمعرفة، لأنها غير خاضعة
للحس والتجريب، وانعكس ذلك على شعب المعرفة كلها.. وأريد لمؤسسات التعليم المدني،
أن تخرِّج أعداءاً للإسلام ، جهلة بتاريخه وثقافته، وحضارته، يدينون للتحكم الثقافي
الغربي، في اللغة، والمنهج، والمصدر، والمرجع والأستاذ، حتى لقد وصل الأمر إلى
تهميش اللغة العربية، التي تعتبر من أهم أدوات التوصيل بين الإنسان والقيم في
الكتاب والسنة والتراث، وإلغاء دورها في الربط بين التفكير والتعبير، ومحاصرتها في
المساجد والمعابد، بعيداً عن مؤسسات التعليم، ومحاولة التمييز بين لغة العلم،
الإنكليزية أو الفرنسية، ولغة الدين، أو بعبارة أخرى ، التمييز بين لغة المعبد،
ولغة المعهد، حتى لتكاد تصبح هذه الغربة حقيقة ثقافية عند بعض الناس.
وكان من الطبيعي أن
يحتل خريجو مؤسسات التعليم المدني، المواقع المؤثرة، في المجتمع، سواء قلنا: إن ذلك
جاء بسبب التخطيط والاحتواء الثقافي، والتمكين السياسي، أم قلنا، : بأنهم
أُهِّلوا بطبيعة دراساتهم وتخصصاتهم، لشغل وظائف الدولة الحديثة، بينما
انغلقت بعض مؤسسات التعليم الشرعي والديني، على الماضي، فعاشت غربة الزمان، وإن لم
تعش غربة المكان، الذي عاشته مؤسسات التغريب، ولم تتنبه لشمولية التصور الإسلامي،
وأهمية التخصصات، المطلوبة للمجتمع، وأنها من الفروض الدينية الكفائية،
وأهمية تطوير فلسفتها، وأساليبها، ومناهجها، ودراساتها، وحوصر خريجوها، ببعض
الوظائف الهامشية، التي حالت دون تأثيرهم في المجتمع، مما أدى إلى عزوف كثير من
الطلاب عنها، إلا في حالات خاصة، من الفقر، والعجز عن متابعة التعليم في
مؤسسات تقتضي نفقة، أو بسبب ضعف المستوى العلمي، الذي لا يؤهلهم إلى دخول مؤسسات
التعليم المدني، وهنا وقعت الواقعة في نوعية الطلبة، وفي أسلوب التعليم وطرائقه
ومخرجاته، ولو لا عطاء الصحوة الإسلامية ، التي حفزت الكثير من الطلبة النابهين على
الدراسات الشرعية، ودخلت المؤسسات التعليمية عامة، وعلى كل المستويات المتوسطة
والجامعية، ولم تخرج منها، كما هو المنطقي، والمطلوب، فأنقذت كثيراً من الأجيال
المسلمة، من التيه، وضياع الانتماء الحضاري، وأعادت الثقة، والاعتبار، لبعض خريجي
المدارس الشرعية، وتقدمت بهم إلى الحياة، لكانت الكارثة التعليمية والثقافية مدمرة
فعلاً.
وليست إصابات الغزو
الفكري في مجال الإعلام الذي يعتبر بحق: مؤسسة التعليم، والتشكيل الثقافي المستمر،
بأقل خطراً، ذلك أن الإعلام، بما يمتلك من إمكانيات فنية تستخدم الصورة والصوت،
والضوء، واللون، واللباس، إلى جانب التنوع، والتفنن، بالأوعية والفقرات الإعلامية،
التي باتت تغطي كل المساحات، وتملأ كل الأوقات، أصبح من أهم وأخطر وسائل الغز
والفكري والتشكيل الثقافي، حتى لنكاد نقول: إن الإنسان بشكل عام بات مرتهناً اليوم
لوسائل الإعلام ، وواقعاً تحت رحمتها، في تكوين آرائه وبناء ثقافته، وتشكيل نظرته
إلى العالم،وقد يكون ميدان الصراع الحضاري الحقيقي اليوم، قد تحول إلى مجال
الإعلام، وأصبح التمكن من امتلاك الشوكة الإعلامية، بكل لوازمها ومقتضياتها، يضمن
الغلبة الثقافية، التي تعتبر ركيزة التفوق الحضاري، ذلك أن الإعلام بقدرته على
الامتداد، والاختراق، ألغى الحدود الجغرافية والسياسية للدول، وتجاوز كل المعوقات،
وامتد بحواس الإنسان حتى أصبح يرى ويسمع العالم من مكانه.
والحقيقة أن هذا الضخ
الإعلامي الرهيب الرعيب، الذي يصب فوق رؤوسنا، والذي حققته ثورة الاتصالات
والمعلومات، بمقدار ما يشكل لنا من مخاطر فكرية وثقافية، بمقدار ما يمنحنا من
إمكانات كبيرة، لو تمكنا من استخدامها وتوظيفها، لاستطعنا أن نصل بالخطاب الإسلامي
إلى كل الدنيا، ونحقق ظهور هذا الدين على الأديان والحضارات، والثقافات العنصرية
القائمة، لأنه الدين الإنساني الذي تستجيب له فطرة الإنسان، ويمثل حق اليقين،
والبديل المأمول، الذي يحقق المشترك الحضاري، والثقافي، الإنساني، بعيداً عن التعصب
والتمييز والتفرقة العنصرية لأنه دين مفتوح مشرع الأبواب لكل الباحثين عن الحق،
وحيث التفاضل فيه للتقوى والعمل الصالح.
وقضية أخرى في مجال
المسألة الإعلامية، أو الإغراق الإعلامي، لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الأمة
التي تمتلك معايير ثابتة ومعصومة، يمكن أن تشكل لها حصانة ثقافية، بإمكانها أن
تحوِّل الطوفان الإعلامي، إلى لون من استشعار التحدي لكيانها، والاستفزاز
لفاعليتها، والاستنفار لطاقاتها المعطلة، الأمر الذي يحملها إلى إبداء الدليل
الصحيح للوقاية الثقافية والإعلامية، ويحفزها على الإنتاج البديل، ويمنحها القدرة
على التعامل، بحيث تتحول المشكلة إلى حل، والنقمة إلى نعمة، والتحدي الخارجي
والداخلي، إلى الشعور بأهمية استرداد الذات، والاعتماد عليها، والاحتماء بها،
وحماية الهوية الثقافية من الإلغاء.
وقد يكون من أخطر
مراحل الغزو أو وسائل الغزو الفكري على الإطلاق اليوم، وفي ظل هيمنة النظام العالمي
الجديد، الذي ليس له من العالمية، أو المشترك الإنساني إلا الاسم، لأنه أصبح يتدخل
بسيادات الدول وثقافاتها بالقوة، وبشكل مكشوف، تحت عنوان "حق التدخل الإنساني"
والذي كان من أولى إصاباته في عالم المسلمين التمكين لسيطرة اليهود، والتوهين
للقيم والمبادئ الإسلامية، ومحاصرة مؤسسات العمل الإسلامي، وشل نشاطها، لأن
ذلك من لوازم الحقبة اليهودية القائمة والقادمة، والتخويف منها، أو دمغها بالتطرف
والإرهاب، والأصولية، نقول: لعل من أخطر وسائل الغزو الفكري، ومراحله، هو ما يسمى
اليوم بمرحلة التطبيع الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، مع يهود، الذي يمكن
أن يعتبر الصورة الأحدث للغزو الفكري المكشوف، حيث يقتضي اقتلاع الثوابت الدينية
والوطنية، ومحو الذاكرة العربية المسلمة، وإلغاء مخزونها الثقافي والفكري،
وإيقاف الموارد الثقافية، والتواصل والنقل المعرفي بين الأجيال، تحت عنوان:
التجفيف، وإعادة التثقيف، أي تجفيف منابع الدين والصحوة، وانتقاص الرؤية القرآنية،
وذلك بحذف الآيات، والأحاديث النبوية، التي تتحدث عن تاريخ يهود وأخلاقهم، ومسخ
الشخصية التاريخية للأمة، والعبث بمناهج الإعلام والتعليم، حتى تؤدي دورها في عملية
التطبيع والتدجين.
والحقيقة التي لا بد
من الاعتراف بها، والتفكير بمواجهتها، أن عملية التطبيع هذه، إنما يحضر لها، وتعد
وسائلها، على الأصعدة المختلفة في التعليم، والإعلام، والسياسة، والثقافة،
منذ زمن بعيد، وأنها من بعض الوجوه، تعتبر الثمرة الدسمة للغزو الفكري التاريخي
لهذه الأمة. وقد يكون المطلوب من مؤسسات العمل الإسلامي جميعها التفكير
بالكيفيات ووضع البرامج المدروسة، للتعامل مع مرحلة ما بعد عملية السلام، المفروضة،
وبناء الحصانات المطلوبة، التي تحول دون السقوط والذوبان، للاحتفاظ بكيان الأمة
وثوابتها وثقافتها، إذا لم تكن قادرة على التغيير.
ولعل من المفيد
الإشارة هنا، إلى ما ورد في نشرة الأنباء العربية، الصادرة عن وكالة الإعلام
الأمريكية في واشنطن، التي تشير إلى أخطر ممارسات الغزو الثقافي، أو التطبيع الفكري
والاجتماعي، كما يسمونه اليوم، بين العرب المهجَّرين والمغتصبة أرضهم، ومنازلهم،
وبين اليهود المحتلين ! وذلك من خلال البرنامج المشبوه المسمى "بذور السلام" حيث
يجتمع 43 فتى من مصر وفلسطين والكيان الإسرائيلي تتراوح أعمارهم ما بين 11 إلى 14
سنة بهدف: إيجاد تواصل بين الأجيال الشابة في البلدان العربية وإسرائيل،
لبناء جسور السلام، من خلال إيجاد قنوات مشتركة للتفاهم بين فئات حديثة النشأة وقد
أعد لذلك برامج، وندوات، وزيارات، وأفلام إلخ.
والمثل الآخر لهذا
الغزو، تحت شعار التطبيع، ما صرح به وزير التربية في إحدى الدول العربية، ونشرته
جريدة المسلمون في عددها الصادر بتاريخ 23 ربيع الآخر 1414هـ الموافق 8 أكتوبر
1993م، من أنه تلقى طلباً أمريكيا بتغيير المناهج المدرسية، بحيث يتم حذف كل إشارة
إلى الصراع العربي الإسرائيلي، وقد عبر الوزير عن دهشته، وقال: إن هذا الطلب يجيء
في الوقت الذي تحفل فيه المناهج، والكتب المدرسية الصهيونية، بآلاف التعابير
المعادية، والمهينة للعرب والمسلمين.. وهكذا تمضي الأمور، ويمكّن للغزو أو التطبيع،
بين المحتل الغاصب، والمظلوم اللاجئ.
وفي تقديري، أن الغزو
الفكري بصوره المتعددة وميادينه المتنوعة، لا يخرج عن أن يكون سنة من سنن التدافع،
في الاجتماع البشري، وهو سر نمو الحياة وامتدادها، ذلك أن التنوع، والاختلاف،
والتباين، هو أساس الفعل التاريخي، ومجال الابتلاءات والفتن المتعددة، في مجالي
الخير والشر، ليتحقق التمحيص، وتستبين الحقيقة، ويتضح سبيل المجرمين، ويذهب الزبد
جفاء، ويمكث الحق في الحياة، ويتمايز الناس، وتتحصل وراثة الأصلح، ذلك أن الشر من
لوازم الخير، قال تعال: (وكذلك جعلنا لكُلّ نبيٍّ عدوًا من المجرمين) (الفرقان:31) وقال: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت
صوامع وبيعُ وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً )(الحج:40) وقال: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد
فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )(الرعد:17) فالغزو الفكري أو الإفك الفكري، بميادينه
المتعددة، وشوكاته المتنوعة، والذي هو سنة من سنن الاجتماع البشري، ليس شرا
كله، بل هو خير، في كثير من الوجوه، قال تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه
شرًّا لكم بل هو خيرُ لكم) (النور:11) لأنه
يعتبر من الكواشف المطلوبة، فلولا الفتن لما عرف النفاق، وتحصن الناس ضده.
لذلك كان يقول بعض
الصالحين: لا تخافوا الفتن فإنها حصاد المنافقين، وجانب الخير فيها لو أحسنا تدبره،
وتبصره، وتحقيق عبرته، كبير، فهو يعتبر من المنبهات الثقافية، والتحديات الحضارية
الضرورية، لإعادة شحذ الفاعلية، واستعادة الذات، وإنهاء حالة الاسترخاء، والكسل،
وإعادة النظر في كيفية التعامل مع القيم الإسلامية ، وإدراك خطورة بعدها عن حكم
الواقع، واكتشاف الثغور المفتوحة، والمعاصي والآثام المقترفة، التي اقتضت مثل هذه
العقوبات.
وكما أننا بحاجة إلى
معرفة الخير، لنفعله، فكذلك نحن بحاجة إلى معرفة الشر، خشية أن يدركنا، ومن لم يعرف
الجاهلية، لا يعرف الإسلام، بكل ما تميز به من النقلة والتحويل، من الوثنية
إلى التوحيد.
والأمر الذي قد يكون
من المفيد الإشارة إليه، والتذكير به، أننا كأمة مسلمة، قد نخسر مواجهة، أو قد نهزم
في معركة أو معارك، فالأمم قد تمرض، وتعاني من عملية السقوط والركود، والتخاذل
وغلبة الأعداء، وقد يكون هذا من ضرورات صحوتها، وإيقاظها، لكن في الأحوال كلها، لا
يجوز أن يختزل تاريخها وعطاؤها الحضاري، في معركة، أو مواجهة، أو غلبة مؤقتة، أو
جولة من جولات الصراع، عندما تخضع لسنة التداول الحضاري، لقوله تعالى:
(وتلك الأيّام نداولها بين
الناس )(آل عمران:140) فكثيراً ما
برهنت هذه الأمة المسلمة على استعلائها بالإيمان حتى في فترات الوهن والهزيمة،
وقلبت الموازين والسنن الاجتماعية والحضارية الشائعة، التي تقضي: بأن المغلوب في
مرحلة السقوط العسكري، والحضاري، مولع دائماً بتقليد الغالب، وإذا بنا نرى في الفعل
التاريخي الإسلامي، أن الغالب تحول إلى التزام ومحاكاة قيم المغلوب، وكانت حضارة،
وثقافة المغلوب، هي الأقدر، على هضم واستيعاب الغالب، كما هو الحال عندما احتلت
صقلية، وسقطت بغداد في يد المغول، وغيرها، حيث كانت ثقافة وحضارة وعقيدة المغلوب،
أقوى من جند الغالب ، فتحول الغالب إلى الإيمان بها والامتداد والانتصار لها، وهذا
ليس من باب التفاؤل الساذج، وإنما هو من وعود ومبشرات الوحي، ومن شواهد الفعل
التاريخي، وتصديق الواقع الملموس.
ولا شك عندي بأن قيم
الكتاب والسنة المعصومة الخالدة المجردة عن حدود الزمان والمكان، هي بالنسبة للأمة
المسلمة عواصم من السقوط، كما أنها تشكل خميرة النهوض، وتوفر الإمكان الحضاري
للأمة، كلما عادت للاستمساك بها، وأن هذه القيم، بمقدار ما تشكل قوة دافعة
للنهوض، واستعادة الفاعلية في أيام العافية، بمقدار ما تشكل قوة وحصانة حضارية
وثقافية مانعة في أوقات الانكسار والسقوط.
إن من مواثيق الله
لهذه الأمة، أن لا يُسلَّط عليها عدوها تسليط استئصال وإلغاء، على مختلف المستويات،
وإنما هي ألوان من الأذى، تلحق بها، بسبب من تقصيرها ومعاصيها، هي عقوبات على
المعاصي، لإعادة الوعي، واستدراك جوانب التقصير، وتحديد مواطن القصور.
ذلك أن من لوازم
الرسالة الخاتمة وخلودها، استمرار حملتها، وخلود الأمة التي تؤمن بها، واستمرار
ظهورها بالحق والهدى والشهادة على الناس.
ولعل مما يمنحنا
الاطمئنان، أن الرسالة الإسلامية هي في حقيقتها رسالة معيارية، جاءت لتصويب ما داخل
النبوات السابقة من تحريف وتبديل، يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين
يديه من الكتاب ومهيمناً عليه )(المائدة:48)
فالهيمنة هنا هي المعيارية بكل مدلولاتها.
والرسول صلى الله عليه
وسلم بما أوحي إليه، يشكل معياراً وشاهداً على الناس، قال تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشرًا
ونذيرا )(الأحزاب:4) . وقال: ( ..ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدا
ً)(البقرة:143) والمعيارية إحدى وظائف
الشهادة.
والأمة المسلمة هي
الأمة المعيار، التي وكل إليها أمر الشهادة على الناس والقيادة لهم، بما تمتلك من
قيم معصومة محفوظة في الكتاب والسنة. قال تعال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على
الناس )(البقرة:143). فالقرآن معيار،
والرسول صلى الله عليه وسلم (السنة والسيرة) معيار، والأمة المسلمة حاملة الكتاب
والسنة معيار، وهذه المعيارية ليست قيماً من وضع الإنسان، يغيرها حسب هواه.
والمعيارية تعني أن
الأمة المسلمة المؤمنة بهذه الرسالة، ستبقى بمأمن من الغزو الفكري لأنها عند
التزامها بقيمها تعرف ماذا تأخذ و ماذا تدع. فالغزو الفكري لا يذوب ثقافتها، ولا
يلغي هويتها، ولا يطغى على قيمها، وإنما هي ألوان من الأذى، قال تعالى:
(لن يضرّوكم إلا أذى
)(آل عمران:111).
والغزو الفكري، إنما
يمتد ابتداء في داخل الأمة، الفاقدة للمعيار ومركز الرؤية، الذي تعرف في ضوئه ماذا
تأخذ، وماذا تدع.. فكيف والحالة هذه يمكن أن تسقط الأمة المسلمة ثقافياً،
وحضارياً؟! لذلك تتركز اليوم وسائل الغزو الفكري، في محاولة إخراج الأمة عن دينها،
وقيمها المعيارية، لتصبح مهيأة، لتقبل ما يلقى إليها، دون القدرة على اختباره،
ومعايرته، بالشكل المطلوب.
ولعل من أخطر وسائل
الغزو القديمة الجديدة اليوم، إنما تكمن في محاولات الاختراق للمؤسسات الإسلامية،
ومواقع العمل الإسلامي ومحاولة الانحراف بها من الداخل، لإخراجها من الإسلام،
أو لحملها على ممارسات، تشوه صورتها، تأتي نتيجة للضغوط الاجتماعية، وردود الأفعال،
في محاولة لتشويه البديل الإسلامي المأمول، بعد أن سقطت القيم الثقافية والسياسية،
التي تغري بالحضارة الغربية، وتبين أن طرحها في بلاد المسلمين كان لوناً من الغزو،
لتحقيق العمالة الحضارية، والثقافية، التي تمكِّن وتقود للعمالة السياسية،واتجه
الناس صوب الإسلام.. ومحاولات هذا الاختراق الثقافي، ستبقى دائمة ومستمرة، يقول
تعالى: (وقالت طائفة من
أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم
يرجعون )(آل عمران:72). فمحاولات
الدخول والخروج مستمرة، والاختراق قائم دائماً. والشواهد كثيرة.
وقد يكون من أخطر
وسائل الاختراق، أو الغزو الثقافي، أو الفكري،عند عدم القدرة على مس معارف الوحي في
الكتاب والسنة، بشكل مباشر، التحول إلى التفسير والتأويل لهذه المعارف، بما يوهن
القيم في نفوس المسلمين، ويخرج بالمعنى عما وضع له اللفظ، كلون من التحريف المعاصر،
في محاولة لتوفير الغطاء، والمسوغات الشرعية لقيم الحضارة الأوروبية.
لذلك لابد من التأكيد،
أنه من الناحية الشرعية، والعلمية، والمنهجية، والثقافية، لا يجوز بحال من الأحوال
الاستقلال بالتفسير بالرأي، والخروج به، عن إطار، وضبط، التفسير بالمأثور، والبيان
النبوي، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وحتى لا نخترق، ويصبح الغزو ذاتياً، ومن الداخل
الإسلامي. فللعقل أن يرتاد الآفاق، ويمتد بالنص، ويجرده عن قيود الزمان
والمكان، ويعدِّي الرؤية، ويحقق الخلود، لكن ذلك لا بد ألا يخرج عن نطاق البيان
النبوي، أو يعارضه أو يلغيه.
وفي تقديري، أن عملية
التجديد، التي أخبر بها المعصوم عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة
سنة من يجدد لها دينها )(رواه أبو داود في
الملاحم) -والذي أرى فيه أمراً تكليفياً زائداً عن الإخبار- إنما تتركز في
إعادة المعايرة للواقع، وما صار إليه، وما لحقه من إصابات الغزو الفكري، وما
توضع عليه من اجتهادات بشرية، بعد أن تبدلت الظروف، وتغيرت المشكلات، وما استجد من
أوضاع، وما ساده من تقليد، كاد يحجب الرؤية عن القيم المعصومة في الكتاب والسنة..
هذه المعايرة أو التجديد، هي في الحقيقة ليست إلغاءاً، أو تبديلاً، أو تعديلاً
للقيم، وإنما هي عودة إلى المعايرة للواقع، بالقيم المعصومة، وإعادة النظر في
تنزيلها على الواقع، واستئصال نابتة السوء، ومحاصرة البدع والخرافات، التي ألفها
الناس، وبيان فسادها، ومخالفتها للشرع، وتحديد مواطن الانحراف، وإصابات الغزو
الفكري، وكشف علل التدين.. وبكلمة مختصرة: التجديد والمعايرة: عودة إلى الينابيع
الأولى للإقلاع من جديد. وبعد؛
فلعل المرحلة التي نمر
بها الآن، تقتضي منا العودة إلى عملية التعبئة العامة،والنفرة خفافاً وثقالاً، في
الميادين المختلفة، في مواجهة الهجمة الشرسة، وإدراك أبعاد ووسائل الغزو الفكري،
وأهدافه، التي يعمل لها في بلاد المسلمين، في حقبة العلو اليهودي الثقافي والسياسي،
بعد العلو العسكري، الذي سبقه، ومهد له، في محاولة لتحقيق الحصانة الحضارية،
والمناعة الفكرية للأمة، والحيلولة دون سقوطها، بما يراد لها في هذا الزمن، الذي
يتعاظم فيه أجر الالتزام بالقيم الإسلامية، بتعاظم الفتن، التي لا بد من
مبادرتها بالأعمال الصالحة، كمسالك، ونماذج عملية، تحقق الحماية، وتحمي نسيج الأمة،
وتحول دون الذوبان، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "بادروا بالأعمال الصالحة
فستكون فتناً كقطع الليل المظلم"، (رواه مسلم) إضافة إلى إعادة بناء نسيجها
الثقافي، وتصويب معاييرها، ولا سبيل إلى ذلك، إلا بالعودة للاستمساك بالكتاب
والسنة، حتى نأمن الضلال، والتضليل الفكري والثقافي.
والكتاب الذي نقدمه
اليوم، هو محاولة لإلقاء بعض الأضواء الكاشفة على وسائل الغزو الفكري، وأهدافه، في
بلاد المسلمين، والتعرف إلى جذورها ومظاهرها.
ولعل الاقتباسات
الكثيرة التي أوردها مؤلف الكاتب - جزاه الله خيراً - تفتح نوافذ واسعة على مراجع
ومصادر فكرية، في المكتبة الإسلامية للكثير من القضايا المطروحة، وتكون دليلاً
لمتابعة هذه المسألة الخطيرة في حياة المسلمين.
والله نسأل أن يلهمنا
رشدنا، ويهدينا إلى سواء السبيل.
|