|
|
الحاكم بأمر الله
أحمد بن المستكفى بالله سليمان 742هـ ـ 753هـ
الحاكم بأمر الله : أبو العباس أحمد بن المستكفي ، كان أبوه لما مات بقوص عهد إليه
بالخلافة ، فقدم الملك الناصر عليه إبراهيم ابن عمه ، لما كان في نفسه من المستكفي
، و كانت سيرة إبراهيم قبيحة ، و كان القاضي عزالدين بن جماعة قد جهد كل الجهد في
صرف السلطان عنه فلم يفعل ، فلما حضرته الوفاة أوصى الأمراء برد الأمر إلى ولي عهد
المستكفي ولده أحمد ، فلما تسلطن المنصور أبو بكر بن الناصر عقد مجلساً يوم الخميس
حادي عشر ذي الحجة سنة إحدى و أربعين ، و طلب الخليفة إبراهيم و ولي العهد أحمد و
القضاة ، و قال : من يستحق الخلافة شرعاً ؟ فقال ابن جماعة
: إن الخليفة المستكفي المتوفى بمدينة قوص أوصى بالخلافة من بعده لولده أحمد
، و أشهد عليه أربعين عدلاً بمدينة قوص ، و ثبت ذلك عندي بعد ثبوته عند نائبي
بمدينة قوص ، فخلع السلطان حينئذ إبراهيم ، و بايع أحمد ، و بايعه القضاة ، و لقب [
الحاكم بأمر الله ] لقب جده .
و قال ابن فضل الله في المسالك
في ترجمته : هو إمام عصرنا ، و غمام مصرنا ، قام على غيظ العدى ، و غرق بفيض
الندى ، و صارت له الأمور إلى مصائرها ، و سيقت إليه بصائرها ، فأحيا رسوم الخلافة
، و رسم بما لم يستطع أحد خلافه ، و سلك مناهج آبائه و قد طمست ، و أحياها بمباهج
أبنائه و قد درست ، و جمع شمل بني أبيه و قد طال بهم الشتات ، و أطال عذرهم و قد
اختلف السبات ، و رفع اسمه على ذرى المنابر و قد عبر مدة لا يطلع إلا في آفاقه تلك
النجوم ، و لا يسبح إلا من سبحه تلك الغيوم و السجوم ، طلب بعد موت السلطان و أنفذ
حكم وصيته ، في تمام مبايعته و التزام متابعته ، و كان أبوه قد أحكم له بالعقد
المتقدم عقدها ، و حفظ له عند ذوي الأمانة عهدها ، ثم تسلطن الملك المنصور أبو بكر
بن السلطان ، و عمر له من تحت الملك الأوطان . قال ابن فضل
الله : و قد كتبت له صورة المبايعة و هي : بسم الله الرحمن الرحيم
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله إلى قوله
عظيما هذه بيعة رضوان ، و بيعة إحسان ، و جمعية رضى
يشهدها الجماعة و يشهد عليها الرحمن ، بيعة يلزم طائرها العنق ، و يحوم بسائرها و
يحمل أنباءها البراري و البحار مشحونة الطرق ، بيعة يصلح الله بها الأمة ، و يمنح
بسببها النعمة ، و يتجارى الرفاق ، و يسري الهناء في الآفاق ، و تتزاحم لزهر
الكواكب على حوض المجرة الدقاق ، بيعة سعيدة ميمونة ، شريفة بها السلامة في الدين و
الدينا مضمونة ، بيعة صحيحة شرعية ، ملحوظة مرعية ، بيعة تسابق إليها كل نية ، و
تطاوع كل طوية ، و يجتمع عليها شتات البرية ، بيعة يستهل بها الغمام ، و يتهلل
البدر التمام ، بيعة متفق عليها الإجماع و الاجتماع ، و لبسط الأيدي إليها انعقد
عليها الإجماع ، فاعتقد صحتها من سمع لله و أطاع ، و بذل في تمامها كل امرىء ما
استطاع ، حصل عليها اتفاق الأبصار و الأسماع ، و وصل بها الحق إلى مستحقه و أقره
الخصم و انقطع النزاع ، يضمها كتاب مرقوم يشهده المقربون ، و تلقاه الأئمة الأقربون
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
ذلك من فضل الله علينا و على الناس ، و إلينا و لله الحمد و إلى بني العباس
، أجمع على هذه البيعة أرباب العقد و الحل ، و أصحاب الكلام فيما قل و جل ، و ولاة
و الحكام ، و أرباب المناصب و الأحكام ، حملة العلم و العلام ، و حماة السيوف و
الأقلام ، و أكابر بني عبد مناف ، و من انخفض قدره و أناف ، و سروات قريش و وجوه
بني هاشم و البقية الطاهرة من بني العباس ، و خاصة الأمة و عامة الناس ، بيعة ترى
بالحرمين خيامها ، و تخفق بالمأزمين أعلامها ، و تتعرف بعرفات بركاتها ، و تعرف
بمنى و يؤمن عليها يوم الحج الأكبر ، و تؤم ما بين الركن و المقام و الحجر ، و لا
يبتغى بها إلا وجه الله الكريم ، بيعة لا يحل عقدها ، و لا ينبذ عهدها ، لازمة
جازمة ، دائبة دائمة ، تامة عامة ، شاملة كاملة ، صحيحة صريحة ، متعبة مريحة ، و لا
من يوصف بعلم و لا قضاء ، و لا من يرجع إليه في اتفاق و لا إمضاء ، و لا إمام مسجد
و لا خطيب ، و لا ذو فتوى يسأل فيجيب ، و لا من لزم المساجد و لا من تضمهم أجنحة
المحاريب ، و لا من يجتهد في رأي فيخطىء أو يصيب ، و لا محدث بحديث ، و لا متكلم في
قديم و حديث ، و لا معروف بدين و صلاح ، و لا فرسان حرب و كفاح ، و لا راشق بسهام و
لا طاعن برماح ، و لا ضارب بصفاح ، و لا ساع بقدم و لا طائر بجناح ، و لا مخالط
للناس و لا قاعدة في عزلة ، و لا جمع كثرة و لا قلة ، و لا من يستقل بالجوزاء لواؤه
، و لا من يعلو فوق الفرقدين ثواؤه ، و لا باد و لا حاضر ، و لا مقيم و لا سائر ، و
لا أول و لا آخر ، و لا مسر في باطن و لا معلن في ظاهر ، و لا عرب و لا عجم ، و لا
راعي إبل و لا غنم ، و لا صاحب أناة و لا بدار ، و لا ساكن في حضر و بادية بدار ، و
لا صاحب عمد و لا جدار ، و لا ملجج في البحار الذاخرة و البراري و القفار ، و لا من
يعتلي صهوات الخيل ، و لا من يسبل على العجاجة الذيل ، و لا من تطلع عليه شمس
النهار و نجوم الليل ، و لا من تظلمه السماء و تقله الأرض ، و لا من تدل عليه
الأسماء على اختلافها و ترفع درجات بعضهم على بعض ، حتى آمن بهذه البيعة و أمن
عليها و أمن بها ، و من الله عليه و هداه إليها ، و أقر بها و صدق ، و غض لها بصره
خاشعاً لها و أطرق ، و مد إليها يده بالمبايعة ، و معتقده بالمتابعة ، و رضي بها و
ارتضاها ، و أجاز حكمها على نفسه و أمضاها ، و دخل تحت طاعتها و عمل بمقتضاها و قضى
بينهم بالحق و قيل : الحمد لله رب العالمين .
و إنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله أمير
المؤمنين كرم الله مثواه و عوضه عن دار السلام بدار السلام ، و نقله مزكي يديه عن
شهادة الإسلام بشهادة الإسلام ، حيث آثره بقربه ، و مهد لجنبه ، و أقدمه على ما
قدمه من مرجو عمله و كسبه ، و خار له في جواره فريقاً ، و أنزله مع الذين أنعم الله
عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقاً ، الله أكبر
ليومه لولا مخلفه كانت تضيق الأرض بما رحبت ، و تجزى كل نفس بما كسبت ، و تنبأ كل
سريرة ما ادخرت و ما جنت ، لقد اضطرم سعير إلا أنه في الجوانح ، لقد اضطرب منبر و
سرير لولا خلفه الصالح ، لقد اضطر مأمور و أمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح ،
و لم يكن في النسب العباسي و لا في البيت المسترشدي ، و لا في غيره من بيوت الخلفاء
من بقايا آباء و جدود ، و لا من تلده أخرى الليالي و هي عاقر غير ولود ، من تسلم
إليه أمة محمد عقد نياتها و سرطوياتها إلا واحد و أين ذاك الواحد ؟ هو و الله من
انحصر فيه استحقاق ميراث آبائه الأطهار ، و تراث أجداده الأخيار ، و لا شيء هو إلا
ما اشتمل عليه رداء الليل و النهار ، و هو ولد المنتقل إلى ربه ، و ولد الإمام
الذاهب لصلبه ، المجمع على أنه في الأيام فرد هذا الأنام ، و هكذا في الوجود الإمام
، و أنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق و المغارب ، و الفائز بملك ما بين
المشارق و المغارب ، الراقي في صفح السماء هذه الذروة المنيفة ، الباقي بعد الأئمة
الماضين و نعم الخليفة ، المجتمع فيه شروط الإمامة ، المتضع لله و هو ابن بيت لا
يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة ، الذي يفضح السحاب نائله ، و الذي لا يعزه عادله
و لا يغره عادله ، و الذي ما ارتقى صهوة المنبر بحضرة سلطان زمانه إلا قال بأمره و
قام قائمه ، و لا قعد على سرير الخلافة إلا و عرف أنه ما خاب مستكفيه و لا غاب
حاكمه ، نائب الله في أرضه ، و القائم مقام رسوله صلى الله عليه و سلم و خليفته و
ابن عمه ، و تابع عمله الصالح و وارث علمه ، سيدنا و مولانا عبد الله و وليه أبو
العباس الإمام الحاكم بأمر الله ، أمير المؤمنين ، أيد الله ببقائه الدين ، و طوق
بسيفه الملحدين ، و كبت تحت لوائه المعتدين ، و كتب له النصر إلى يوم الدين ، و كب
بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين ، و أعاذ به الأرض ممن لا يدين بدين ، و أعاد
بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين و الأئمة المهديين ، الذين قضوا بالحق و به
كانوا يعدلون ، و عليه كانوا يعملون ، و نصر أنصاره ، و قدر اقتداره ، و أسكن في
القلوب سكينته و وقاره ، و مكن له في الوجود و جمع له أقطاره ، و لما انتقل إلى
الله ذلك السيد و لقي أسلافه ، و نقل إلى سرير الجنة عن سرير الخلافة ، و خلا العصر
من إمام يمسك ما بقي من نهاره ، و خليفة يغالب مزيد الليل بأنواره ، و وارث نبي
بمثله و مثل آبائه استغنى الوجود بعد ابن عمه خاتم الأنبياء عن نبي يقتفي على آثاره
، و مضى و لم يعهد فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع ، و عليه كانت الخلافة بعد
رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا نزاع ، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف
به معقود ، و عقد بيعة عليها الله و الملائكة شهود ، و جمع الناس له و ذلك يوم
مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود ، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف ، و لم ير بائعه و
قد مد طامعاً لمزيدها و قد تكلف ، و أجمعوا على رأي واحد استخاروا الله فيها فخار و
أخذ يمين يمد لها الأيمان ، و يشهد بها الإيمان ، و يعطي عليها المواثيق ، و تعرض
أمانتها على كل فريق ، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة ، و حط على المصحف
الكريم يده و حلف بالله و أتم أيمانه ، و لم يقطع و لا استثنى و لا تردد ، و من قطع
عن غير قصد أعاد و جدد ، و قد نوى كل من حلف أن النية في يمينه نية من عقدت له هذه
البيعة و نية من حلف له ، و تذمم بالوفاء له في ذمته و تكفله ، على عادة أيمان
البيعة و شروطها ، و أحكامها المرددة ، و أقسامها المؤكدة ، بأن يبذل لهذا الإمام
المفترض الطاعة الطاعة ، و لا يفارق الجمهور و لا يفر عن الجماعة الجماعة ، و غير
ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان المكتتب فيها أسماء من حلف عليها مما هو مكتوب بخطوط من
يكتب منهم ، و خطوط العدول الثقات عمن لم يكتبوا و أذنوا أن يكتب عنهم ، حسبما يشهد
به بعضهم على بعض ، و يتصادق عليه أهل السماء و الأرض ، بيعة تم بمشيئة الله تمامها
، و عم بالصوب المغدق غمامها ، و قالوا : الحمد لله أذهب عنا الحزن ، و وهب لنا
الحسن ، ثم الحمد لله الكافي عبده ، الوافي لمن يضعف على كل موهبة حمده ، ثم الحمد
لله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها ، و ير هب إلا أن يقاتل أعداء الله
بإمدادها ، و يدأب من ارتقى منابر ممالكه بما بان من مباينة أضدادها ، نحمده و
الحمد لله كلمة لا يمل من تردادها ، و لا يحل السهام من سدادها ، و لا يبطل إلا على
ما يوجب تكثير أعدادها ، و تكبير أقدار أهل ودادها ، و تصغير التحقير لا التحبيب
لأندادها .
و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقايس دماء الشهداء و إمداد
مدادها ، و تنافس طرر الشباب وغرر السحاب على استمدادها ، و تتجانس رقومها المدبجة
و ما تلبسه الدولة العباسية من شعارها و الليالي من دثارها و الأعداء من حدادها .
و نشهد أن محمداً عبده و رسوله صلى الله عليه و سلم و على جماعة أهله و من خلف من
أبنائها و سلف من أجدادها ، و رضي الله عن الصحابة أجمعين ، و التابعين لهم بإحسان
إلى يوم الدين .
و بعد : فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة ما كان لجده ، و وهبه من
الملك السليماني ما لا ينبغي لأحد من بعده ، و علمه منطق الطير مما يتحمله حمائم
البطائق من بدائع البيان ، و سخر له من البريد على متون الخيل ما سخره من الريح
لسليمان ، و آتاه الله من خاتم الأنبياء ما امتد به أبوه سليمان و تصرف ، و أعطاه
من الفخار به ما أطاعه كل مخلوق و لم يتخلف ، و جعل له من لباس بني العباس ما يقضي
له سواده بسؤدد الأجداد ، و ينفض على ظل الهدب ما فضل به من سويداء القلب و سواد
البصر من السواد ، و يمد ظله على الأرض و كل مكان دار ملك و كل مدينة بغداد ، و هو
في ليله السجاد و في نهاره العسكري و في كرمه جعفر وهو الجواد ، يديم الابتهال إلى
الله تعالى في توفيقه ، و الابتهاج بما يغص كل عدو بريقه ، و يبدأ يوم هذه المبايعة
بما هو الأهم من مصالح الإسلام ، و مصالح الأعمال فيما تتحلى به الأيام ، و يقدم
التقوى أمامه ، و يقرر عليها أحكامه ، و يتبع الشرع الشريف و يقف عنده و يوقف الناس
، و من لا يحمل أمره طائعاً على العين يحمله غصباً على الرأس ، و يعجل أمير
المؤمنين بما استقر به النفوس ، و يرد به كيد الشيطان و إنه يؤوس ، و يأخذ بقلوب
الرعايا و هو غني عن هذا و لكنه يسوس ، و أمير المؤمنين يشهد الله عليه و خلقه بأنه
أقر ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله ، و استمر به في مقيله تحت كنف ظلاله
، على اختلاف طبقات ولاة الأمور ، و طرقات الممالك و الثغور ، براً و بحراً ، و
سهلاً و وعراً ، شرقاً و غرباً ، بعداً و قرباً ، و كل جليل و حقير ، و قليل و كثير
، و صغير و كبير ، و مالك و مملوك و أمير ، و جندي يبرق له سيف شهير ، و رمح ظهير ،
و من مع هؤلاء من وزراء و قضاة و كتاب ، و من له تدقيق في إنشاء و تحقيق في حساب ،
ومن يتحدث في بريد و خراج ، و من يحتاج إليه و من لا يحتاج ، و من في التدريس و
المدارس و الربط و الزوايا و الخوانق ، و من له أعظم التعلقات و أدنى العلائق ، و
سائر أرباب المراتب و أصحاب الرواتب ، و من له من مال الله رزق مقسوم ، و حق مجهول
أو معلوم ، و استمر كل امرئ على ما هو عليه ، حتى يستخير الله و يتبين له ما بين
يديه ، و من ازداد تأهيله ، زاد تفضيله ، و إلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه
الله ، و لا يحابي أحد في دين الله ، و لا يحابي في حق فإن المحاباة في الحق مداجاة
على المسلمين ، و كل ما هو مستمر إلى الآن مستقر على حكم الله مما فهمه الله له و
فهمه سليمان ، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك و لا في بعضه تغييراً شكراً لله على
نعمه ، و هكذا يجازي من شكر ، و لا يكدر على أحد مورداً نزه الله نعمه الصافية به
عن الكدر ، و لا يتأول في ذلك متؤول إلا من جحد النعمة و كفر ، و لا يتعلل متعلل ،
فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله و نعيذ أيامه الغر من الغير ، وأمر أمير المؤمنين
أعلى الله أمره أن يعلن الخطباء بذكره و ذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق ، و
أن يضرب باسمها النقود و تسير بالإطلاق ، و يوشح بالدعاء لهما عطف الليل و النهار ،
و يصرح منه بما يشرق وجه الدرهم و الدينار ، و قد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع
المشهود ما يتناقله كل خطيب ، و يتداوله كل بعيد و قريب ، و مختصره أن الله أمر
بأوامر و نهى عن نواه و هو رقيب ، و سيفرغ الألباء لها السجايا ، و يفرغ الخطباء
لها شعوب الوصايا ، و تتكمل بها المزايا ، و يرق شجوها بالليل المقمر و يرقم على
جبين الصباح ، و تعظ بها مكة بطحاءها و يحيا بحدائها قفاه ، و يلقنها كل أب فهمه
ابنه و يسأل كل ابن نجيب أباه ، و هو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين من سدد عليكم
بينة ، و إليكم ما دعاكم به إلى سبيل الله من الحكمة و الموعظة الحسنة ، و لأمير
المؤمنين عليكم الطاعة و لولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها ، و لا أمسك بها
البحر و دحا الأرض و أرسى جبالها ، و لا اتفقت الآراء على من يستحق و جاءت إليه
الخلافة تجر أذيالها ، و أخذها دون بني أبيه و لم تكن تصلح إلا له و لم يكن يصله
إلا لها ، و قد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله لكم من أبواب الأرزاق و
أسباب الارتزاق ، و أجراكم على وفاقكم و علمكم مكارم الأخلاق ، و أجراكم على
عوائدكم و لم يمسك خشية الإنفاق ، و لم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم
بكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم و يعمل بما يسعد به من يحيى أطال الله
بقاء أمير المؤمنين من بعده و يزيد على من تقدم ، و يقيم فروض الحج و الجهاد ، و
ينيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد ، و أمير المؤمنين يقيم على عادة آبائه موسم
الحج في كل عام ، و يشمل بره سكان الحرمين الشريفين و سدنة بيت الله الحرام ، و
يجهر السبيل على صالة ، و يرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام ، و يتدفق في
هذين المسجدين بحره الزاخر و يرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام ، و
يقيم بعدله قبور الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أينما كانوا و أكثرهم في الشام ، و
الجمع و الجماعات هي فيكم على قديم سننها ، و قويم سننها ، و ستزيد في أيام أمير
المؤمنين لمن يضم إليه ، و فيما يتسلم من بلاد الكفار و يسلم منهم على يديه ، و أما
الجهاد فكفى باجتهاد القائم عن أمير المؤمنين بمأموره ، المقلد عنه جميع ما وراء
سريره ، و أمير المؤمنين قد وكل منه خلد الله ملكه و سلطانه عيناً لا تنام ، و قلد
سيفاً لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام ، و سيؤكد
أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدى ، و قد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو
المخذول براً و بحراً ، و لا يكف عمن ظفر به منهم قتلاً و لا أسراً ، و يفك أغلالاً
و لا إصراً ، و لا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقباناً و في البحر غرباناً
تحمل كل منهما من كل فارس صقراً ، و يحمي المماليك ممن يتخرق أطرافها بإقدام ، و
يتحول أكنافها بإقدام ، و ينظر في مصالح القلاع و الحصون و الثغور ، و ما يحتاج
إليه من آلات القتال ، و أمهات الممالك التي هي مرابط البنود و مرابض الأسود ، و
الأمراء و العساكر و الجنود ، و ترتيبهم في الميمنة و المسيرة و النجاح الممدود ، و
يتفقد أحوالهم بالعرض ، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء و الأرض ، و ما لهم من
زرد موضون ، و بيض مسها ذهب ذائب فكانت كأنها بيض مكنون ، و سيوف قواضب ، و رماح
بسبب دوامها من الدماء خواضب ، و سهام تواصل القسي و تفارقها فتحن حنين مفارق و
تزمجر القوس زمجرة مغاضب .
و هذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم ، و إطالة ذيل التطويل على مطلوبكم
، و دماؤكم و أموالكم و أعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر ، و مزيد
الإحسان إليكم على مقدار ما يخفى منكم و يظهر ، و أما جزيئات الأمور فقد علمتم أن
من بعد عن أمير المؤمنين غني عن مثل هذه الذكرى ، و أنتم على تفاوت مقاديركم وديعة
أمير المؤمنين ، و كلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين ، و له عليكم أداء النصيحة
، و إبداء الطاعة بسريرة صحيحة ، فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين و تحت رقه ،
و لزمه حكم بيعته و ألزم طائره في عنقه ، و سيعلم كل منكم في الوفاء بما أصبح به
عليماً ، و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً .
هذا قول أمير المؤمنين ، و قال : و هو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال
، و على هذا عهد إليه و به يعهد ، و ما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه و لا يشهد ، و
أمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال ، و يستعيذ به من الإهمال ، و يسأل أن يمده
لما يحب من الآمال ، و لا يمد له حبل الإمهال .
و يختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل و الإحسان ، و الحمد لله و هو
من خلق أحمد و قد أتاه الله ملك سليمان ، و الله يمتع أمير المؤمنين بما وهبه ، و
يملكه أقطار الأرض و يورثه بعد العمر الطويل عقبه ، و لا يزال على سدة العلياء
قعوده ، و لدست الخلافة به أبهة الجلالة كأنه ما مات منصوره و لا أودى مهديه و لا
رشيده .
و قال ابن حجر في الدرر :
كان أولاً لقب [ المستنصر ] ثم لقب الحاكم .
ذكر الشيخ زين الدين العراقي أنه سمع الحديث على بعض المتأخرين ، و أنه حدث .
مات في الطاعون في نصف سنة ثلاث و خمسين .
و من الحوادث في أيامه : في عام ولايته خلع السلطان المنصور لفساده و شربه الخمور ،
حتى قيل : إنه جامع زوجات أبيه ، و نفي إلى قوص و قتل بها ، فكان ذلك من الله
مجازاة لما فعله والده مع الخليفة ، و هذه عادة الله مع من يتعرض لأحد من آل العباس
بأذى ، و تسطلن أخوه الملك الأشرف كجك ، ثم خلع من عامه و ولي أخوه أحمد ، و لقب بـ
[ الناصر ] ، و عقد المبايعة بينه و بين الخليفة الشيخ تقي الدين السبكي قاضي الشام
، و كان قد حضر معه مصر .
و في سنة ثلاث و أربعين خلع الناصر أحمد ، و ولي أخوه إسماعيل ، و لقب بـ [ الصالح
] . و في سنة ست و أربعين مات الصالح ، فقلد الخليفة أخاه شعبان ، و لقب بـ [
الكامل ] .
و في سنة سبع و أربعين قتل الكامل ، و ولي أخوه أمير حاج ، و لقب بـ [ المظفر ] .
و في سنة ثمان و أربعين خلع المظفر ، و ولي أخوه حسن ، و لقب بـ [ الناصر ] .
و في سنة تسع و أربعين كان الطاعون العام الذي لم يسمع بمثله .
و في سنة اثنتين و خمسين خلع الناصر حسن ، و ولي أخوه صالح ، و لقب [ الملك الصالح
] و هو الثامن ممن تسلطن من أولاد الناصر محمد بن قلاوون ، و جعل شيخو أتابكة ، قال
في ذيل المسالك ، و هو أول من سمي بمصر [ الأمير الكبير ] .
و ممن مات في أيام الحاكم من الأعلام : الحافظ أبو الحجاج
المزي ، و التاج عبد الباقي اليمني ، و الشمس ابن عبد الهادي ، و أبو حيان ، و ابن
الوردي ، و ابن اللبان ، و ابن عدلان ، و الذهبي ، و ابن فضل الله ، و ابن قيم
الجوزية ، و الفخر المصري شيخ الشافعية بالشام ، و التاج المراكشي ، و آخرون
.
|
|
|