-
مبايعته ، رضي الله
عنه
روى الشيخان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس
مرجعه من الحج ، فقال في خطبته : قد بلغني أن فلاناً منكم يقول : لو مات عمر بايعت
فلاناً فلا يغترن امرؤ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة و تمت ألا و إنها قد
كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها ، و ليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي
بكر ، و إنه كان من خيرنا حين توفى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إن علياً و
الزبير و من معهما تخلفوا في بيت فاطمة ، و تخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفه بني
ساعدة ، و اجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له : يا أيا بكر : انطلق بنا إلى
إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع
القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرون ؟ قلت : نريد إخواننا من الأنصار ،
فقالا : عليكم ألا تقربوهم و اقضوا أمركم يا معشر المهاجرين ، فقلت : و الله
لنأتينهم ، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا هم مجتمعون ، و إذا بين
ظهرانيهم رجل مزمل فقلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له ؟ قالوا :
وجع ، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ، و قال : أما بعد ، فنحن
أنصار الله و كتيبة الإسلام ، و أنتم يا معشر المهاجرين رهط منا ، و قد دفت دافة
منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا و تحضنونا من الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم و
قد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر ، و قد كنت أداري منه
بعض الحد ، و هو كان أحلم مني و أوقر ، فقال أبو بكر : على رسلك فكرهت أن أغضبه ، و
كان أعلم مني ، و الله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بداهته مثلها و
أفضل منها حتى سكت ، فقال : أما بعد فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله ، و لم تعرف
العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً و داراً ، و قد رضيت
لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي و بيد أبي عبيدة بن الجراح و
هو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها ، و كان و الله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني
ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، فقال قائل من الأنصار : أنا
جذيلها المحكك و عذيقها المرجب ، منا أمير و منكم أمير يا معشر قريش ، و كثر اللغط
، و ارتفعت الأصوات ، حتى خشيت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده ،
فبايعته و بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، أما و الله ما وجدنا فيما حضرنا
أمراً هو أوفق من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ، و لم تكن بيعة أن
يحدثوا بعدنا بيعة ، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضي ، و إما أن نخالفهم فيكون فيه
فساد .
و أخرج النسائي و أبو يعلي
و الحاكم و صححه عن ابن مسعود قال : لما قبض
رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت الأنصار : منا أمير و منكم أمير ، فأتاهم عمر
بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا معشر الأنصار ، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟
فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر .
و أخرج ابن سعد و الحاكم
و البيهقي عن أبي سعد الخدري ، قال : قبض رسول الله و
اجتمع الناس في دار سعد بن عبادة و فيهم أبو بكر و عمر ، فقام خطباء الأنصار ، فجعل
الرجل منهم يقول : يا معشر المهاجرين إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا
استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا ، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا و منكم ،
فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك ، فقام زيد بن ثابت فقال : أتعلمون أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم كان من المهاجرين ، و خليفته من المهاجرين ، و نحن كنا أنصار رسول
الله صلى الله عليه و سلم ، فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره ، ثم أخذ بيد أبي بكر
فقال : هذا صاحبكم ، فبايعه عمر ثم بايعه المهاجرين و الأنصار ، و صعد أبو بكر
المنبر فنظر في وجوه القوم ، فلم ير الزبير ، فدعا بالزبير فجاء ، فقال : قلت ابن
عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و حواريه أردت أن تشق عصا المسلمين ، فقال : لا
تثريب يا خليفة رسول الله ، فقام فبايعه ، ثم نظر في وجه القوم فلم ير علياً فدعا
به فجاء فقال : قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم و ختنه على ابنته أردت أن
تشق عصا المسلمين ، فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله ، فبايعه .
و قال ابن إسحاق في السيرة
: حدثني الزهري قال : حدثني أنس بن مالك قال :
لما بويع أبو بكر في السقيفة و كان الغد جلس أبو بكر على المنبر ، فقام عمر فتكلم
قبل أبي بكر ، فحمد الله و أثنى عليه ، ثم قال : إن الله قد جمع أمركم على خيركم
صاحب رسول الله و ثاني اثنين إذا هما في الغار فقوموا فبايعوه ، فبايع الناس أبا
بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة .
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله و أثنى عليه ، ثم قال : أما بعد أيها الناس فإني قد وليت
عليكم و لست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، و إن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، و
الكذب خيانة ، و الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، و القوي فيكم
ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم
الله بالذل ، و لا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت
الله و رسوله ، فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم
يرحمكم الله .
و أخرج موسى بن عقبة في مغازيه
و الحاكم و صححه عن عبد الرحمن بن عوف قال :
خطب أبو بكر ، فقال : و الله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً و لا ليلة قط ، و لا
كنت راغباً فيها ، و لا سألتها الله في سر و لا علانية ، و لكني أشفقت من الفتنة ،
و مالي في الإمارة من راحة ، لقد قلدت أمراً عظيماً مالي به من طاقة و لا يد إلا
بتقوية الله ، فقال علي و الزبير : ما غضبنا إلا لأنا
أخرنا عن المشورة ، و إنا نرى أبا بكر أحق الناس بها ، إنه لصاحب الغار ، و إنا
لنعرف شرفه و خيره ، و لقد أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصلاة بالناس و هو
حي .
و أخرج ابن سعد عن إبراهيم التميمي قال : لما قبض رسول
الله صلى الله عليه و سلم أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال : أبسط يدك لأبايعك إنك
أمين هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال أبو عبيدة لعمر : ما
رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت ! أتبايعني و فيكم الصديق و ثاني اثنين ؟
الفهة : ضعف الرأي .
و أخرج ابن سعد أيضاً عن محمد أن أبا بكر قال لعمر :
ابسط يدك لأبايعك ، فقال له عمر : أنت أفضل مني ، فقال له أبو بكر : أنت أقوى مني ،
ثم كرر ذلك ، فقال عمر : فإن قوتي لك مع فضلك ، فبايعه .
و أخرج أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال : توفي
رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر في طائفة من المدينة ، فجاء فكشف عن وجهه
، فقبله و قال : فداء لك أبي و أمي ما أطيبك حياً و ميتاً ، مات محمد و رب الكعبة ـ
فذكر الحديث ـ قال : و انطلق أبو بكر و عمر يتفاودان حتى أتوهم ، فتكلم أبو بكر ،
فلم يترك شيئأ أنزل في الأنصار و لا ذكره رسول الله صلى الله عليه و سلم في شأنهم
إلا ذكره ، و قال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لو سلك الناس
وادياً و سلكت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار ، و لقد علمت يا سعد أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال و أنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ،
فبر الناس تبع لبرهم ، و فاجرهم تبع لفاجرهم فقال له سعد : صدقت ، نحن
الوزراء و أنتم الأمراء .
و أخرج ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : لما بويع
أبو بكر رأى من الناس بعض الانقباض ، فقال : أيها الناس ؟ ما يمنعكم ! ألست أحقكم
بهذا الأمر ؟ ألست أول من أسلم ؟ ألست ؟ فذكر خصالاً .
و أخرج أحمد عن رافع الطائي ؟ قال : حدثني أبو بكر عن
بيعته ، و ما قالته الأنصار و ما قاله عمر ، قال : فبايعوني و قبلتها منهم ، و
تخوفت أن تكون فتنة يكون بعدها ردة .
و أخرج ابن إسحاق و ابن عايد
في مغازيه عنه أنه قال لأبي بكر : ما حملك على
أن تلي أمر الناس و قد نهيتني أن أتأمر على اثنين ؟ قال : لم أجد من ذلك بداً ،
خشيت على أمة محمد صلى الله عليه و سلم الفرقة .
و أخرج أحمد عن قيس بن أبي حازم قال : إني لجالس عند
أبي بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بشهر ، فذكر قصته ، فنودي
في الناس الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فصعد المنبر ، ثم قال أيها الناس لوددت أن
هذا كفانيه غيري ، و لئن أخذتموني بسنة نبيكم ما أطيقها ، إن كان لمعصوماً من
الشيطان ، و إن كان لينزل عليه الوحي من السماء .
و أخرج ابن سعد عن الحسن البصري قال : لما بويع أبو
بكر قام خطيباً فقال : أما بعد فإني وليت هذا الأمر و أنا له كاره ، و و الله لوددت
أن بعضكم كفانيه ، ألا و إنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله صلى
الله عليه و سلم لم أقم به ، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عبداً أكرمه الله
بالوحي و عصمه به ، ألا و إنما أنا بشر ، و لست بخير من أحدكم ، فراعوني ، فإذا
رأيتموني استقمت فاتبعوني ، و إذا رأيتموني زغت فقوموني ، و اعلموا أن لي شيطاناً
يعتريني ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ، لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم .
و ابن سعد و الخطيب في رواية مالك عن عروة قال : لما
ولي أبو بكر خطب الناس ، فحمد الله و أثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني قد وليت
أمركم ، و لست بخيركم ، و لكنه نزل القرآن ، و سن النبي صلى الله عليه و سلم السنن
، و علمنا فعلمنا ، فاعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس التقى ، و أعجز العجوز الفجور
، و أن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه ، و أن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه
الحق ، أيها الناس إنما أنا متبع ، و لست بمبتدع ، فإذا أحسنت فأعينوني ، و إن أنا
زغت فقوموني ، أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم .
قال مالك : لا يكون أحد إماماً أبداً إلا على هذا
الشرط .
و أخرج الحاكم في مستدركه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتجت مكة ،
فسمع أبو قحافة ذلك ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال : أمر جلل ، فمن قام بالأمر بعده ؟ قالوا : ابنك ، قال : فهل رضيت بذلك بنو عبد
مناف و بنو المغيرة ؟ قالوا : نعم ، قال : لا واضع لما رفعت و لا رافع لما وضعت .
و أخرج الواقدي من طرق عن عائشة ، و ابن عمر ، و سعيد
بن المسيب ، و غيرهم رضي الله عنهم أن أبا بكر بويع يوم قبض رسول الله صلى الله
عليه و سلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من
الهجرة . و أخرج الطبراني في
الأوسط عن ابن عمر قال : لم يجلس أبو بكر الصديق في مجلس رسول الله صلى الله
عليه و سلم على المنبر حتى لقي الله ، و لم يجلس عمر في مجلس أبي بكر حتى لقي الله
، و لم يجلس عثمان في مجلس عمر حتى لقي الله .
|
- ما وقع من الأحداث زمن
خلافته
و الذي وقع في أيامه من الأمور الكبار : تنفيذ جيش أسامة ، و قتال أهل الردة ، و ما
نعي الزكاة ، و مسيلمة الكذاب ، و جمع القرآن .
أخرج الإسماعيلي عن عمر رضي الله عنه قال : لما قبض
رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتد من ارتد من العرب و قالوا : نصلي و لا نزكي
فأتيت أبا بكر فقلت : يا خليفة رسول الله تألف الناس و ارفق بهم فإنهم بمنزلة الوحش
فقال : رجوت نصرتك و جئتني بخذلانك جباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام ، بماذا
عسيت أن أتألفهم ؟ بشعر مفتعل أو بسحر مفترى ؟ هيهات هيهات مضى النبي صلى الله عليه
و سلم و انقطع الوحي و الله لأجاهدنهم ما استمسك السيف في يدي و إن منعوني عقالاً ،
قال عمر : فوجدته في ذلك أمضى مني و أحزم و آدب الناس على أمور هانت على كثير من
مؤونتهم حين وليتهم .
و أخرج أبو القاسم البغوي ، و
أبو بكر الشافعي في فوائده ، و
ابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما توفي
رسول الله صلى الله عليه و سلم اشرأب النفاق ، و ارتدت العرب ، و انحازت الأنصار ،
فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي
بفنائها و فضلها ، قالوا: أين يدفن النبي صلى الله عليه و سلم ؟ فما وجدنا عند أحد
من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ما من
نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه ، قالت : و اختلفوا في ميراثه ، فما وجدوا
عند أحد من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة .
قال الأصمعي : الهيض : الكسر للعظم ، و الإشرئباب : رفع الرأس .
قال بعض العلماء : و هذا أول اختلاف وقع بين الصحابة رضي الله عنهم ، فقال بعضهم :
ندفنه بمكة بلده الذي ولد بها و قال آخرون : بل بمسجده ، و قال آخرون : بل بالبقيع
، و قال آخرون : بل في بيت المقدس مدفن الأنبياء ، حتى أخبرهم أبو بكر بما عنده من
العلم .
قال ابن زنجويه : و هذه سنة تفرد بها الصديق من بين المهاجرين و الأنصار و رجعوا
إليه فيها . و أخرج البيهقي و
ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : و الذي لا إله إلا هو لولا أن
أبا بكر استخلف ما عبد الله ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، فقيل له : مه يا
أبا هريرة ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة
إلى الشام ، فلما نزل بذي خشب قبض النبي صلى الله عليه و سلم و ارتدت العرب حول
المدينة ، و اجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : رد هؤلاء ،
توجه هؤلاء إلى الروم و قد ارتدت العرب حول المدينة ؟ فقال : و الذي لا إله إلا هو
لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله
صلى الله عليه و سلم ، و لا حللت لواء عقده ، فوجه أسامة ، فجعل لا يمر بقبيل
يريدون الارتداء إلا قالوا : لو لا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ، و
لكن ندعهم حتى يلقوا الروم ، فلقوهم فهزموهم و قتلوهم و رجعوا سالمين ، فثبتوا على
الإسلام .
أخرج عن عروة قال : جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في مرضه : أنفذوا جيش
أسامة ، فسار حتى بلغ الجرف ، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول : لا تجعل ،
فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثقل ، فلم يبرح حتى قبض رسول الله صلى الله عليه
و سلم ، فلما قبض رجع إلى أبي بكر ، فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثني و
أنا على غير حالكم هذه و أنا أتخوف أن تكفر العرب ، و إن كفرت كانوا أول من يقاتل ،
و إن لم تكفر مضيت فإن معي سروات الناس و خيارهم ، فخطب أبو بكر الناس ، ثم قال : و
الله لأن يخطفني الطير أحب إلي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صلى الله عليه و
سلم ، فبعثه .
قال الذهبي : لما اشتهرت وفاة النبي صلى الله عليه و
سلم بالنواحي ارتدت طوائف كثيرة من العرب عن الإسلام ، و منعوا الزكاة ، فنهض أبو
بكر الصديق لقتالهم ، فأشار عليه عمر و غيره أن يفتر عن قتالهم ، فقال : و الله لو
منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم
على منعها ، فقال عمر : كيف تقاتل الناس و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، و أن
محمداً رسول الله فمن قالها عصم مني ماله و دمه إلا بحقها و حسابه على الله ؟
فقال أبو بكر : و الله لأقاتلن من فرق بين الصلاة و الزكاة ، فإن الزكاة حق
المال و قد قال [ إلا بحقها ] قال عمر : فو الله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر
أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق . أخرجه الشيخان و
غيرهما .
و عن عروة قال : خرج أبو بكر في المهاجرين و الأنصار حتى بلغ نقعاً حذاء نجد ، و
هربت الأعراب بذراريهم ، فكلم الناس أبا بكر ، و قالوا : ارجع إلى المدينة و إلى
الذرية و النساء ، و أمر رجلاً على الجيش ، و لم يزالوا به حتى رجع ، و أمر خالد بن
الوليد ، و قال له : إذا أسلموا و أعطوا الصدقة ، فمن شاء منكم أن يرجع فليرجع ، و
رجع أبو بكر إلى المدينة .
و أخرج الدارقطني عن ابن عمر قال : لما برز أبو بكر و
استوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها و قال : إلى أين يا خليفة رسول الله
؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد : شم سيفك ، و لا
تفجعنا بنفسك ، و ارجع إلى المدينة ، فو الله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام
أبداً .
وعن حنظلة بن علي الليثي أن أبا بكر بعث خالداً و أمره أن يقاتل الناس على خمس من
ترك واحدة منهن قاتله كما يقاتل من ترك الخمس جميعاً : على شهادة أن لا إله إلا
الله ، و أن محمداً عبده و رسوله ، و إقام الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و صوم رمضان ،
و حج البيت ، و سار خالد و من معه في جمادى الآخرة ، فقاتل بني أسد ، و غطفان ، و
قتل من قتل و أسر من أسر ، و رجع الباقون إلى الإسلام ، و استشهد بهذه الواقعة من
الصحابة عكاشة بن محصن ، و ثابت بن أقرم .
و في رمضان من هذه السنة ماتت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم سيدة نساء
العالمين و عمرها أربع و عشرون سنة .
قال الذهبي : و ليس لرسول الله صلى الله عليه و سلم
نسب إلا منها ، فإن عقب ابنته زينب انقرضوا ، قاله الزبير بن
بكار ، و ماتت قبلها بشهر أم أيمن .
وفي شوال مات عبد الله بن أبي بكر الصديق .
ثم سار بجموعه إلى اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب في أواخر العام ، و التقى الجمعان ،
و دام الحصار أياماً ، ثم قتل الكذاب لعنه الله ، قتله وحشي قاتل حمزة .
و استشهد فيها خلق من الصحابة : أبو حذيفة بن عتبة ، و سالم مولى أبي حذيفة ، و
شجاع بن وهب ، و زيد بن الخطاب ، و عبد الله بن سهل ، و مالك بن عمرو ، و الطفيل بن
عمرو الدوسي ، و يزيد بن قيس ، و عامر بن البكير ، و عبد الله بن مخرمة ، و السائب
بن عثمان بن مظعون ، و عباد بن بشر و معن بن عدي ، و ثابت بن قيس بن شماس ، و أبو
دجانة سماك بن حرب ، و جماعة آخرون تتمة سبعين ، و كان لمسيلمة يوم قتل مائة و
خمسون سنة و مولده قبل مولد عبد الله والد النبي صلى الله عليه و سلم .
و في سنة اثني عشرة بعث الصديق العلاء بن الحضرمي إلى البحرين ، و كانوا قد ارتدوا
فالتقوا بجواثي ، فنصر المسلمين ، و بعث عكرمة بن أبي جهل إلى عمان ، و كانوا قد
ارتدوا ، و بعث المهاجر بن أبي أمية أهل النجير ، و كانوا قد ارتدوا ، و بعث زياد
بن لبيد الأنصاري إلى طائفة من المرتدة ، و فيها مات أبو العاص بن الربيع زوج زينب
بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و الصعب بن جثامة الليثي ، و أبو مرثد الغنوي
. و فيها بعد فراغ قتال أهل الردة بعث الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد إلى أرض
البصرة ، فغزا الأبلة ، فافتتحها و افتتح مدائن كسرى التي بالعراق صلحاً و حرباً ،
و فيها أقام الحج أبو بكر الصديق ، ثم رجع فبعث عمرو بن العاص و الجنود إلى الشام ،
فكانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، و نصر المسلمون و بشر بها أبو
بكر و هو بآخر رمق ، و استشهد بها عكرمة بن أبي جهل ، و هشام بن العاصي في طائفة .
و فيها كانت وقعة مرج الصفر ، و هزم المشركون ، و استشهد بها الفضل بن العباس في
طائفة .
|
- جمع القرآن
أخرج البخاري عن زيد بن ثابت قال : أرسل إلي أبو بكر
مقتل أهل اليمامة و عنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد
استحر يوم اليمامة بالناس ، و إني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب
كثير من القرآن إلا أن يجمعوه وإني لأرى أن يجمع القرآن ، قال أبو بكر : فقلت لعمر
: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال عمر : هو و الله
خير ، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ، فرأيت الذي أرى عمر ، قال
زيد : ـ و عمر عنده جالس لا يتكلم ـ فقال أبو بكر : إنك شاب عاقل ، و لا نتهمك ، و
قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، فتتبع القرآن فاجمعه ، فو الله
لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ، فقلت :
كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر : هو و الله خير
، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر و عمر ، فتتبعت القرآن
أجمعه من الرقاع و الأكتاف و العسب و صدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع
خزيمة بن ثابت لم أجدهما مع غيره [ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ] إلى آخرها ، فكانت
الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه
الله ، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها .
و أخرج أبو يعلي عن علي قال : أعظم الناس أجراً في
المصاحف أبو بكر ، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين .
|
-
أولياته
منها أنه أول من أسلم ، و أول من جمع القرآن ، و أول من سماه مصحفاً ، و تقدم دليل
ذلك ، و أول من سمي خليفة .
أخرج أحمد عن أبي بكر بن أبي قال : قيل لأبي بكر : يا
خليفة الله ، قال أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أنا راضي به .
و منها أنه أول من ولي الخلافة و أبوه حي ، و أول خليفة فرض له رعيته العطاء .
أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما
استخلف أبو بكر قال : لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي ، و شغلت
بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ، و يحترف للمسلمين .
و أخرج ابن سعد من عطاء بن السائب قال : لما رجع أبو
بكر أصبح و على ساعده أبراد و هو ذاهب إلى السوق ، فقال عمر : أين أطعم عيالي ؟
فقال : انطلق يفرض لك أبو عبيدة ، فانطلقا إلى أبي عبيدة ، فقال : أفرض لك قوت رجل
من المهاجرين ليس بأفضلهم و لا أوكسهم ، و كسوة الشتاء و الصيف ، إذا أخلقت شيئاً
رددته و أخذت غيره ، ففرضنا له كل يوم نصف شاة و ما كساه في الرأس و البطن .
و أخرج ابن سعد عن ميمون قال : لما استخلف أبو يكر
جعلوا له ألفين ، فقال : زيدوني فإن لي عيالاً و قد شغلتموني عن التجارة ، فزادوه
خمسمائة .
و أخرج الطبراني في مسنده عن الحسن بن علي بن أبي طالب
قال : لما احتضر أبو بكر قال : يا عائشة ، انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها ، و
الجفنة التي كنا نصطبغ فيها ، و القطيفة التي كنا نلبسها ، فإنا كن ننتفع بذلك حين
كنا نلي أمر المسلمين . فإذا مت فاردديه إلى عمر ، فلما مات أبو بكر أرسلت به إلى
عمر ، فقال عمر : رحمك الله يا أبا بكر ! لقد أتعبت من جاء بعدك . و أخرج
ابن أبي الدنيا عن أبي بكر بن حفص قال : قال أبو بكر ـ
لما اختضر ـ لعائشة رضي الله عنها : يا بنية ، إنا ولينا أمر المسلمين فلم نأخذ
ديناراً و لا درهماً ، و لكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا ، و لبسنا من خشن
ثيابهم على ظهورنا ، و إنه لم يبق عندنا من فيء المسلمين قليل و لا كثير إلا هذا
العبد الحبشي و هذا البعير الناضح و جرد هذه القطيفة فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر .
و منها أنه أول من اتخذ بيت المال .
أخرج ابن سعد عن سهل بن أبي خيثمة و غيره أن أبا بكر
كان له بيت مال بالسنح ليس يحرسه أحد ، فقيل له : ألا تجعل عليه من يحرسه ؟ قال :
عليه قفل ، فكان يعطي ما فيه حتى يفرغ ، فلما انتقل إلى المدينة حوله فجعله في داره
، فقدم عليه مال ، فكان يقسمه على فقراء الناس فيسوي بين الناس في القسم ، و كان
يشتري الإبل و الخيل و السلاح فيجعله في سبيل الله ، و اشترى قطائف أتي بها من
البادية ففرقها في أرامل المدينة ، فلما توفي أبو بكر و دفن دعا عمر الأمناء و دخل
بهم في بيت مال أبي بكر منهم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان ، ففتحوا بيت المال
فلم يجدوا فيه شيئاً و لا ديناراً و لا درهماً .
قلت : و بهذا الأثر يرد قول العسكري في الأوائل : إن أول من اتخذ بيت المال عمر ، و
إنه لم يكن للنبي صلى الله عليه و سلم بيت مال ، و لا لأبي بكر رضي الله عنه و قد
رددته عليه في كتابي الذي صنفته في الأوائل ، تنبه له في موضع آخر من كتابه ، فقال
: إن أول من ولي بيت المال أبو عبيدة بن الجراح لأبي بكر .
و منها قال الحاكم : أول لقب في الإسلام لقب أبي بكر
رضي الله عنه [ عتيق ] .
أخرج الشيخان عن جابر رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا و هكذا
فلما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو بكر :
من كان له عند رسول الله صلى الله عليه و سلم دين أو عدة فليأتنا ، فجئت و أخبرته
، فقال : خذ ، فأخذت فوجدتها خمسمائة ، فأعطاني ألفاً و خمسمائة .
|
-
حلمه ، و تواضعه
أخرج ابن عساكر عن أنيسة قالت : نزل فينا أبو بكر ثلاث
سنين قبل أن يستخلف و سنة بعدما استخلف ، فكان جواري الحي يأتينه بغنمهن فيحلبهن
لهن .
و أخرج أحمد في الزهد عن
ميمون بن مهران قال : جاء رجل إلى أبي بكر فقال : السلام عليك يا خليفة رسول الله ،
قال : من بين هؤلاء أجمعين .
و أخرج ابن عساكر عن أبي صالح الغفاري : أن عمر بن
الخطاب [ كان يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيسقي لها ،
و يقوم بأمرها ، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت ، فجاءها
غير مرة كيلا يسبق إليها ، فرصده عمر ، فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها ـ و هو يومئذ
خليفة ـ فقال عمر : أنت هو لعمري ] .
و أخرج أبو نعيم و غيره عن عبد الرحمن الأصبهاني قال :
جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر و هو على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال :
انزل عن مجلس أبي ، فقال : صدقت إنه مجلس أبيك ، و أجلسه في حجره ، و بكى ، فقال
علي : و الله ما هذا عن أمري ، فقال : صدقت و الله ما أتهمك .
أخرج ابن سعد عن ابن عمر قال : استعمل النبي صلى الله
عليه و سلم أبا بكر على الحج في أول حجة كانت في الإسلام ، ثم حج رسول الله صلى
الله عليه و سلم في السنة المقبلة ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم و
استخلف أبو بكر استعمل عمر بن الخطاب على الحج ، ثم حج أبو بكر من قابل ، فلما قبض
أبو بكر و استخلف عمر استعمل عبد الرحمن بن عوف على الحج ، ثم لن يزل عمر يحج سنيه
كلها حتى قبض ، فاستخلف عثمان ، و استعمل عبد الرحمن بن عوف على الحج .
|
-
مرضه ، و وفاته ، و وصيته ، و استخلافه عمر بن الخطاب ، رضي الله تعالى عنهما
أخرج سيف و الحاكم عن ابن عمر قال : كان سبب موت أبي
بكر وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كمد فما زال جسمه يجري حتى مات . يجري : أي
ينقص . و أخرج ابن سعد و الحاكم
بسند صحيح عن ابن شهاب أن أبا بكر و الحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت
لأبي بكر ، فقال الحارث لأبي بكر : ارفع يدك يا خليفة رسول الله ، و الله إن فيها
لسم سنة ، و أنا و أنت نموت في يوم واحد ، فرفع يده ، فلم يزالا عليلين حتى ماتا في
يوم واحد عند انقضاء السنة .
و أخرج الحاكم عن الشعبي قال : ماذا نتوقع من هذه
الدنيا الدنية و قد سم رسول الله صلى الله عليه و سلم و سم أبو بكر ؟
و أخرج الواقدي و الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت
: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة ، و
كان يوماً بارداً ، فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة . و توفي ليلة الثلاثاء
لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ، و له ثلاث و ستون سنة .
و أخرج ابن سعد و ابن أبي الدنيا
عن أبي السفر ، قال : دخلوا على أبي بكر في مرضه ، فقالوا : يا خليفة رسول
الله : ألا ندعوا لك طبيباً ينظر إليك ؟ قال : قد نظر إلي ، فقالوا : ما قال لك ؟
قال : قال : إني فعال لما أريد .
و أخرج الواقدي من طرق أن أبا بكر لما ثقل دعا عبد
الرحمن بن عوف ، فقال : أخبرني عن عمر بن الخطاب ؟ فقال : ما تسألني عن أمر إلا و
أنت أعلم به مني ، فقال أبو بكر : و إن ، فقال عبد الرحمن : هو و الله أفضل من رأيك
فيه ، ثم دعا عثمان بن عفان ، فقال : أخبرني عن عمر ؟ فقال : أنت أخبرنا به ، فقال
: على ذلك ، فقال : اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته ، و أنه ليس فينا مثله
، و شاور معهما سعيد بن زيد ، و أسيد بن الحضير ، و غيرهما من المهاجرين و الأنصار
، فقال أسيد : اللهم أعلمه الخير بعدك ، يرضى للرضا و يسخط للسخط ، الذي يسر خير من
الذي يعلن ، و لن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه .
و دخل عليه بعض الصحابة ، فقال له قائل منهم : ما أنت قائل لربك إذا سألك عن
استخلافك عمر علينا و قد ترى غلظته ؟ فقال أبو بكر : بالله تخوفني ؟ أقول : اللهم
إني استخلفت عليهم خير أهلك ، أبلغ عني ما قلت من وراءك . ثم دعا عثمان ، فقال :
اكتب [ بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده
بالدنيا خارجاً منها، و عند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها ، حيث يؤمن الكافر ، و
يوقن الفاجر ، و يصدق الكاذب ، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب ، فاسمعوا له
و أطيعوا ، و إني لم آل الله و رسوله و دينه و نفسي و إياكم خيراً ، فإن عدل فذلك
ظني به و علمي فيه ، و إن بدل فلكل امرئ ما اكتسب ، و الخير أردت ، و لا أعلم الغيب
، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ]
ثم أمر بالكتاب فختمه ، ثم أمر عثمان فخرج بالكتاب مختوماً ، فبايع الناس و رضوا به
، ثم دعا أبو بكر عمر خالياً فأوصاه بما أوصاه ، ثم خرج من عنده ، فرفع أبو بكر
يديه ، و قال : اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم ، و خفت عليهم الفتنة ، فعملت
فيهم بما أنت أعلم به ، و اجتهدت لهم رأياً ، فوليت عليهم خيرهم ، و أقواهم عليهم ،
و أحرصهم على ما أرشدهم ، و قد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم ، فهم عبادك ، و
نواصيهم بيدك ، أصلح اللهم ولاتهم و اجعله من خلفائك الراشدين ، و أصلح له رعيته .
وأخرج ابن سعد و الحاكم
عن ابن مسعود ، قال : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين استخلف عمر ، و صاحبة موسى
حين قالت : استأجره ، و العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته : أكرمي مثواه .
و أخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة ، قال : لما ثقل أبو
بكر أشرف على الناس من كوة فقال : أيها الناس ، إني قد عهدت عهداً ، أفترضون به ؟
فقال الناس : رضينا يا خليفة رسول الله ، فقام علي ، فقال : لا نرضى إلا أن يكون
عمر ، قال : فإنه عمر .
أخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن أبا بكر
لما حضرته الوفاة قال : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم الاثنين ، قال : فإن مت من ليلتي
فلا تنتظروا بي لغد ، فإن أحب الأيام و الليالي إلي أقربها من رسول الله صلى الله
عليه و سلم .
و أخرج مالك عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر نحلها
جداد عشرين وسقاً من ماله بالغاية . فلما حضرته الوفاة قال : يا بنية ، و الله ما
من الناس أحب إلي غنى منك ، و لا أعز علي فقراً بعدي منك ، و إني كنت نحلتك جداد
عشرين وسقاً ، فلو كنت جددته و احترزته كان لك ، و إنما هو اليوم مال وارث ، و إنما
هو أخواك و أختاك فأقسموه على كتاب الله ، فقالت : يا أبت و الله لو كان كذا و كذا
لتركته ، إنما هي أسماء ، فمن الأخرى ؟ قال : ذو بطن ابنة خارجة ، أراها جارية ، و
أخرجه ابن سعد ، و قال في آخره : ذات بطن ابنة خارجة ،
قد ألقي في روعي أنها جارية ، فاستوصي بها خيراً ، فولدت أم كلثوم .
و أخرج ابن سعد عن عروة أن أبا بكر أوصى بخمس ماله ، و
قال : آخذ من مالي ما أخذ الله من فيء المسلمين .
و أخرج من وجه آخر عنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، و أن
أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث ، و من أوصى بالثلث لم يترك شيئاً .
وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن الضحاك أن أبا بكر و
علياً أوصيا بالخمس من أموالهما لمن لا يرث من ذوي قرابتهما .
و أخرج عبد الله بن أحمد في
زوائد الزهد عن عائشة رضي الله عنها قالت : و الله ما ترك أبو بكر ديناراً و
لا درهماً ضرب الله سكته .
و أخرج ابن سعد و غيره عن عائشة رضي الله عنها قالت :
لما ثقل أبو بكر تمثلت بهذا البيت .
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً و ضاق
بها الصدر
فكشف عن وجهه ، و قال : ليس كذلك ، و لك قولي : وجاءت سكرة
الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ، انظروا ثوبي هذين فاغسلوهما و كفنوني
فيهما ، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت .
و أخرج أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت
على أبي بكر و هو في الموت ، فقلت :
من لا يزال دمعه مقنعاً فإنه في مرة مدفوق
فقال : لا تقولي هذا ، و لكن قولي : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك
ما كنت منه تحيد ، ثم قال : في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
قلت : يوم الاثنين ، قال : أرجو فيما بيني و بين الليل ، فتوفي ليلة الثلاثاء . و
دفن قبل أن يصبح .
و أخرج عبد الله بن أحمد في
زوائد الزهد ، عن بكر بن عبد الله المزني قال : لما احتضر أبو بكر قعدت
عائشة رضي الله عنها عند رأسه ، فقالت :
و كل ذي إبل يوماً سيوردها و كل ذي سلب لا بد مسلوب
ففهمها أبو بكر ، فقال : ليس كذلك يا ابنتاه ، و لكنه كما قال الله :
وجاءت سكرة الموت الآية .
و أخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها تمثلت بهذا
البيت و أبو بكر يقضي :
و أبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فقال أبو بكر : ذاك رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و أخرج عبد الله بن أحمد في
زوائد الزهد عن عبادة بن قيس قال : لما حضرت أبا بكر الوفاة قال لعائشة :
اغسلي ثوبي هذين و كفنيني بهما ، فإنما أبوك أحد رجلين : إما مكسو أحسن الكسوة ، أو
مسلوب أسوأ السلب .
و أخرج ابن أبي الدنيا عن ابن أبي مليكة أن أبا بكر
أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس ، و يعينها عبد الرحمن بن أبي بكر .
و أخرج ابن سعد ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر رضي الله
عنه صلى على أبي بكر بين القبر و المنبر ، و كبر عليه أربعاً .
و أخرج عن عروة ، و القاسم بن محمد أن أبا بكر أوصى عائشة أن يدفن إلى جنب رسول
الله صلى الله عليه و سلم فلما توفي حفر له ، و جعل رأسه عند كتف رسول الله صلى
الله عليه و سلم ، و ألصق اللحد بقبر رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و أخرج عن عروة ، و القاسم بن محمد أن أبا بكر أوصى عائشة أن يدفن إلى جنب رسول
الله صلى الله عليه و سلم ، فلما توفي حفر له ، و جعل رأسه عند كتف رسول الله صلى
الله عليه و سلم ، و ألصق اللحد بقبر رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و أخرج عن ابن عمر قال : نزل في حفرة أبي بكر : عمر ، و طلحة ، و عثمان ، و عبد
الرحمن بن أبي بكر .
و أخرج من طرق عدة : أنه دفن ليلاً .
و أخرج عن ابن المسيب أن أبا بكر لما مات ارتجت مكة ، فقال أبو قحافة : ما هذا ؟
قالوا : مات ابنك ، قال : رزء جليل ، من قام بالأمر بعده ؟ قالوا : عمر ، قال صاحبه
.
و أخرج عن مجاهد أن أبا قحافة رد ميراثه من أبي بكر على ولد أبي بكر ، و لم يعش أبو
قحافة بعد أبي بكر إلا ستة أشهر و أياماً . و مات في المحرم سنة أربع عشرة ، و هو
ابن سبع وتسعين سنة .
قال العلماء : لم يل الخلافة أحد في حياة أبيه إلا أبو بكر ، و لم يرث خليفة أبوه
إلا أبا بكر .
و أخرج الحاكم عن ابن عمر قال : ولي أبو بكر سنتين و
سبعة أشهر .
و في تاريخ ابن عساكر بسنده عن الأصمعي قال : قال خفاف
بن ندبة السلمي يبكي أبا بكر :
ليس لحي فاعلمنه بقا و كل دنيا أمرها للفنا
و الملك في الأقوام مستودع عارية فالشرط فيه الأدا
و المرء يسعى و له راصد تندبه العين و نار الصدا
يهرم أو يقتل أو يقهره يشكوه سقم ليس فيه شفا
إن أبا بكر هو الغيث إن لم تزرع الجوزاء بقلا بما
تالله لا يدرك أيامه ذو مئزر ناش و لا ذو ردا
من يسع كي يدرك أيامه مجتهداً شذ بأرض فضا
|