|
|
شرح حال التتار ، و
وقائعهم
قال الموفق عبد اللطيف في خبر التتار : هو حديث يأكل
الأحاديث ، و خبر يطوي الأخبار ، و تاريخ ينسي التواريخ ، و نازلة تصغر كل نازلة ،
و فادحة تطبق الأرض ، و تملؤها ما بين الطول و العرض .
و هذه الأمة لغتهم مشوبة بلغة الهند ، لأنهم في جوارهم ، و بينهم و بين مكة أربعة
أشهر ، و هم بالنسبة إلى الترك عراض الوجوه ، و اسعوا الصدور ، خفاف الأعجاز ، صغار
الأطراف ، سمر الألوان ، سريعو الحركة في الجسم و الرأي ، تصل إليهم أخبار الأمم ،
و لا تصل أخبارهم إلى الأمم ، و قلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم ، لأن الغريب لا
يتشبه بهم ، و إذا أرادوا جهة كتموا أمرهم ، و نهضوا دفعة واحدة ، فلا يعلم بهم أهل
بلد حتى يدخلوه ، و لا عسكر حتى يخالطوه ، فلهذا تفسد على الناس وجوه الحيل ، و
تضيق طرق الهرب ، و نساؤهم يقاتلن كرجالهم ، و الغالب على سلاحهم النشاب ، و أكلهم
أي لحم و جد ، و ليس في قتلهم استسناء و لا إبقاء ، يقتلون الرجال و النساء و
الأطفال ، و كان قصدهم إفناء النوع ، و إبادة العالم ، و لا قصد الملك و المال .
و قال غيره : أرض التتار بأطراف بلاد الصين ، و هم سكان براري ، و مشهورون بالشر و
الغدر .
و سبب ظهورهم أن إقليم الصين متسع دوره ستة أشهر ، و ست مماليك ، و لهم ملك حاكم
على المماليك الست هو القان الأكبر المقيم بمطمفاج ، و هو كالخليفة للمسلمين .
و كان سلطان إحدى المماليك الست و هو [ دوش خان ] قد تزوج بعمة جنكزخان ، فحضر
زائراً لعمته ، و قد مات زوجها . و كان قد حضر مع جنكزخان كشلوخان ، فأعلمتها أن
الملك لم يخلف والداً ، أشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه ، فقام ، و انضم إليه
خلق من المغول . ثم سير التقادم إلى القان الأكبر ، فاستشاط غيظاً ، و أمر بقطع
أذناب الخيل التي أهديت ، و طردها ، و قتل الرسل ، لكون التتار لم يتقدم لهم سابقة
يتملك ، إنما هم بادية الصين ، فلما سمع جنكزخان و صاحبه كشلوخان تحالفا على
التعاضد و أظهرا الخلاف للقان و أتتها أمم كثيرة من التتار ، و علم القان قوتهم و
شرهم فأرسل يؤانسهم و يظهر مع ذلك أن ينذرهم و يهددهم ، فلم يغن ذلك شيئاً ، ثم
قصدهم و قصدوه ، فوقع بينهم ملحمة عظيمة ، فكسروا القان الأعظم ، و ملكوا بلاده ، و
استفحل شرهم ، و ستمر الملك بين جنكزخان و كشلوخان على المشاركة .
ثم سار إلى بلاد شاقون من نواحي الصين فملكاها ، فمات كشلوخان ، فقام مقامه ولده ،
فاستضعفه جنكزخان ، فوثب عليه ز ظفر به ، و استقل جنكزخان ، و دانت له التتار ، و
انقادت له و اعتقدوا فيه الإلهية ، و بالغوا في طاعته . ثم كان أول خروجهم في سنة
ست و ستمائة من بلادهم إلى نواحي الترك و فرغانة ، فأرسل خوارزم شاه محمد بن تكش
صاحب خراسان الذي أباد الملوك و أخذ المماليك و عزم على قصد الخليفة ، فلم يتهيأ
كما تقدم ، فأمر أهل فرغانة و الشاش و كاسان و تلك البلاد النزهة العامرة بالجلاء و
الجفلى إلى سمرقند و غيرها ، ثم خربها جميعاً خوفاً من التتار أن يملكوها ، لعلمه
أنه لا طاقة له بهم .
ثم صارت التتار يتخطفون و ينتقلون إلى سنة خمس عشرة ، فأرسل فيها جنكزخان إلى
السلطان خوارزم شاه رسلاً و هدايا ، و قال الرسول : إن القان الأعظم يسلم عليك و
يقول لك : ليس يخفى علي عظم شأنك ، و ما بلغت من سلطانك و نفوذ حكمك على الأقاليم ،
و أنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات ،و أنت عندي مثل أعز أولادي ، و غير خاف عنك
أنني تملكت الصين ، و أنت أخبر الناس ببلادي ، و أنها مثارات العساكر و الخيول ، و
معادن الذهب و الفضة ، و فيها كفاية عن غيرها ، فإن رأيت أن تعقد بيننا المودة ، و
تأمر التجار بالسفر لتعلم المصلحتين فعلت ، فأجابه خوارزم شاه إلى ملتمسه ، و بشر
جنكزخان بذلك ، و استمر الحال على المهادنة إلى أن وصل من بلاده تجار .
و كان خال خوارزم شاه ينوب على بلاد ما وراء النهر ، و معه عشرون ألف فارس ، فشرهت
نفسه إلى أموال التجار ، و كانت السلطان يقول : إن هؤلاء القوم قد جاؤوا بزي التجار
، و ما قصدهم إلا التجسس ، فإن أذنت لي فيهم ، فأذن له بالاحتياط عليهم ، فقبض
عليهم و أخذ أموالهم ، فوردت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول : إنك أعطيت أمانك
التجار فغدرت ، و الغدر قبيح ، و هو سلطان الإسلام أقبح ، فإن زعمت أن الذي فعله
خالك بغير أمرك فسلمه إلينا ، و إلا سوف تشاهد مني ما تعرفني به ، فحصل عند خوارزم
شاه من الرعب ما خامر عقله ، فتلجد ، و أمر بقتل الرسل ، فقتلوا .
فيالها من حركة لما أهدرت من دماء المسلمين و أجرت بكل نقطة سيلاً من الدم .
ثم سار جنكزخان إليه ، فانجفل خوارزم شاه عن جيحون إلى نيسابور . ثم ساق إلى برج
همذان رعباً من التتار ، فأحدق به العدو ، فقتلوا كل من معه ، و نجا هو بنفسه ،
فخاض الماء إلى جزيرة ، و لحقته علة ذات الجنب ، فمات بها وحيداً فريداً ، و كفن في
شاش فراش كان معه ،و ذلك في سنة سبع عشرة ، و ملكوا جميع مملكة خوارزم شاه .
قال سبط ابن الجوزي : كان أول ظهور التتار بما وراء
النهر سنة خمس عشرة ، فأخذوا بخارى و سمرقند ، قتلوا أهلها ، و حاصروا خوارزم شاه ،
ثم بعد ذلك عبروا النهر و كان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان فلم تجد
التتار أحداً في وجههم ، فطاروا في البلاد قتلاً و سبياً ، و ساقوا إلى أن وصلوا
همذان و قزوين في هذه السنة .
و قال ابن الأثير في كامله
: حادثة التتار من الحوادث العظمى ، و المصائب الكبرى ، التي عقمت الدهور عن
مثلها ، عمت الخلائق ، و خصت المسلمين . فلو قال قائل : إن العلم منذ خلقه الله
تعالى إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً ، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها .
و من أعظم ما يذكرون فعل بختنصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس ، و ما البيت المقدس
بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من مدن الإسلام ؟ و ما بنو إسرائيل بالنسبة إلى
ما قتلوا ؟
فهذه الحادثة التي استطار شرها ، و عم ضررها ، و سادت في البلاد كالسحاب استدبرته
الريح ، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين ، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر و بلاد
شاغرق ثم منهم إلى بخارى و سمرقند فيملكونها ، و يبيدون أهلها ، ثم تعبر طائفة منهم
إلى خراسان ، فيفرغون منها هلكاً و تخريباً و قتلاً و إبادة ، و إلى الري و هذان
إلى حد العراق ، ثم يقصدون آذربيجان و نواحيها ، و يخربونها و يستبيحونها في أقل من
سنة ـ أمر لم يسمع بمثله ، ثم ساروا من آذربيجان إلى دربند شروان ، فملكوا مدنها و
عبروا من عندها إلى بلاد اللن ، و اللكز ، فقتلوا و أسروا ، ثم قصدوا بلاد فقجاق ،
و هم أكثر من الترك عدداً ، فقتلوا من وقف ، و هرب الباقون ، و استولى التتار عليها
.
و مضت طائفة آخرى غير هؤلاء إلى غزنة و أعمالها ، و سجستان ، و كرمان ، ففعلوا مثل
هؤلاء ، بل أشد . هذا لم يطرق الأسماع مثله ، فإن الإسكندر الذي ملك الدنيا لم
يملكها في هذه السرعة ، و إنما ملكها في نحو عشر سنيين ، و لم يقتل أحداً ، و إنما
رضي بالطاعة ، و هؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض و أحسنه و أعمره في نحو سنة
، و لم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا و هو خائف يترقب وصولهم إليه .
ثم إنهم لم يحتاجوا إلى ميرة ، و مددهم يأتيهم ، فإنهم معهم الأغنام و البقر و
الخيل يأكلون لحومها ، لا غير .
و أما خيلهم فإنها تحفر الأرض بحوافرها ، و تأكل عروق النبات ، و لا تعرف الشعير .
و أما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ، و لا يحرمون شيئاً ، و يأكلون جمع
الدواب ، و بني آدم ، و لا يعرفون نكاحاً ، بل المرأة يأتيها غير واحد . و لما دخلت
سنة ست و خمسين وصل التتار إلى بغداد ، و هم مائتا ألف ، و يقدمهم هلاكو ، فخرج
إليهم عسكر الخليفة ، فهزم العسكر .
و دخلوا بغداد يوم عاشوراء ، فأشار الوزير لعنه الله على المستعصم بمصانعتهم و
قال : أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح ظن فخرج و توثق بنفسه منهم ، و ورد إلى
الخليفة ، و قال : إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بإبنك الأمير أبي بكر و
يبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ، و لا يريد إ لا أن تكون
الطاعة كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية ، و ينصرف عنك بجيوشه ، فليجب
مولانا إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ، و يمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد . و
الرأي أن تخرج إليه ، فخرج إليه في جمع من الأعيان ، فأنزل في خيمة .
ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء و الأماثل ليحضروا العقد ، فخرجوا من بغداد فضربت
أعناقهم ، و صار كذلك : تخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم ، حتى قتل جميع من هناك
من العلماء و الأمراء و الحجاب و الكبار .
ثم مد الجسر ، و بذل السيف في بغداد ، و استمر القتال فيها نحو أربعين يوماً ، فبلغ
القتلى أكثر من ألف ألف نسمة ، و لم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة ، و قتل
الخليفة رفساً .
قال الذهبي : و ما أظنه دفن ، و قتل معه جماعة من
أولاده و أعمامه ، و أسر بعضهم ، و كانت بلية لم يصب الإسلام بمثلها ، و لم يتم
للوزير ما أراد ، و ذاق من التتار الذل و الهوان ، و لم تطل أيامه بعد ذلك ، و عملت
الشعراء قصائد في مرائي بغداد و أهلها ، و تمثل بقول سبط التعاويذي :
بادت و أهلوها معاً فبيوتهم ببقاء مولانا الوزير خراب
و قال بعضهم :
يا عصبة الإسلام نوحي و اندبي حزناً على ما تم للمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه لابن الفرات فصار لابن
العلقمي
و كان آخر خطبة خطبت ببغداد . قال الخطيب في أولها :
الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار ، و حكم بالفناء على أهل هذه الدار هذا و
السيف قائم بها .
و لتقي الدين أبي اليسر قصيدة مشهورة في بغداد ، و هي هذه :
لسائل الدمع عن بغداد أخبار فما وقوفك و الأحباب قد
ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا فما بذاك الحمى و الدار
ديار
تاج الخلافة و الربع الذي شرفت به المعالم قد عفاه إفقار
أضحى لعصف البلى في ربعه أثر و للدموع على الآثار آثار
يا نار قلبي من نار لحرب وغى شبت عليه و وافى الربع
إعصار
علا الصليب على أعلى منابرها و قام بالأمر من يحويه زنار
و كم حريم سبته الترك غاصبة ؟ و كان من دون ذاك الستر
أستار
و كم بدور على البدرية انخسفت ؟ و لم يعد لبدور منه إبدار
و كم دخائر أضحت و هي شائعة ؟ من النهاب و قد حازته كفار
و كم حدود أقيمت من سيوفهم ؟ على الرقاب و حطت فيه أوزار
ناديت و السبي مهتوك تجر بهم إلى السفاح من الأعداء دعار
و لما فرغ هلاكو من قتل الخليفة و أهل بغداد ، و أقام على العراق نوابه ، و كان ابن
العلقمي حسن لهم أن يقيموا خليفة علوياً ، فلم يوافقوه و اطرحوه ، و صار معهم في
صورة بعض الغلمان ، و مات كمداً لا رحمه الله و لا عفا عنه .
ثم أرسل هلاكو إلى الناصر صاحب دمشق كتاباً صورته : يعلم السلطان الملك الناصر طال
يقاؤه أنه لما توجهنا العراق و خرج إلينا جنودهم ، فقتلناهم بسيف الله ، ثم خرج
إلينا رؤساء البلد و مقدموها ، فكان قصارى كلامهم سبباً لهلاك نفوس تستحق الإهلاك ،
و أما ما كان من صاحب البلدة فإنه خرج إلى خدمتنا ، و دخل تحت عبوديتنا ، فسألناه
عن أشياء كذبنا فيها ، فاستحق الإعلام ، و كان كذبه ظاهراً و وجدوا ما عملوا حاضراً
، و أجب ملك البسيطة و لا تقولن : قلاعي المانعات ، و رجالي المقاتلات ، و قد بلغنا
أن شذرة من العسكر التجأت إليك هاربة ، و إلى جنابك لائذة :
أين المفر و لا مفر لهارب و لنا البسيطان الثرى و الماء
فساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضاً ، و طولها عرضاً ، و السلام .
ثم أرسل له كتاباً ثانياً يقول فيه : خدمة ملك ناصر طال عمره أما بعد : فإنا فتحنا
بغداد ، و استأصلنا و ملكها ، و كان قد ظن ـ و قد فتن الأموال ، و لم ينافس في
الرجال ـ أن ملكه يبقى على ذلك الحال ، و قد علا ذكره و نمى قدره ، فخسف في الكمال
بدره :
إذا تم أمر بدا نفصه توقع زوالاً إذا قيل تم
و نحن في طلب الازدياد ، على ممر الآباد ، فلا تكن كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
، و أبد ما في نفسك : إما إمساك بمعوف ، أو تسريح بإحسان ، و أجب دعوة ملك البسيطة
تأمن شره ، و تنل بره ، واسع بأموالك و رجالك ، و لا تعوق رسلنا ، و السلام .
ثم أرسل إليه كتاباً ثالثاً يقول فيه : أما بعد : فنحن جنود الله ، بنا ينتقم ممن
عتا و تجبر ، و طغى و تكبر ، و بأمر الله ما ائتمر ، إن عوتب تنمر ، و إن روجع
استمر ، و نحن قد أهلكنا البلاد ، و أبدنا العباد ، و قتلنا النسوان و الأولاد ،
فيا أيها الباقون ، أنتم بمن مضى لا حقون ، و يا أيها الغافلون ، أنتم إليهم تساقون
، نحن جيوش الهلكة ، لا جيوش الملكة ، مقصودنا الانتقام ، و ملكنا لا يرام ، و
نزيلنا لا يضام ، و عدلنا في ملكنا قد اشتهر ، و من سيوفنا أين المفر :
أين المفر و لا مفر لهارب و لنا البسيطان الثرى و الماء
ذلت لهيبتنا الأسود ، و أصبحت في قبضتي الأمراء و الخلفاء
و نحن إليكم صائرون ، ولكم الهرب ، و علينا الطلب :
ستعلم ليلى أي دين تداينت ؟ و أي غريم بالتقاضي غريمها ؟
دمرنا البلاد ، و أيتمنا الأولاد ، و أهلكنا العباد ، و أذقناهم العذاب ، و جعلنا
عظيمهم صغيراً ، و أميرهم أسيراً ، تحسبون أنكم منا ناجون أو متخلصون ، و عن قليل
سوف تعلمون على ما تقدمون ، و قد اعذر من أنذر .
ثم دخلت سنة سبع و خمسين و الدنيا بلا خليفة .
و فيها نزل التتار على آمد ، و كان صاحب مصر المنصور علي بن المعز صبياً ، و أتابكه
الأمير سيف الدين قطز المعزي مملوك أبيه ، و قدم الصاحب كمال الدين بن العديم إليهم
رسولاً يطلب النجدة على التتار ، فجمع قطز الأمراء و الأعيان ، فحضر الشيخ عز الدين
بن عبد السلام ـ و كان المشار إليه في الكلام ـ فقال الشيخ عز الدين : إذا طرق
العدو البلاد وجب على العلم كلهم قتالهم ، و جاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به
على جهازهم ، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء ، و أن تبيعوا ما لكم من الحوائص و
الآلات ، و يقتصر كل منكم على فرسه و سلاحه ، و تتساور في ذلك أنتم و العامة ، و
أما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال و الآلات الفاخرة فلا .
ثم بعد أيام قبض قطز على ابن أستاذه المنصور ، و قال : هذا صبي ، و الوقت صعب ، و
لا بد أن يقوم رجل شجاع ينتصب للجهاد ، و تسلطن قطز و لقب بـ [ الملك المظفر ] .
ثم دخلت سنة ثمان و خمسين ، و الوقت أيضاً بلا خليفة .
و فيها قطع التتار الفرات ، و وصلوا إلى حلب ، و بذلوا السيف فيها ثم وصلوا إلى
دمشق و خرج المصريون في شعبان متوجهين إلى الشام لقتال التتار ، فأقبل المظفر
بالجيوش و شاليشه ركن الدين بيبرس البندقداري ، فالتقوا هم و التتار عند عين جالوت
، و وقع المصاف ، و ذلك يوم الجمعة خامس عشر رمضان، فهزم التتار شر هزيمة ، و انتصر
المسلمون و لله الحمد ، و قتل من التتار مقتلة عظيمة ، و ولوا الأدبار ، و طمع
الناس فيهم يتخطفونهم و ينهبونهم ، و جاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر ، فطار لناس
فرحاً ، ثم دخل المظفر إلى دمشق مؤيداً منصوراً ، و أحبه الخلق غاية المحبة ، و ساق
بيبرس وراء التتار إلى بلاد حلب و طردهم عن البلاد ، و وعده السلطان بحلب ، ثم رجع
عن ذلك ، فتأثر بيبرس من ذلك ، و كان ذلك مبدأ الوحشة ، و كان المظفر عزم على
التوجه إلى حلب لينظف آثار البلاد من التتار ، فبلغه أن بيبرس تنكر له و عمل عليه ،
فصرف وجهه عن ذلك ، و رجع إلى مصر و قد أضمر الشر لبيبرس ، و أسر ذلك لبعض خواصه ،
فأطلع على ذلك بيبرس فساروا إلى مصر و كل منهما محترس من صاحبه ، فاتفق بيبرس و
جماعة من الأمراء على قتل المظفر ، فقتلوه في الطريق في ثالث عشر شهر ذي القعدة ، و
تسلطن بيبرس و لقب الملك القاهر ، و دخل مصر و أزال عن أهلها ما كان المظفر قد
أحدثه عليهم من المظالم ، و أشار عليه الوزير زين الملة و الدين ابن الزبير بأن
يغير هذا اللقب و قال : ما لقب به أحد فأفلح : لقب به القاهر بن المعتضد ، فخلع بعد
قليل و سمل ، و لقب به القاهر ابن صاحب الموصل فسم ، فأبطل السلطان هذا اللقب و
تلقب بالملك الظاهر .
ثم دخلت سنة تسع و خمسين ، و الوقت أيضاً بلا خليفة إلى رجب ، فأقيمت بمص الخلافة ،
و بويع المستنصر كما سنذكره ، و كان مدة انقطاع الخلافة ثلاث سنين و نصفاً .
و ممن مات في أيام المستعصم من الأعلام : الحافظ تقي الدين
الصريفيني ، و الحافظ أبو القاسم بن الطيلسان ، و شمس الأئمة الكردي من كبار
الحنفية ، و الشيخ تقي الدين بن الصلاح ، و العلم السخاوي ، و الحافظ محب الدين بن
النجار مؤرخ بغداد ، و منتخب الدين شارح المفصل ، و ابن يعيش النحوي ، و أبو الحجاج
الأقصري الزاهد ، و أبو علي الشلوبيني النحوي ، و ابن البيطار صاحب المفردات ، و
العلامة جمال الدين بن الحاجب إمام المالكية ، و أبو الحسن بن الدباج النحوي ، و
القفطي صاحب تاريخ النحاة ، و أفضل الدين الخونجي صاحب المنطق ، و الأزدي ، و
الحافظ يوسف بن خليل ، و البهاء ابن بنت الحميري و الجمال بن عمرون النحوي ، و
الرضي الصغاني اللغوي صاحب [ العباب ] و غيره ، و الكمال عبد الواحد الزملكاني صاحب
المعاني و البيان ، و إعجاز القرآن ، و الشمس الخسرو شاهي ، و المجد ابن تيمية ، و
يوسف سبط ابن الجوزي صاحب [ مرآة الزمان ] و ابن باطيش من كبار الشافعية ، و النجم
البادرائي ، و ابن الفضل المرسي صاحب التفسير ، و خلائق آخرون .
فصل
و مات في مدة انقطاع الخلافة من الأعلام : الزكي عبد العظيم المنذري ، و الشيخ أبو
الحسن الشاذلي شيخ الطائفة الشاذلية ، و شعبة المقرئ ، و الفاسي شارح الشاطبية ، و
سعد الدين بن العزي الشاعر ، و الصرصري الشاعر ، و ابن الأبار مؤرخ الأندلس ، و
آخرون . |
|
|