أسباب
الغزو الفكري
أولاً: العداء الصليبي للإسلام والمسلمين:
والباحثون يدركون أن
أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي، في مرحلتين من مراحل تاريخها: فكانت مرحلة
القرون الوسطى، قبل وبعد (توماس إلاكويني) تريد اكتشاف هذا الفكر، وترجمته. . من
أجل إثراء ثقافتها. بالطريقة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات، التي هدتها
إلى حركة النهضة، منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وفي المرحلة العصرية
والاستعمارية، فإنها تكتشف الفكر الإسلامي مرة أخرى، لا من أجل تعديل ثقافي، بل من
أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية، مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد
الإسلامية من ناحية أخرى، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه السياسات في البلاد
الإسلامية.
ويذكر المؤرخون أن
الجيوش الأوروبية الصليبية لما هاجمت بلاد الإسلام كانت مدفوعة إلى ذلك
بدافعين:
الدافع الأول: دافع
الدين، والعصبية العمياء، التي أثارها رجال الكنيسة، في شعوب أوروبا، مفترين على
المسلمين أبشع الافتراءات، محرضين النصارى أشد تحريض على تخليص مهد المسيح من أيدي
الكفار -أي المسلمين- فكانت جمهرة المقاتلين، من جيوش الصليبيين، من هؤلاء الذين
أخرجتهم العصبية الدينية، من ديارهم عن حسن نية، وقوة عقيدة، إلى حيث يلاقون الموت،
والقتل، والتشريد، حملة بعد حملة، وجيشاً بعد جيش.
والدافع الثاني: دافع
سياسي استعماري، فلقد سمع ملوك أوروبا بما تتمتع به بلاد المسلمين من حضارة،
وثروات، فجاءوا يقودون جيوشهم باسم المسيح، وما في نفوسهم إلا الرغبة في الاستعمار
والفتح، وشاء الله أن ترتد الحملات الصليبية كلها مدحورة مهزومة.
ويكاد يكون معروفاً،
أن أوروبا شنت ثمان حملات صليبية على الشرق الإسلامي، وقد بدأت الحروب الصليبية منذ
منتصف القرن الحادي عشر، واستمرت حتى نهاية القرن الثالث عشر، أي ما يقرب من مائتين
وخمسة وعشرين عاماً في ثماني حملات من الحملات المدججة بالعدد والمعدات، ويصف
كاهن مدينة (لوبوي ريموند واجيل) سلوك الصليبيين حينما دخلوا على القدس، فيقول:
(حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقطعت رؤوس
بعضهم، فكان أقل ما أصابهم، وبقرت بطون بعضهم ، فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من
أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع
القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على
جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوه).
وروى الكاهن نفسه خبر
ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر - رضي الله عنه - ويقول في هذا: (لقد أفرط قومنا في
سفك الدماء في هيكل سليمان، فكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت
الأيدي والأذرع المبتورة تسبح، كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها. فإذا ما
اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها. وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة، لا
يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمنشفة.
ويذكر التاريخ أن
الحملة الصليبية عند دخولها بيت المقدس في 15 مايو 1099م قد ذبحت أكثر من
سبعين ألف مسلم، حتى سبحت الخيل إلى صدورها في الدماء، وفي إنطاكية، قتلوا أكثر من
مائة ألف مسلم.
فالأمر خطير، إنه حقد
الشر على الحق، والرذيلة على الفضيلة، وعداوة الشرك للتوحيد، وخصومة الضلال
للهدي.
وقد صمدت الأمة
الإسلامية في وجه هذه الحروب الوحشية التي سلبت، ونهبت، وقتلت وفتكت.
وبعد مضي أكثر من
قرنين من حروب دامية، اشتد وطيسها، بين كتائب الإيمان، وبين جحافل الشر ، ارتدت
الحروب الصليبية، وقد باءت هذه الحملات بالإخفاق والهزيمة، فالقديس (لويس التاسع)
قائد الحملة الصليبية الثامنة، وملك فرنسا، وقع أسيراً في مدينة (المنصورة) في مصر.
ثم خلص من الأسر بفدية، ولما عاد إلى فرنسا، أيقن أن قوة الحديد والنار لا
تجدي نفعاً مع المسلمين الذين يملكون عقيدة راسخة، تدفعهم إلى الجهاد، وتحضهم على
التضحية بالنفس، وبكل غال.
إذن: لابد من
تغيير المنهج والسبيل، فكانت توصياته: أن يهتم أتباعه بتغيير فكر المسلمين،
والتشكيك في عقيدتهم وشريعتهم، وذلك بعد دراستهم للإسلام لهذا الغرض، وهكذا تحولت
المعركة من ميدان الحديد والنار إلى ميدان الفكر، لأن القضاء على الإسلام أو
تحويل المسلمين عن دينهم، لا يمكن أن يأتي عن طريق القوة المادية، والغزو
المسلح.
ولقد بدأت حركة (الغزو
الفكري) من منطلق ضرب المسلمين عن طريق الكلمة، بعد هزيمة الحروب الصليبية - كما
وجههم (لويس التاسع) - والعمل على ترجمة القرآن، والسنة، وعلوم المسلمين، للبحث عن
الثغرات التى يدخلون منها إلى إثارة الشبهات، وقد أعلنوا صراحة أن الإسلام هو عدوهم
الأول، وأن أكبر غاية لهم هي ضرب وهدم قواعده) لقد فشلت الحروب الصليبية من الوجهة
الحربية. . لكن بقي (الغزو الفكري) ينفث سمومه، ويثير الشكوك، وبقيت النزعة
الصليبية تتوارى خلف ستار من الديبلوماسية، والرياء السياسي، تحرك ما تريد تحريكه،
وتقف خلف الغزو الفكري، بكل ما لها من قوة، وعلم..
ولا شك أن العداء
الصليبي للإسلام ، هو الدافع الأساس والأصيل (للغزو الفكري) الذي تسلط على مجتمعات
الأمة الإسلامية ، ونجد أن هذا العداء أخذ (شكل السعار الوبائي) لدى الأمم الغربية
(الصليبية) فأخذوا مستميتين يوزعون السموم، ذات اليمين، وذات الشمال، ويفترون
الأكاذيب، ويطمسون الحقائق، ويدبرون المكائد، ويتصيدون السقطات، ثم يدخلون في روع
أنفسهم، وبني جلدتهم أنهم أرقى عنصراً، وأفضل عقلاً، وأفلح ديناً، وأنهم أوصياء
على البشرية، وسادة الإنسانية، وهداتها، ومرشدوها).
وقال (وليم غيفورد
لغراف) الإنجليزي المسمى بالحرباء: الكلمة المشهورة التي يلخص فيها عداء الغربيين
للإسلام: (متى توارى القرآن، ومدينة مكة، عن بلاد العرب، يمكننا أن نرى العربي،
يندرج في سبيل الحضارة، التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه).
وجلاد ستون رئيس
وزراء بريطانيا يقول: (ما دام القرآن موجوداً فلن تستطيع أوروبا السيطرة على
الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان).
ويرى غاردنر: (أن
القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا).
ويوضح هذا العداء،
ويذكر بعض أسبابه المستشرق (بيكر)، فيقول: (إن هناك عداءاً من النصرانية للإسلام،
بسبب أن الإسلام عندما انتشر في العصور الوسطى، أقام سداً منيعاً في وجه الاستعمار،
وانتشار النصرانية، ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها).
ويقول في هذا المعنى
(لورانس براون) : (إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع
والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الغربي) ثم بين (لورانس
براون)(أن خطر المسلمين هو الخطر العالمي الوحيد في هذا العصر، الذي يجب أن تجتمع
له القوى، ويُجَيَّشُ له الجيوش، وتلتفت إليه الأنظار، فيقول حاكياً آراء
المبشرين: (إن القضية الإسلامية تختلف عن القضية اليهودية، إن المسلمين
يختلفون عن اليهود في دينهم، إنه دين دعوة، إن الإسلام ينتشر بين النصارى
أنفسهم، وبين غير النصارى، ثم إن المسلمين كان لهم كفاح طويل في أوروبا - كما يراه
المبشرون - وهو أن المسلمين لم يكونوا يوما ما أقلية موطوءة بالأقدام). . ثم يقول:
(إننا من أجل ذلك نرى المبشرين، ينصرون اليهود على المسلمين في فلسطين، لقد كنا
نُخَوَّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر (باليابان وتزعمها على الصين)
وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق (لم نجده ولم يتحقق) كما تخيلناه،
إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا
البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر، فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة، تتكفل
بمقاومتها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام).
ولقد اشترك الاستعمار
الغربي، والجهد التبشيري، والحقد الصليبي، في حرب المسلمين، وتشتيت تراثهم، ونهب
ديارهم، بحيث أصبح يخيم عليهم كسحابة سوداء، من البغضاء الكراهية، يتمثل هذا فيما
حدث في عام 1918م عندما دخل اللورد (اللنبي) القدس، وأعلن: (الآن انتهت الحروب
الصليبية) كان هذا القائد يعبر عن الروح الأوروبية، الروح الصليبية، التي ظلت
متوهجة في أعماقهم طوال تلك الحقب، وبنفس الحقد الذي صدر عن الجنرال الإنجليزي
(اللنبي) ، كان مسلك الجنرال الفرنسي (غورو) قائد الجيش الفرنسي في دمشق حين ذهب
إلى قبر صلاح الدين، بعد أن جاء راكباً سيارة مكشوفة، وترجل إلى القبر، وقال قولته
المشهورة: (نحن هنا يا صلاح الدين) وفي اليوم التالي عمل الشيء نفسه في حمص، حيث
ذهب إلى قبر (خالد بن الوليد) - رضي الله عنه - وقال: (نحن هنا يا خالد).
هذا الحقد، والضغن،
والمقت، كان سببا قوياً، في الإغارة على المسلمين، بشتى الأساليب، والطرق والأشكال،
والألوان، وما زالت تلك الموجة، تعلو، وتشتد، وتمتد، ثقافياً وفكرياً، لتخريب قواعد
الإسلام، والأخلاق الإسلامية، وإشاعة الأفكار والتيارات الهدامة، وشغل الأمة
الإسلامية، بكل ما هو هامشي في حياتها، حتى لا تدرك اليقظة الواعية، ولا
تنتبه إلى ما يحاك حولها.
لقد وجد الغربيون أن
خير طريق لغزو العالم الإسلامي وإخضاعه، هو سلوك الغزو الفكري، فوضعوا الخطط،
وحاكوا المؤامرات للغارة على الأفكار والمفاهيم الإسلامية، وعلى كل ما له صلة
بالإسلام، حضارة وثقافة، وصارت قاعدتهم التي ارتكزوا عليها: (إذا أرهبك عدوك فأفسد
فكره ينتحربه، ومن ثم تستعبده) وانطلقت الصيحة إلى ضرورة نقل المعركة من ساحة الحرب
إلى ميدان الفكر والمعرفة. فأغاروا على حضارة الإسلام وثقافته سعياً وراء هدم
عقائده وأفكاره، ونشر الأفكار الغربية بديلاً عنها.
ولا شك أن الغزو
الفكري أعمق أثراً، وأشد فتكاً في حياة الأمة من الغزو المسلح، لأنه يتسلل إلى
عقولها وقلوب أبنائها، ذلك أن الأمم تقاس بمقوماتها العقدية، والفكرية، وقيمها
الخلقية.
فالغزو الفكري
الأخلاقي أخطر من الغزو المادي المسلح، لأنه يمضي بين الناس، في صمت ونعومة وخفاء
في الأهداف، مما يجعل الناس تدريجياً يتقبلون كل جديد، ولو خالف قيمهم وعقائدهم
وأفكارهم دون معارضة، ويتقبلون الذوبان في بوتقة أعدائهم، وهم ينظرون ولا يشعرون.
.
وإذا كان العداء
الصليبي للإسلام والمسلمين سبباً رئيساً دفع بالغرب إلى (الغزو الفكري)
للمجتمعات الإسلامية فإن هناك أسباباً أخرى - غير العداء الصليبي - ساعدت على
انتشار (الغزو الفكري) وعملت على هزيمة المسلمين أمام هذا الغزو. ونجد ذلك
واضحاً في السبب الثاني. .
ثانياً : الاستعمار الغربي للمجتمعات الإسلامية:
لقد تعرض المجتمع
الإسلامي في آسيا، وأفريقيا، للطابع الأيديولوجي، للمجتمع الأوروبي، سواء الحديث
منه في القرن التاسع عشر، أو المعاصر في القرن العشرين، ولم تكن للمجتمع الإسلامي
مناعة كافية في رفض هذا الطابع وتحديه، وعدم تقبله.
فتعرض للغزو الأوروبي،
من أجل الصناعة الغربية، منذ أثمر عهد النهضة الأوروبية ثمرته في التحرر والخلاص،
من سلطة الكنيسة، وفي استرداد الإنسان الأوروبي حرية الحركة في التجارة، وفي شؤون
المال على العموم، وحرية التفكير والتوجيه السياسي.
وكان الوضع في البداية
قبل الاستعمار تربصاً من جانب المجتمع الأوروبي بالمجتمعات الإسلامية ،
وانقضاضاً عليها من جانب، بينما كان استسلاماً من أي مجتمع إسلامي، تعرض للتربص
والانقضاض، وقبولا للوصاية الأجنبية والاستغلال الأوروبي من جانب آخر.
ومما هو مسجل في صفاحت
التاريخ: أن المجتمع الإسلامي وقع فريسة للاستعمار، فقد احتلت بريطانيا: الهند في
سنة 1859م ومناطق الخليج الإسلامي، وجنوب شبه الجزيرة العربية في سنة 1849م، ومصر
في سنة 1882م، والسودان في سنة 1898م.
واحتلت إيطاليا:
طرابلس الغرب في سنة 1911م.
واحتلت هولندا: جزر
الأرخبيل الإندونيسية تباعاً منذ عام 1903م.
وروسيا احتلت القرم
قبل القرن التاسع عشر في سنة 1873م، وسيطرت بإشرافها على المجتمعات الإسلامية في
وسط آسيا، وهي: أذربيجان، وكازاخستان، وأوزبيكستان، ونوركيستان، وكزيخستان. . سيطرة
تامة في القرن التاسع عشر، ولم يسلم من الاحتلال الأوروبي سوى: اليمن ، والحجاز،
وإيران، ووسط تركيا.
ولا يخفى أن وقوع
المجتمعات الإسلامية تحت سيطرة الاستعمار زاد من اتساع السوق الاستهلاكية لمنتجات
الغرب الصناعية، وهذا أدى إلى تفوق الصناعة الغربية. وكلما قوى المجتمع
الأوروبي وتفوق صناعياً، كلما زادت رقعة استعماره في قارة إفريقيا وقارة آسيا.
.
وكلما زادت قبضة
أوروبا على ما تم استعماره، وكلما اتسع نفوذها السياسي والاستغلالي، كلما زاد ضعف
المجتمع الإسلامي، الذي وقع تحت سلطة الاستعمار، وزادت تبعيته وتقبله لما يأتي من
الغرب.
و يوم أن تحرك
المجتمع الأوروبي لاستعمار المجتمعات الإسلامية، كان في قمة مجده، بما أنجزه من
الفصل بين الكنيسة والدولة، واستقلاله بالسلطة الزمنية، وبالحرية الفردية، في
التفكير، والتوجيه، وبالحرية السياسية، كما كان في أشد الأوضاع حرصاً على اتجاه
(العلمانية) كمثال للإنسانية. .
استصحب الاستعمار معه
هذا الاتجاه، بما يستتبعه في الحكم، والتوجيه، والتشريع، والاقتصاد، في المجتمع
الإسلامي الذي يتمكن منه.
وباستصحاب الاستعمار
اتجاه العلمانية، ومحاولة تطبيق هذا الاتجاه، في المجتمع الإسلامي، وهو مجتمع يغاير
في خصائصه، وتاريخه، وواقعه. . المجتمع الأوروبي، اضطر هذا الاستعمار إلى أن يسلك
طريقاً يمكنه من هذا التطبيق، وهو عزل المجتمع الإسلامي كلية عن ماضيه، وعن
تراثه العقلي، والروحي، والتوجهي، والسلوكي. .
فإذا ما تم عزله،
أصبحت قيادته ميسرة، وطيعة للمستعمر، وبالأخص للأجيال التي تنشأ في ظل هذه
العزلة.
ثالثاً : تقدم الغرب العلمي:
لقد كان الغرب
يملك تقدما"ً علمياً فائقاً، وتقدماً مادياً هائلاً، وعبقرية تنظيمية مبدعة،
وروحاً من الجلد والصبر على العمل والإنتاج، وروحاً عملية في مواجهة المشكلات من
ناحية الدراسة أو من ناحية التنفيذ.
ولا شك أن التقدم
العلمي المذهل للغرب، كان قوياً دفاقاً، له من القوة والانتشار والاستيلاء، ما بهر
العقول، وفتن الألباب، ولا غرو فقد بز بذلك كل تقدم علمي عرفه العالم، وسمعت عنه
البشرية في التاريخ المترامي الأطراف، واستطاع أن يخرج من الأسرار،
ويكشف من الاختراعات، ما جعل أبصار الناس وعقولهم تتعلق به، وخاصة أن هذا العلم
أصبح في خدمة الإنسان، في كثير من مناحيه، فاتجهت الأنظار، والعقول، والقلوب إلى
الغرب، تتطلع إلى ما فيه من اكتشافات تأتي بجديد.
لقد واجه العالم
الإسلامي مشكلة تقدم الغرب العلمي، وجهاً لوجه، وهذا التحدي السافر على طريق واحد.
وهو صاحب الحضارة العريقة، والرسالة الدينية الخاتمة، وصاحب الشهادة على
البشرية، بعد ما انسحبت كل الديانات والمذاهب القديمة، متوارية من نوره الوهاج،
وحجته المشرقة، وصاحب الرقعة الواسعة، والثقافة المنتشرة، والقوة الكبرى التي كان
يحسب لها ألف حساب. فكان تحدي الحضارة المادية للعالم الإسلامي، أعظم من
تحديها لأي أمة، ولأي حضارة، ولأي ثقافة، وقد صاحب تلك الحضارة مذاهب فكرية،
وفلسفات مادية، ونظم سياسية، واقتصادية، وعمرانية، واجتماعية، وخلقية، وكان لا بد
أن ينظر الناس - وخاصة الشعوب المتخلفة إلى هذه المذاهب، والفلسفات، والنظم
نظرة تقدير واحترام، لأنها نتاج تلك الشعوب المتقدمة، وحصاد تلك الأمم المتطورة
التي فتتت الذرة، وصنعت الطائرة والصاروخ، وأدارت الأقمار وغزت الفضاء، لتراقب
سلوكيات الإنسانية كلها 0 وخاصة تحركات المجتمعات الإسلامية 0 ولتكتشف من الفضاء
الواسع، ما يزيدها من العلم تمكيناً وأصبحت المجتمعات الإسلامية تمجد الحضارة
الأوروبية، والتقدم العلمي والصناعي، واستطاع الغرب أن ينقل الإنتاج المادي إلى
المجتمعات الإسلامية، في أفريقيا، وفي آسيا، لاستخدام هذا الإنتاج في تيسير الحياة،
والتغلب على الصعوبات والمشاق التي تصحب عادة الحياة الإنسانية المتخلفة، أو
البدائية، وذلك ليكون شواهد مادية، ترى وتختبر في التطبيق وفي واقع الحياة.
رابعاً: الضعف الفكري، والتفكك الاجتماعي:
لقد أصيب المجتمع
الإسلامي بالضعف الفكري، والتفكك الاجتماعي ، وذاق من جراء تلك الإصابة مرارة
التأخر، والضعف الفكري، ما أصيبت به أمة من الأمم، أو مجتمع من المجتمعات، إلا كانت
الحالة، انحطاطاً في التفكير، واهتماماً بالخرافات والأساطير.
والتفكك الاجتماعي
نتيجة حتمية للضعف الفكري، لأن الضعف الفكري لا يكشف للإنسان مخاطر الانزلاق في
الهاوية، ولهذا نجد أن المجتمعات الإسلامية، ابتليت بالطوائف المتعددة والمتناحرة،
والمذهبية التعصبية، وتعدد السلطنات والدويلات، التي قامت على أساس شعوبي أو مذهبي،
في هذا المجتمع أو ذاك.
وهكذا كله جر المجتمع
الإسلامي إلى فوضى قاتلة، وتناحر حقيقي، ونهب وقتل، دون رادع أو وازع. . ومجتمعاً
كهذا لا بد وأن يتعرض لسيطرة المتربصين به. لقد كانت السلطة السياسية في
المجتمعات الإسلامية تعيش في وضع مقلوب، (وفي ذلك الوضع لا بد أن تكتمل الصورة
المقيتة لأي إمبراطورية على وشك السقوط، بغض النظر عن اللافتة التي ترفعها، سواء
كانت إمبراطورية فارسية، أو بيزنطية، أو رومانية، أو عباسية. لابد أن تتفشى
الرشوة، وتكثر مصادرة الأموال، وتتفاقم الاضطرابات الداخلية، مع الانحلال الخلقي،
والانشغال بالتوافه عن الخطر الذي يدق الأبواب).
وأساس انهيار الأمم،
يبدأ من الداخل، وقد يأتي تدخل خارجي ليعجل بالسقوط. ولكن يظل الانهيار
الداخلي هو بداية النهاية وعاملها الأكبر، ويأتي الانهيار الداخلي حين تتكون طبقة
مترفة تتحكم في الثروة، وفي الجماهير، فتنشر الظلم، والانحلال، وتحيل حياة الأكثرية
إلى جحيم تهون فيه الحياة).
لا شك أن الأمة
الإسلامية عاشت فترات من حياتها، كانت سبباً في تأخرها وغفلتها، وطمع الطامعين في
مجتمعاتها.
وأي أمة تضعف في
أفكارها، ولا تعرف إلا القشور من أمرها، وتعيش في تناحر وتمزق، لا بد وأن تسقط،
وينال منها من كان يهابها.
خامساً : تخلف الشعوب الإسلامية عن ركب الحضارة:
إن المجتمعات
الإسلامية، حين أصابها الضعف الفكري، والتفكك الاجتماعي، انشغلت بالتافه من الأمور،
فقادتها التفاهة إلى التخلف عن ركب العلم، والتقدم، والحضارة. . ومعنى هذا، أن
المجتمعات الإسلامية ، انصرفت عن تعاليم الإسلام ، التي تدعو إلى العلم، والمعرفة،
واستعمال العقل، والفكر في كل ما من شأنه أن يأخذ بالناس إلى الطريق السليم، (وواكب
هذا الانصراف انحطاط في القيم و دعوات إلى الركون إلى المتع، والعبث بالأموال، إلى
حد السفه والجنون، والترف والفجور، حتى كان قواد هذا الركب في كل ناد، وكل صحيفة،
مع جهل ضارب، ونفاق ناشب أظفاره، وفساد في كل مجتمع وناد، وتصارع على كل تافه وخسيس
من المادة، وخراب للذمم، وبيع للشرف، وكره للقيم، وضياع للحق، وهضم للحقوق، وذبح
للفضيلة).
وكان وضع البلاد
الإسلامية، كما صوره شاعر تركيا الإسلامي الكبير محمد عاكف: (يسألني
الناس أنك كنت في الشرق مدة طويلة. فما الذي شهدت يا ترى، وما عسى أن يكون
جوابي ؟ إنني أقول لهم: إنني رأيت الشرق من أقصاه، فما رأيت إلا قرى مقفرة، وشعوباً
لا راعي لها، وجسوراً متهدمة، وأنهاراً معطلة، وشوارع موحشة، رأيت وجوها هزيلة
متجعدة، وظهورا منحنية، ورؤوساً فارغة، وقلوباً جامدة، وعقولاً منحرفة.
رأيت الظلم،
والعبودية، والبؤس، والشقاء، والرياء، والفواحش المنكرة المكروهة، والأمراض الفاشية
الكثيرة، والغابات المحرقة، والمواقد المنطفئة الباردة، والحقول السبخة القاحلة،
والصور المقززة، والأيادي المعطلة، والأرجل المشلولة. .
رأيت أئمة لا تابع
لهم، ورأيت أخاً يعادي أخاه، ورأيت نهاراً لا غاية له، ولا هدف، ورأيت ليالي حالكة
طويلة، لا يعقبها صباح مسفر، ونهار مشرق).
هذا التخلف أضعف الثقة
بالنفس، وأوقف عجلة التقدم والانطلاق في الشعوب الإسلامية، وجعلها تعتمد في كل شيء
على غيرها، إن التخلف العقلي لا يكمن في عدم الذهاب إلى الجامعات، واكتساب المعارف
فقط، بقدر ما يكمن في التبلد، والخمول، والنوم، والرضاء بالدون، وموت
الهمة..
ومن المؤكد أن الأمة
التي تفضل أو ترضى بالتواكل، والاستجداء، والكسل، والتبعية، أمة لا تستحق الحياة
الكريمة، والحياة الحرة الكريمة لا تتأتى لأمة دون ثمن، والثمن هو التضحية، ولا
يتأتى لأمة أن تشق طريقها في الحياة، وأن تستعيد وجودها وكرامتها، وتعيد صنع
حياتها، دون أن تحاول جاهدة أن تبني نفسها بناءاً يتفق مع الاعتداد بالذات.
وقد يكون من المسلمات
البدهية: أن فقر الأمة في جوهره وجذوره ليس فقرًا في السلاح والمعدات، أو فقرا في
المال والإمكانات، وإنما يكمن في فقر النفوس وعجزها، وضعف الإرادة واضطرابها.
.
فالتخلف عن ركب التقدم
والحضارة، يعود بالمجتمعات الإسلامية إلى الانحطاط، ويقودها طواعية إلى
الهلاك، كما تقاد الشاه إلى حتفها بظلفها، ولذا كان هذا التخلف عاملاً من عوامل
الغزو الفكري، الذي اجتاح البلاد والعباد. .
سادساً : الفراغ العقدي:
من المؤكد لدى
الباحثين، أن العقيدة هي الأمر الذي تثق به النفس، ويطمئن إليه القلب، ويكون يقيناً
عند صاحبه، ولا يمازجه شك فيه، ولا يخالطه ريب. ويذكر العقاد: أننا نعني
بالعقيدة الدينية طريقة حياة، لا طريقة فكر، ولا طريقة دراسة، إنما نعني بها حاجة
النفس، كما يحس بها من أحاط بتلك الدراسات، ومن فرغ من العلم والمراجعة، ليترقب
مكان العقيدة من قرارة ضميره، إنما نعني بها ما يملأ النفس لا يملأ الرؤوس أو
الصفحات.
إن العقيدة التي يصح
أن توصف بالعقيدة الدينية، هي التي لا يستغني عنها من وجدها، ولا يطيق الفراغ
منها من فقدها، ولا يرفضها من اعتصم منها، بمعتصم، واستقر فيها على قرار.
ومن يتأمل العقيدة
الإسلامية، ويتدبر ما جاءت به من مفاهيم تناولت معضلات الحياة، إن من يتأمل ذلك يحس
بالاطمئنان، ويتخلص من الحيرة التي تواجه كثيراً من المفكرين.
والحقيقة التي أثبتها
مئات السنين الحافلة بالأحداث، والخطوب، والمحن، حقيقة أن العقيدة الإسلامية
هي العقيدة الشاملة، والعقيدة المثلى للإنسان، والمجتمع، وهي رعاية للروح
والجسد، وعمل للدنيا والآخرة، وجهاد في السلم والحرب، وتنظيم للعلاقات والصلات
الاجتماعية بين الأفراد والجماعات والأمم.
فالعقيدة ضرورة لا غنى
عنها للفرد والجماعة. . ضرورة للفرد ليطمئن ويسعد، وتطهر نفسه. . وضرورة للمجتمع
ليستقر ويتماسك، ويترفع وينهض. .
فالفرد بغير عقيدة
كالريشة في مهب الريح، تحوله يميناً وشمالاً، فلا يسكن له حال، ولا يستقر له قرار،
وليس له جذور تثبته.
والعقائد في الأمم تقف
سدوداً بينها وبين الأفكار الوافدة، أو المذاهب المقتحمة، وتعطي أعماقاً للصروح
والمجتمعات والأفراد، كما تمنح استقراراً وثباتاً للإنسان في الحياة، أما إذا تركت
الأمم عقائدها، وتخلفت عن غذائها الروحي، وعن عمقها الإيماني، فإنها تصبح فريسة لمن
هب ودب. .
والباحث في أحوال
الشعوب الإسلامية: يجد أنها لم تحسن التخطيط، ولم تستفد من الدروس، فانطلقت في سبيل
الشهوات والملذات، والطوائف، والاختلاف، وتركت تعاليم الإسلام التي تدعو إلى الفكر،
والعلم والحضارة. . فكان ما كان..
لقد اتضح لنا أن
(الغزو الفكري) الذي تعرضت له، شعوب الأمة الإسلامية ولا تزال تتعرض، قام على أسباب
وبواعث، دفعت بالغزو الفكري إلى تكالب مسعور، وكان في الإمكان أن ترد الهجمة
الشرسة، ولكن كانت هناك عوامل تنتشر في المجتمعات الإسلامية، ساعدت على توغل الغزو
الفكري، وانتشاره بين الناس.
وقد سبق أن ذكرت أن من
عوامل وأسباب (الغزو الفكري):
- العداء الصليبي
للإسلام والمسلمين.
- الاستعمار الغربي
الذي أصاب بعض المجتمعات الإسلامية.
- تقدم الغرب
العلمي.
- الضعف الفكري
والتفكك الاجتماعي الذي أصاب المسلمين.
- الفراغ العقدي
الذي دلت عليه سلوكيات المسلمين.
وقد تكون هناك أسباب
أخرى: داخلية أو خارجية، عملت على تمزيق الأمة الإسلامية، وقتل روح الأصالة فيها
والتجديد، والقدرة على مواجهة التحدي.
ولا يخفى أن التعرف
على الأسباب، قد يدفع بالعلماء، وقادة الفكر إلى تشخيص الداء، وبذل الدواء، وإذا
عرف التحدي أمكنت المواجهة، وإذا كانت معرفة أسباب الغزو الفكري، تقف بالمسلمين على
محطات الانطلاق، فإن معرفة مظاهر الغزو الفكري، تساعد على التبصر بالمواقع
والمواقف.
|