لن
تمر العولمة في ترتيباتها الاقتصادية
وسيطرتها الثقافية على أرض موطدة وإنما
ستصطدم بفطرة تكوين المجتمع الانساني من
لغات متعددة وأديان متباينة وثقافات
متنوعة . وفي هذا الاختلاف قال الله تعالى
في كتابه الكريم : {
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَايَزَالُونَ
مُخْتَلِفِنَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ
}
،
وقال عز وجل في آيةٍ أخرى {
وَمِنْ
آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ }
واستقراء
التاريخ الانساني يدل دلالة قاطعة على أن
محاولة إخضاع البشرية لطريق واحد وحضارة
واحدة ، مستحيلة في حدّ ذاتها ، لأن تلك
المحاولة ستفجر المجتمعات الإنسانية من
الداخل ، ويبدأ الصراع ثم الحروب في ظل
القانون الإلهي : {
وَتِلْكَ الأَيَامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ }
وعلى
الرغم من أن العولمة ظهرت منذ عهد قريب ،
إلا أن طلائع المعارضة لها بدأت تظهر في
أنحاء العالم وإن لم تكن اليوم قوية كاسحة
، لأن القضية بعد في بدايتها .
إن
ظغيان الإعلام والثقافة الأمريكيتين في
القنوات الفضائية دفع وزير العدل الفرنسي
جاك كوبون أن يقول : " إن الانترنيت
بالوضع الحالي شكل جديد من أشكال
الاستعمار . وإذا لم نتحرك فاسلوب حياتنا
في خطر " وهناك إجماع فرنسي على اتخاذ كل
الإجراءات الكفيلة لحماية اللغة الفرنسية
والثقافة الفرنسية من التأثير الأمريكي .
بل
إن الرئيس الفرنسي جاك شيراك عارض قيام
مطعم ماكدونالد ، والذي يقدم الوجبات
الأمريكية ، مسوغاً ذلك أن يبقى برج أيفل
منفرداً بنمط العيش الفرنسي .
وشن
وزير الثقافة الفرنسي هجوماً قوياً على
أمريكا في اجتماع اليونسكو بالمكسيك وقال
:" إني استغرب أن تكون الدول التي علمت
الشعوب قدراً كبيراً من الحرية ، ودعت إلى
الثورة على الطغيان ، هي التي تحاول أن
تفرض ثقافة شمولية وحيدة على العالم أجمع .
ثم قال : إن هذا شكل من أشكال الإمبريالية
المالية والفكرية ، لايحتل الأراضي ، ولكن
يصادر الضمائر ومناهج التفكير واختلاف
أنماط العيش .
وتبعاً
لهذه السياسة فقد قررت فرنسا أن تكون نسبة
الأفلام الفرنسية المعروضة باللغة
الفرنسية من التلفزيون 60% .
وفي
المقاطعات الكندية بلغت الهيمنة
الأمريكية في مجال تدفق البرامج
الإعلامية والتلفاز إلى حد دعا جمعاً من
الخبراء إلى التنبيه إلى أن الأطفال
الكنديين ، أصبحوا لايدركون أنهم كنديون
لكثرة مايشاهدون من برامج أمريكية .
كما
أن النرويج عارضت اتفاقية "ماستريخت
" لأنها ترفض الاندماج بالهوية
الأوربية ، وتحفظت سنغافورة على شبكة
الانترنيت خشية من القيم الكونفوشيوسية .
ويقول
"جون غراي " في كتابه "الفجر الكاذب
ـ أوهام الرأسمالية العالمية " : إن
الظروف الحالية في العالم تنذر بكارثة
محققة ، لأن فرض السوق الحرة
الأنجلوسكسونية على العالم يمكن أن يؤدي
إلى انهار شبيه بانهيار الشيوعية
العالمية ، وإن الاتجاه حول فرض الأسواق
الحرة سيفجر الحروب ويعمق الصراعات
العرقية ويفقر الملايين . وقد تحول بالفعل
الملايين من الفلاحين الصينيين إلى
لاجئين . كما سيؤدي إلى استبعاد عشرات
الملايين من العمل والمشاركة في المجتمع
حتى في الدول المتقدمة . وقد تفاقمت
الأوضاع في بعض الدول الشيوعية السابقة
لتصل إلى الفوضى العامة وشيوع الجريمة
المنظمة ، كما أدت إلى تزايد تدمير البيئة
" .
وكتاب
"فخ العولمة " المار ذكره سابقاً صرخة
ألمانية ضد العولمة .
وفي
سياتل حيث عقد المؤتمر الوزاري الثالث
لمنظمة التجارة العالمية ، ثار المؤتمرون
ضد انفراد أمريكا بزعامة العالم ، حيث
أصرت الدول النامية ودول الاتحاد الأوربي
واليابان وكوريا الجنوبية على رفض الخضوع
لقاعدة الرضا الأمريكي باعتبارها القاعدة
الحاكمة لصور القرارات في نطاق منظمة
التجارة العالمية .
والمظاهرات
التي جرت في أثناء المؤتمر والتي هزت
العالم ، كان بين شعاراتها :
ـ
العالم لن يتحول إلىسلعة يتداولها
الأقوياء .
ـ
الناس والشعوب قبل الأرباح .
ـ
لانريد تجارة حرة بل نريد تجارة عادلة .
ـ
وهنالك الكثير من المفكرين المختصين في
مجالات الاقتصاد وغيرها يعارضون بشدة
طغيان العولمة ، وقد لخصت الباحثة ( ثناء
عبد الله ) وجوه هذه المعارضة بالنقاط
الآتية :
1ـ
اعتبار ماتملكه منظمة التجارة العالمية
من سلطة تفوق سلطة الدولة متناقضاً مع
متطلبات السيادة الوطنية . وهو مايؤثر في
قدرة الدول على سن التشريعات والقوانين
والقواعد التي تلائم خططها وتوجيهاتها .
2ـ
اتهام الشركات المتعددة الجنسيات
باستغلال العمالة في الدول النامية عن
طريق تشغيلهم بأجور زهيدة .
3ـ
معارضة فتح الأسواق الأمريكية لما يمكن أن
يترتب عليها من دخول سلع دون المواصفات
البيئية والصحية السليمة .
4ـ
معارضة تشغيل الأطفال .
5ـ
اتهمت الجماعات الداعية للحفاظ على
البيئة منظمة التجارة العالمية بأنها
ستدمر البيئة .
وهنالك
حقيقة لابد من ذكرها وهي أن الرأسمالية
التي تعتمد عليه العولمة ليست منهجاً
واحداً في كل بلد ، فالرأسمالية الأمريكية
والبريطانية لاترى أي دور للدولة ، بينما
الرأسمالية واليابانية والآسيوية تلعب
السياسة الصناعية وتوجهات الدولة دوراً
كبيراً فيها ، أما الرأسمالية الفرنسية
فتخطيط الدولة يضع مؤشرات للقطاع الخاص ،
بل تدخل بنفسها منتجاً . أما رأسمالية
الدول الاشتراكية السابقة ، فما زالت في
طور التحول . وأما الاشتراكية الديمقراطية
فقد تجمع قواها وتأتي بأفكار جديدة
لمحاربة الرأسمالية أولتقليل شرورها
أومساؤها .
ولاشك
أن السبب في ذلك أن هذه الدكتاتورية
الدولية تتناقض ومصالح الأغلبية العظمة
من دول العالم ، بما في ذلك الدول الكبيرة
والمتوسطة ، مما يفرض صياغة الإجراءات
المضادة للخروج من هذه الدكتاتورية .
ومجمل
القول فإن مقاومة العولمة بالصيغة
الأمريكية الرأسمالية الصهيونية
ستقاومها البشرية شيئاً فشيئاً في ضوء
قانون السيرورة الكونية قانون التحدي
والاستجابة . فروسيا ولغتها ودينها
وعنجهيتها القيصيرية وذكرياتها
السوفيتية وقدراتها التدميرية ، والصين
وأعماقها الكونفوشيوسية ، والهند
وخلفياتها البوذية ، واليابان ومصالحا
الاقتصادية الهائلة وذكرياتها
معرهيروشيما وناكازاكي وألمانيا
وفلسفتها العرقية التي مازالت كامنة في
اللاشعور ، ستحول دون وصول العولمة إلى
أهدافها النهائية .
وهكذا
شعوب العالم التي تنتمي إلى تواريخ
وحضارات لايمكن أن تتحول إلى أموات بين
يدي غاسل العولمة الأمريكية الصهيونية .
فإذا
كان هذا وضع العالم وشعوبه ، فيا ترى ، كيف
وضعنا نحن في العالم الإسلامي مع العولمة
هذا مانجيب عنه في الفصل القادم بإذن الله
سبحانه وتعالى |