|
|
المقتدر بالله
جعفر بن المعتضد 295 هـ ـ 319 هـ
المقتدر بالله : أبو الفضل جعفر بن المعتضد ، ولد في رمضان سنة اثنتين و ثمانين و
مائتين و أمه رومية ، و قيل : تركية ، اسمها غريب ، و قيل : شغب .
و لما اشتدت علة أخيه المكتفي سأل عنه ، فصح عنه أنه احتلم ، فعهد إليه ، و لم يل
الخلافة قبله أصغر منه ، فإنه وليها و له ثلاثة عشر سنة ، فاستصباه الوزير العباس
بن الحسن ، فعمل على خلعه و وافقه جماعة على أن يولوا عبد الله بن المعتز ، فأجاب
ابن المعتز بشرط أن لا يكون فيها دم فبلغ المقتدر ذلك فأصلح حال العباس ، و دفع
إليه أموالاً أرضته فرجع عن ذلك ، و أما الباقون فإنهم ركبوا عليه في العشرين من
ربيع الأول سنة ست و المقتدر يلعب الأكرة ، فهرب و دخل و أغلقت الأبواب و قتل
الوزير و جماعة ، و أرسل إلى ابن المعتز فجاء و حضر القواد و القضاة و الأعيان ، و
بايعوه بالخلافة ، و لقبوه [الغالب بالله ] فاستوزر محمد بن داود بن الجراح ، و
استقضى أبا المثنى أحمد بن يعقوب ، و نفذت الكتب بخلافة ابن المعتز .
قال المعافى بن زكريا الجريري : لما خلع المقتدر و
بويع ابن المعتز دخلوا على شيخنا محمد بن جرير الطبري ، فقال : ما الخبر ؟ قيل :
بويع ابن المعتز ، قال : فمن رشح للوزارة ؟ قيل : محمد بن داود ، قال : فمن ذكر
للقضاة ؟ قيل : أبو المثنى ، فأطرق ثم قال : هذا الأمر لا يتم ، قيل له : و كيف ؟
قال : كل واحد ممن سميتم متقدم في معناه عالي الرتبة و الزمان مدبر و الدنيا مولية
، و ما أرى هذا إلا إلى اضمحلال ، و ما أرى لمدته طولاً .
و بعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد بن طاهر لكي ينتقل ابن
المعتز إلى دار الخلافة ، فأجاب ، و لم يكن بقي معه إلا طائفة يسيرة ، فقالوا : يا
قوم نسلم هذا الأمر و لا نجرب نفوسنا في دفع ما نزل بنا ، فلبسوا السلاح و قصدوا
المخرم و به ابن المعتز ، فلما رآهم من حوله ألقى الله في قلوبهم الرعب ، فانصرفوا
منهزمين بلا قتال ، و هرب ابن المعتز و وزيره و قاضيه ، و وقع النهب و القتل في
بغداد ، و قبض المقتدر على الفقهاء و الأمراء الذين خلعوه ، و سلموا إلى يونس
الخازن فقتلهم إلا أربعة منهم القاضي أبو عمر سلموا من القتل ، و حبس ابن المعتز ،
ثم أخرج فيما بعد ميتاً ، و استقام الأمر للمقتدر فاستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن
الفرات ، فسار أحسن سير ، و كشف المظالم ، و حض المقتدر على العدل ، ففوض إليه
الأمور لصغره ، و اشتغل باللعب و اللهو ، و أتلف الخزائن .
و في هذه السنة أمر المقتدر أن لا يستخدم اليهود و النصارى . و أن يركبوا بالأكف .
و فيها غلب أمر المهدي بالمغرب ، و سلم عليه بالإمامة ، و دعي له بالخلافة ، و بسط
في الناس العدل و الإحسان ، فانحرفوا إليه ، و تمهدت له المغرب ، و عظم ملكه ، و
بنى المهدية ، و هرب أمير إفريقية زيادة الله بن الأغلب إلى مصر ، ثم أتى العراق ،
و خرجت المغرب عن أمر بني العباس من هذا التاريخ ، فكانت مدة ملكهم جميع الممالك
الإسلامية مائة و بضعاً و ستين سنة ، و من هنا دخل النقص عليهم .
قال الذهبي : اختل النظام كثيراً في أيام المقتدر
لصغره .
و في سنة ثلاثمائة ساخ جبل بالدينور في الأرض ، و خرج من تحته ماء كثير أغرق القرى
.
و فيها ولدت بغلة فلواً ، فسبحان القادر على ما يشاء ! .
و في سنة إحدى و ثلاثمائة ولي الوزارة علي بن عيسى ، فسار بعفة و عدل و تقوى ، و
أبطل الخمور ، و أبطل من المكوس ما ارتفاعه في العام خمسمائة ألف دينار .
و فيها أعيد القاضي أبو عمر إلى القضاء ، و ركب المقتدر من داره إلى الشماسية و هي
أول ركبة ركبها و ظهر فيها للعامة .
و فيها أدخل الحسين الحلاج مشهوراً على جمل إلى بغداد ، فصلب حياً ، و نودي عليه :
هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه . ثم حبس إلى أن قتل في سنة تسع ، و أشيع عنه أنه
ادعى الإلهية و أنه يقول بحلول اللاهوت في الأشراف ، و يكتب إلى أصحابه من النور
الشعشعاني ، و نوظر فلم يوجد عنده شيء من القرآن ، و لا الحديث ، و لا الفقه .
و فيها سار المهدي الفاطمي يريد مصر في أربعين ألفاً من البربر ، فحال النيل بينه و
بينها ، فرجع إلى الإسكندرية ، و أفسد فيها و قتل ، ثم رجع فسار إلى جيش المقتدر
إلى برقة ، و جرت لهم حروب ، ثم ملك الفاطمي الإسكندرية و الفيوم من هذا العام .
و في سنة اثنتين ختن المقتدر خمسة من أولاده ، فغرم على ختانهم ستمائة ألف دينار ،
و ختن معهم طائفة من الأيتام ، و أحسن إليهم .
و فيها صلي العيد في جامع مصر ، و لم يكن يصلي فيه العيد قبل ذلك ، فخطب بالناس علي
بن أبي شيخة من الكتاب نظراً ، و كان من غلطه أن قال : اتقوا الله حق تقاته و لا
تموين إلا و أنتم مشركون .
و فيها أسلم الديلم على يد الحسن بن علي العلوي الأطروش ، و كان مجوسياً .
و في سنة أربع وقع الخوف ببغداد من حيوان يقال له الزيزب ذكر الناس أنهم يرونه
بالليل على الأسطحة ، و أنه يأكل الأطفال ، و يقطع ثدي المرأة ، فكانوا يتحارسون و
يضربون بالطاسات ليهرب ، و اتخذ الناس لأطفالهم مكاب و دام عدة ليال .
و في سنة خمس قدمت رسل ملك الروم بهدايا ، و طلبت عقد هدنة ، فعمل المقتدر موكباً
عظيماً ، فأقام العسكر وصفهم بالسلاح ـ و هم مائة و ستون ألفاً ـ من باب الشماسية
إلى دار الخلافة ، و بعدهم الخدام و هم سبعة آلاف خادم ، و يليهم الحجاب و هم
سبعمائة حاجب ، و كانت الستور التي نصبت على حيطان دار الخلافة ثمانية و ثلاثين ستر
من الديباج و البسط اثنين و عشرين ألفاً ، و في الحضرة مائة سبع في السلاسل ، إلى
غير ذلك .
و في هذه السنة وردت هدايا صاحب عمان ، و فيها طير أسود يتكلم بالفارسية و الهندية
أفصح من الببغا .
و في سنة ست فتح مارستان أم المقتدر ، و كان مبلغ النفقة فيه في العام سبعة آلاف
دينار .
و فيها صار الأمر و النهي لحرم الخليفة و لنسائه لركاكته ، و آل الأمر إلى أن أمرت
أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم و تنظر في رقاع الناس كل جمعة ، فكانت
تجلس و تحضر القضاة و الأعيان و تبرز التواقيع و عليها خطها .
و فيها عاد القائم محمد بن المهدي الفاطمي إلى مصر فأخذ أكثر الصعيد .
و في سنة ثمان غلت الأسعار ببغداد و سغبت العامة لكون حامد بن العباس ضمن السواد ،
و جدد المظالم ، و وقع النهب ، و ركب الجند فيها ، و شتتهم العامة ، و دام القتال
أياماً ، و أحرق العامة الحبس ، و فتحوا السجون ، و نهبوا الناس ، و رجموا الوزير ،
و اختلفت أحوال الدولة العباسية جداً .
و فيها ملكت جيوش القائم الجزيرة من الفسطاط ، و اشتد قلق أهل مصر ، و تأهبوا
للحروب ، و جرت أمور و حروب يطول شرحها .
و في سنة تسع قتل الحلاج بإفتاء القاضي أبي عمر و الفقهاء و العلماء أنه حلال الدم
، و له في أحواله السنية أخبار أفردها الناس بالتنصيف .
و في سنة إحدى عشرة أمر المقتدر برد المورايث إلى ما صيرها المعتضد من توريث ذوي
الأرحام .
و في سنة ثنتي عشرة فتحت فرغانة على يد والي خراسان .
و في سنة أربع عشرة دخلت الروم ملطية بالسيف .
و فيها جمدت دجلة بالموصل ، و عبرت عليها الدواب ، و هذا لم يعهد .
و في سنة خمس عشرة دخلت الروم دمياط ، و أخذوا من فيها و ما فيها ، و ضربوا الناقوس
في جامعها .
و فيها ظهرت الديلم على الري و الجبال فقتل خلق و ذبحت الأطفال .
و في سنة ست عشرة بني القرمطي داراً سماها [ دار الهجرة ] و كان في هذه السنين قد
كثر فساده و أخذه البلاد و فتكه بالمسلمين ، و اشتد الخطب به ، و تمكنت هيبته في
القلوب ، و كثر أتباعه ، و بث السريا ، و تزلزل له الخليفة ، و هزم جيش المقتدر غير
مرة ، و انقطع الحج في هذه السنين خوفاً من القرامطة ، و نزح أهل مكة عنها ، و قصدت
الروم ناحية خلاط ، و أخرجوا المنبر من جامعها و جعلوا الصليب مكانه .
و في سنة سبع عشرة خرج مؤنس الخادم الملقب بالمظفر على المقتدر لكونه بلغه أنه يريد
أن يولي إمرة الأمراء هارون بن غريب مكان مؤنس ، و ركب معه سائر الجيش و الأمراء و
الجنود ، و جاؤوا إلى دار الخلافة ، فهربت خواص المقتدر و أخرج المقتدر بعد العشاء
و ذلك في ليلة رابع عشر المحرم من داره ، و أمه و خالته ، و حرمه ، و نهب لأمه
ستمائة ألف دينار ، و أشهد عليه بالخلع ، و أحضر محمد بن المعتضد ، و بايعه مؤنس و
الأمراء ، و لقبوه [ القاهر بالله ] و فوضت الوزارة إلى أبي علي بن مقلة ، و ذلك
يوم السبت ، و جلس القاهر يوم الأحد ، و كتب الوزير عنه إلى البلاد ، و عمل الموكب
يوم الاثنين ، فجاء العسكر يطلبون رزق البيعة و رزق السنة ، و لم يكن مؤنس يطلبون
المقتدر ليردوه إلى الخلافة ، فحملوه على أعناقهم من دار مؤنس إلى قصر الخلافة ، و
أخذ القاهر فجيء به و هو يبكي و يقول : الله الله في نفسي ، فاستدناه و قبله ، و
قال له : يا أخي أنت و الله لا ذنب لك ، و الله لا جرى عليك مني سوء أبداً ، فطب
نفساً ، و سكن الناس ، و عاد الوزير فكتب إلى الأقاليم بعود الخلافة إلى خلافته ، و
بذل المقتدر الأموال في الجند .
و في هذه السنة سير المقتدر ركب الحاج مع منصور الديلمي ، فوصلوا إلى مكة سالمين ،
فوافاهم يوم التروية عدو الله أبو طاهر القرمطي ، فقتل الحجيج في المسجد الحرام
قتلاً ذريعاً ، و طرح القتلى في بئر زمزم ، و ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ، ثم
اقتلعه ، و أقام بها أحد عشر يوماً ، ثم رحلوا و بقي الحجر الأسود عندهم أكثر من
عشرين سنة ، و دفع لهم فيه خمسون ألف دينار ، فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع .
و قيل : إنهم لما أخذوه هلك تحته أربعون جملاً من مكة إلى هجر ، فلما أعيد حمل على
قعود هزيل فسمن .
قال محمد بن الربيع بن سليمان : كنت بمكة سنة القرامطة
، فصعد رجل لقلع الميزاب و أنا أراه ، فعيا صبري و قلت : يا رب ما أحلمك ، فسقط
الرجل على دماغه فمات ، و صعد القرمطي على باب الكعبة و هو يقول :
أنا بالله و بالله أنا يخلق الخلق و أفنيهم أنا
و لم يفلح أبو طاهر القرمطي بعدها ، و تقطع جسده بالجدري .
و في هذه السنة هاجت فتنة كبرى ببغداد ، بسبب قوله تعالى : عسى
أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، فقالت الحنابلة : معناها يقعده الله على عرشه ،
و قال غيرهم : بل هي الشفاعة ، و دام الخصام ، و اقتتلوا جماعة كثيرة .
و في سنة تسع عشرة نزل القرمطي الكوفة ، و خاف أهل بغداد من دخوله إليها فاستغاثوا
و رفعوا أصواتهم و المصاحف ، و سبوا المقتدر .
و فيها دخلت الديلم الدينور فسبوا و قتلوا .
و في سنة عشرين ركب مؤنس على المقتدر ، فكان معظم جند مؤنس البربر ، فلما التقى
الجمعان رمى بربري المقتدر بحربة سقط منها إلى الأرض ، ثم ذبحه بالسيف ، و شيل رأسه
على رمح ، و سلب ما عليه ، و بقي مكشوف العورة حتى ستر بالحشيش ، ثم حفر له بالموضع
و دفن ، و ذلك يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال .
و قيل : إن وزيره أخذ له ذلك اليوم طالعاً ، فقال له المقتدر : أي وقت هو قال : وقت
الزوال ، فتطير و هم بالرجوع ، فأشرفت خيل مؤنس ، و نشبت الحرب ، و أما البربري
الذي قتله فإن الناس صاحوا عليه ، فسار نحو دار الخلافة ليخرج القاهر فصادفه حمل
شوك فزحمه إلى دكان لحام فعلقه كلاب ، و خرج الفرس من مشواره من تحته فمات فحطه
الناس و أحرقوه بالحمل الشوك .
و كان المقتدر جيد العقل ، صحيح الرأي ، لكنه كان مؤثراً للشهوات و الشراب مبذراً ،
و كان النساء غلبن عليه ، فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة و نفائسها ، و أعطى بعض
حظاياه الدرة اليتيمة و وزنها ثلاثة مثاقيل ، و أعطى زيدان القهرمان سبحة جوهر لم
ير مثلها ، و أتلف أموالاً كثيرة ، و كان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان غير
الصقالبة و الروم و السود ، و خلف اثني عشر ولداً ذكر ، و ولي الخلافة من أولاده
ثلاثة : الراضي ، و المتقي ، و المطيع ، و كذلك اتفق للمتوكل ، و الرشيد . و أما
عبد الملك فولي الأمر من أولاده أربعة ، و لا نظير لذلك إلا في الملوك ، كذا قال
الذهبي .
قلت : في زماننا ولي الخلافة من أولاد المتوكل خمسة : المستعين العباس ، و المعتضد
داود ، و المستكفي سليمان ، و القائم حمزة ، و المستنجد يوسف ، و لا نظير لذلك .
و في لطائف المعارف للثعالبي ـ نادرة : لم يل الخلافة من اسمه جعفر إلا المتوكل و
المقتدر ، فقتلا جميعاً : المتوكل ليلة الأربعاء ، و المقتدر يوم الأربعاء .
و من محاسن المقتدر ما حكاه ابن شاهين أن وزيره علي بن عيسى أراد أن يصلح بين ابن
صاعد و بين أبي بكر بن أبي داود السجستاني ، فقال الوزير : يا أبا بكر أبو محمد
أكبر منك ، فلو قمت إليه ، قال : لا أفعل ، فقال الوزير : أنت شيخ زيف ، فقال ابن
أبي داود : الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من ؟ فقال
: هذا ، ثم قام ابن أبي داود و قال : تتوهم أني أذل لك لأجل أن رزقي يصل إلي على
يدك ، و الله لا أخذت من يدك شيئاً أبداً ، فبلغ المقتدر ذلك ، فصار يزن رزقه بيده
، و يبعث به في طبق على يد الخادم .
مات في أيام المقتدر من الأعلام : محمد بن أبي داود الظاهري ، و يوسف بن يعقوب
القاضي ، و ابن شريح شيخ الشافعية ، و الجنيد شيخ الصوفية ، و أبو عثمان الحيري
الزاهد ، و أبو بكر البرديجي ، و جعفر الفريابي ، و ابن بسام الشاعر ، و النسائي
صاحب السنن ، و الجبائي شيخ المعتزلة ، و ابن المواز النحوي ، و ابن الجلاء شيخ
الصوفية ، و أبو يعلى الموصلي صاحب المسند ، و الأشناني المقرئ ، و أبن سيف من كبار
قراء مصر ، و أبو بكر الروياني صاحب المسند ، و ابن المنذر الإمام ، و ابن جريري
الطبري ، و الزجاج النحوي ، و ابن خزيمة ، و ابن زكريا الطبيب ، و الأخفش الصغير ،
و بنان الجمال ، و أبو بكر بن أبي داود السجستاني ، و ابن السراج النحوي ، و أبو
عوانة صاحب الصحيح ، و أبو القاسم البغوي المسند ، و أبو عبيد بن حربوية ، و الكعبي
شيخ المعتزلة ، و أبو عمر القاضي ، و قدامة الكاتب ، و خلائق آخرون . |
|
|