يزيد بن معاوية : أبو خالد ، الأموي ، ولد سنة خمس أو ست و عشرين ، كان ضخماً كثير
اللحم ، كثير الشعر ، و أمه ميسون بنت بحدل الكليبة .
روى عن أبيه ، و عنه : ابنه خالد ، و عبد الملك بن مروان ، جعله أبوه ولي عهده و
أكره الناس على ذلك كما تقدم . قال الحسن البصري :
أفسد أمر الناس اثنان : عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت ، و
نال من القراء ، فحكم الخوارج ، فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة .
و المغيرة بن شعبة : فإنه كان عامل معاوية على الكوفة فكتب إليه معاوية : إذا قرأت
كتابي فأقبل معزولاً ، فأبطأ عنه فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك ؟ قال أمر كنت
أوطئه و أهيئه ، قال : و ما هو ؟ قال : البيعة ليزيد من بعدك ! قال : أو قد فعلت ؟
قال نعم ، قال : ارجع إلى عملك ، فلما خرج قال له أصحابه : ما وراءك ؟ قال : وضعت
رجل معاوية في غرزغي لا يزال فيه إلى يوم القيامة .
قال الحسن : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم ، و لولا
ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة . و قال ابن سيرين :
وفد عمرو بن حزم على معاوية ، فقال له : أذكرك الله في أمة محمد صلى الله عليه و
سلم بمن تستخلف عليها ، فقال : نصحت و قلت برأيك ، و إنه لم يبق إلا ابني و أبناؤهم
، و ابني أحق . و قال عطية بن قيس : خطب معاوية فقال :
اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت و أعنه ، و إن كنت
إنما حملني حب الوالد لولده و أنه ليس لما صنعت به أهلاً فأقبضه قبل أن يبلغ ذلك ،
فلما مات معاوية بايعه أهل الشام ، ثم بعث إلى أهل المدينة من يأخذ له البيعة ،
فأبى الحسين و ابن الزبير أن يبايعاه ، و خرجا من ليلتهما إلى مكة .
فأما ابن الزبير فلم يبايع و لا دعا إلى نفسه ، و أما الحسين فكان أهل الكوفة
يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية ، و هو يأبى ، فلما بويع يزيد أقام
على ما هو مهموماً يجمع الإقامة مرة و يريد المسيرة إليهم أخرى ، فأشار عليه ابن
الزبير بالخروج ، و كان ابن عباس يقول له : لا تفعل ، و قال له ابن عمر : لا تخرج ،
فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم خيره الله بين الدنيا و الآخرة فاختار الآخرة ،
و إنك بضعة منه ، و لا تنالها ـ يعني الدنيا ـ و اعتنقه و بكى و ودعه ، فكان ابن
عمر يقول : غلبنا حسين بالخروج ، و لعمري لقد رأى في أبيه و أخيه عبرة ، و كلمة في
ذلك أيضاً جابر بن عبد الله و أبو سعيد و أبو واقد الليثي و غيرهم فلم يطع أحد منهم
، و صمم على المسير إلى العراق ، فقال له ابن عباس : و الله إني لأظنك ستقتل بين
نسائك و بناتك كما قتل عثمان ، فلم يقبل منه ، فبكى ابن عباس ، و قال : أقررت عين
ابن الزبير ، و لما رأى ابن عباس عبد الله بن الزبير قال له : قد أتى ما أحببت ،
هذا الحسين يخرج و يتركك و الحجاز ، ثم تمثل :
يا لك من قنبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي و اصفري
و نقري ما شئت أن تنقري
و بعث أهل العراق إلى الحسين الرسل و الكتب يدعونه إليهم ، فخرج من مكة إلى العراق
في عشر ذي الحجة و معه طائفة من آل بيته رجالاً و نساء و صبياناً ، فكتب يزيد إلى
واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله ، فوجه إليه جيشاً أربعة آلاف عليهم عمر بن
سعد بن أبي وقاص ، فخذله أهل الكوفة كما هو شأنهم مع أبيه من قبله ، فلما رهقه
السلاح عرض عليه الاستسلام و الرجوع و المضي إلى يزيد فيضع يده في يده ، فأبوا إلا
قتله ، فقتل و جيء برأسه في طست حتى وضع بين يدي ابن زياد ، لعن الله قاتله و ابن
زياد معه و يزيد أيضاً .
و كان قتله بكربلاء ، و في قتله قصة فيها طول لا يحتمل القلب ذكرها ، فإنا لله و
إنا إليه راجعون ، و قتل معه ستة عشر رجلاً من أهل بيته .
و لما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام و الشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة ، و
الكواكب يضرب بعضها بعضاً ، و كان قتله يوم عاشوراء ، و كسفت الشمس ذلك اليوم و
احمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله ، ثم لا زالت الحمره ترى فيها بعد ذلك و لم
تكن ترى فيها قبله .
و قيل : إنه لم يقلب حجر بيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط ، و صار الورس الذي
في عسكرهم رماداً ، و نحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها مثل النيران ، و
طبخوها فصارت مثل العلقم ، و تكلم رجل بالحسين بكلمة ، فرماه الله بكوكبين من
السماء فطمس بصره . قال الثعالبي : روت الرواة من غير
وجه عن عبد الملك بن عمير الليثي قال : رأيت قي هذا القصر ـ و أشار إلى قصر الإمارة
بالكوفة ـ رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد على ترس ، ثم رأيت رأس عبيد
الله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد ، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن
الزبير ، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك ، فحدثت بهذا الحديث عبد الملك ،
فتطير منه و فارق مكانه .
و أخرج الترمذي عن سلمى قالت :
دخلت على أم سلمة و هي تبكي فقلت : ما يبكيك ؟ قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه
و سلم في المنام ـ و على رأسه و لحيته التراب ـ فقلت ما لك يا رسول الله ؟ قال :
شهدت قتل الحسين آنفاً .
و أخرج البيهقي في الدلائل
عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم
بنصف النهار أشعث أغبر ـ و بيده قارورة فيها دم ـ فقلت : بأبي و أمي يا رسول الله ،
ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه ، لم أزل ألتقطه منذ اليوم ، فأحصي
ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ .
و أخرج أبو نعيم في الدلائل
عن أم سلمة قالت: سمعت الجن تبكي على حسين و تنوح عليه .
و أخرج ثعلب في أماليه عن
أبي خباب الكلبي قال : أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب : أخبرني بما بلغني
أنكم تسمعون نوح الجن ، فقال : ما تلقى أحد إلا أخبرك أنه سمع ذلك ، قلت : فأخبرني
بما سمعت أنت ، قال : سمعتهم يقولون :
مسح الرسول جبينه فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قري ش وجده خير الجدود
و لما قتل الحسين و بنو أبيه بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد ، فسر بقتلهم أولاً ،
ثم ندم لما مقته المسلمون على ذلك ، و أبغضه الناس ، و حق لهم أن يبغضوه .
و أخرج أبو يعلى في مسنده
بسند ضعيف عن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم يزال أمر أمتي بالقسط ، حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له : يزيد
.
و قال نوفل بن أبي الفرات : كنت عند عمر بن عبد العزيز
، فذكر رجل يزيد ، فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير
المؤمنين ؟ و أمر به ، فضرب عشرين سوطاً .
و في سنة ثلاث و ستين بلغه أن أهل المدينة خرجوا عليه و خلعوه فأرسل إليهم جيشاً
كثيفاً و أمرهم بقتالهم ، ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير ، فجاؤوا و كانت وقعة
الحرة على باب طيبة ، و ما أدراك ما وقعة الحرة ؟ ذكرها الحسن مرة فقال : و الله ما
كاد ينجوا منهم أحد ، قتل فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم و من غيرهم ، و نهبت
المدينة ، و افتض فيه ألف عذراء ، فإنا لله و إنا إليه راجعون ! قال صلى الله عليه
و سلم : من أخاف أهل المدينة أخافه الله ، و عليه لعنة الله و
الملائكة و الناس أجمعين رواه مسلم .
و كان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي ، و أخرج
الواقدي من طرق أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل قال :
و الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن يرمى بالحجارة من السماء !
إنه رجل ينكح
أمهات الأولاد ، و البنات ، و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة .
قال الذهبي : و لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل ـ مع
شربه الخمر و إتيانه المنكرات ـ اشتد عليه الناس ، و خرج عليه غير واحد ، و لم
يبارك الله في عمره ، و سار جيش الحرة إلى مكة لقتال ابن الزبير ، فمات أمير الجيش
بالطريق ، فاستخلف عليهم أميراً ، و أتوا مكة ، فحاصروا ابن الزبير و قاتلوه و رموه
بالمنجنيق ، و ذلك في صفر سنة أربع و ستين ، و احترقت من شرارة نيرانهم أستار
الكعبة و سقفها و قرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل و كان في السقف ، و أهلك
الله يزيد في نصف شهر ربيع الأول من هذا العام ، فجاء الخبر بوفاته و القتال مستمر
، فنادى ابن الزبير : يا أهل الشام إن طاغيتكم قد هلك ، فانقلوا و ذلوا و تخطفهم
الناس ، و دعا ابن الزبير إلى بيعة نفسه ، و تسمى بالخلافة ، و أما أهل الشام
فبايعوا معاوية بن يزيد ، و لم تطل مدته كما سيأتي .
ومن شعر يزيد :
آب هذا الهم فاكتنعا و أمر النوم فامتنعا
راعياً للنجم أرقبه فإذا ما كوكب طلعا
حام حتى إنني لأرى أنه بالغور قد وقعا
و لها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا
نزهة حتى إذا بلغت نزلت من جلق بيعا
في قباب وسط دسكرة حولها الزيتون قد ينعا
و أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمر قال : أبو بكر
الصديق أصبتم اسمه ، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه ، ابن عفان ذو النورين قتل
مظلوماً يؤتى كفلين من الرحمة ، معاوية و ابنه ملكا الأرض المقدسة ، و السفاح ، و
سلام ، المنصور ، و جابر ، و الأمين ، و أمير الغضب ، كلهم من بني كعب بن لؤي ،
كلهم صالح لا يوجد مثله . قال الذهبي : له طرق عن ابن
عمر ، و لم يرفعه أحد .
و أخرج الواقدي عن أبي جعفر الباقر قال : أول من كسا
الكعبة الديباج يزيد بن معاوية .
مات في أيام يزيد من الأعلام سوى الذين قتلوا مع الحسين ، و في وقعة الحرة : أم
سلمة أم المؤمنين ، و خالد بن عرفطة ، و جرهد الأسلمي ، و جابر بن عتيك ، و بريدة
بن الحصيب ، و مسلمة بن مخلد ، و علقمة بن قيس النخعي الفقيه ، و مسروق ، و المسور
بن مخرمة ، و غيرهم ، رضي الله عنهم .
و عدة المقتولين بالحرة من قريش و الأنصار ثلاثمائة و ستة رجال .
|