البــدايـــة

القــرآن الكـريــم

الحديث النبوي الشريف

المكتبـه العـامـــه

المكتبـــــة العـــــامـــه

الخــلافـــة العبــاســـــيـة

 

القرن الثاني
القرن الثالث
القرن الرابع

القرن الخامس

القرن السادس
القرن السابع
القرن الثامن
نبذة عن بالأندلس
الدولة العبيدية
دولة بني طبابا
الدولة الطبرستانية
الفتن في كل قرن

أبو العباس السفاح أبو جعفر المنصور المهدي  الهادي
هارون الرشيد  الأمين المأمون  

أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس 136 هـ ـ 158 هـ
المنصور أبو جعفر : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، و أمه سلامة البربرية أم ولد ، ولد سنة خمس و تسعين ، و أدرك جده و لم يرو عنه .
و روى عن أبيه ، و عن عطاء بن يسار ، و عنه ولده المهدي . و بويع بالخلافة بعهد من أخيه و كان فحل بني العباس هيبة و شجاعة و حزماً و رأياً و جبروتاً ، جماعاً للمال ، تاركاً اللهو و اللعب ، كامل العقل ، جيد المشاركة في العلم و الأدب ، فقيه النفس ، قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه ، و هو الذي ضرب أبا حنيفة رحمه الله على القضاء ، ثم سجنه ، فمات بعد أيام ، و قيل : إنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه ، و كان فصيحاً بليغاً مفوهاً خليقاً للإمارة ، و كان غاية في الحرص و البخل ، فلقب [ أبا الدوانيق ] لمحاسبته العمال و الصناع على الدوانيق و الحبات .
أخرج الخطيب عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : منا السفاح ، و منا المنصور ، و منا المهدي .
قال الذهبي : منكر منقطع .
و أخرج الخطيب و ابن عساكر و غيرهما من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : منا السفاح و منا المنصور ، و منا المهدي .
قال الذهبي : إسناده صالح .
و أخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن محمد بن جابر عن الأعمش عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم ! قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : منا القائم ، و منا المنصور ، و منا السفاح ، و منا المهدي ، فأما القائم فتأتيه الخلافة و لم يهرق فيها محجمة من دم ، و أما المنصور فلا ترد له راية ، و أما السفاح فهو يسفح المال و الدم ، و أما المهدي فيملؤها عدلاً كما ملئت ظلماً .
و عن المنصور قال : رأيت كأني في الحرم ، و كأن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكعبة و بابها مفتوح ، فنادى مناد : أين عبد الله ؟ فقام أخي أبو العباس حتى صار على الدرجة ، فأدخل ، فما لبث أن خرج و معه قناة عليها لواء أسود قدر أربعة أذرع ، ثم نودي : أين عبد الله ؟ فقمت على الدرجة ، فأصعدت و إذا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أبو بكر ، و عمر ، و بلال ، فعقد لي ، و أوصاني بأمته ، و عمني بعمامة ، فكان كورها ثلاثة و عشرين ، و قال : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة .
تولى المنصور الخلافة في أول سنة سبع و ثلاثين و مائة ، فأول ما فعل أن قتل أبا مسلم الخراساني صاحب دعوتهم و ممهد مملكتهم .
و في سنة ثمان و ثلاثين و مائة كان دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي إلى الأندلس . و استولى عليها و امتدت أيامه ، و بقيت الأندلس في يد أولاده إلى بعد الأربعمائة ، و كان عبد الرحمن هذا من أهل العلم و العدل ، و أمه بربرية
قال أبو المظفر الأبيوردي : فكانوا يقولون : ملك الدنيا ابنا بربريتين : المنصور ، و عبد الرحمن بن معاوية .
و في سنة أربعين شرع في بناء مدينة بغداد .
و في سنة إحدى و أربعين كان ظهور الراوندية القائلين بالتناسخ ، فقتلهم المنصور و فيها فتحت طبرستان .
قال الذهبي : في سنة ثلاث و أربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث ، و الفقه ، و التفسير ، فصنف ابن جريج بمكة ، و مالك الموطأ بالمدينة ، و الأوزاعي بالشام ، و ابن أبي عروبة و حماد بن سلمة و غيرهما بالبصرة ، و معمر باليمن ، و سفيان الثوري بالكوفة ، و صنف ابن إسحاق المغازي ، و صنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه و الرأي ، ثم بعد يسير صنف هشيم ، و الليث ، و ابن لهيعة ، ثم ابن المبارك ، و أبو يوسف ، و ابن وهب ، و كثر تدوين العلم و تبويبه ، و دونت كتب العربية ، و اللغة ، و التاريخ و أيام الناس ، و قبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم ، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة .
و في سنة خمس و أربعين كان خروج الأخوين محمد و إبراهيم ابني عبد الله بن حسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فظفر بهما المنصور فقتلهما و جماعة كثيرة من آل البيت فإنا لله و إنا إليه راجعون .
و كان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسين و العلويين ، و كانوا قبل شيئاً واحداً و آذى المنصور خلقاً من العلماء ممن خرج معهما أو أمر بالخروج قتلاً و ضرباً و غير ذلك : منهم أبو حنيفة ، و عبد الحميد بن جعفر ، و ابن عجلان ، و ممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس رحمه الله ، و قيل له : إن في أعناقنا بيعة للمنصور ، فقال : إنما بايعتكم مكرهين ، و ليس على مكره يمين .
و في سنة ست و أربعين كانت غزوة قبرس .
و في سنة سبع و أربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد ، و كان السفاح عهد إليه من بعد المنصور ، و كان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما ، فكافأه بأن خلعه مكرهاً ، و عهد إلى ولده المهدي .
و في سنة ثمان و أربعين توطدت الممالك كلها للمنصور ، و عظمت هيبته في النفوس ، و دانت له الأمصار ، و لم يبق خارجاً عنه سوى جزيرة الأندلس فقط فإنها غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني ، لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين ، بل الأمير فقط ، و كذلك بنوه .
و في سنة تسع و أربعين فرغ من بناء بغداد .
و في سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير استاذ سيس ، و استولى على أكثر مدن خراسان و عظم الخطب ، و استفحل الشر و اشتد على المنصور الأمر ، و بلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس و راجل ، فعمل معهم أجشم المروزي مصافاً ، فقتل أجشم و استبيح عسكره ، فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش عرمرم يسد الفضاء ، فالتقى الجمعان ، و صبر الفريقان ، و كانت وقعة مشهورة يقال : قتل فيها سبعون ألفاً ، و انهزم أستاذ سيس فالتجأ إلى جبل ، و أمر الأمير خازم في العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم ، و كانوا أربعة عشر ألفاً ، ثم حاصروا أستاذ سيس مدة ، ثم سلم نفسه فقيده و أطلقوا أجناده ، و كان عددهم ثلاثين ألفاً ، انتهى .
و في سنة إحدى و خمسين بنى الرصافة و شيدها .
و في سنة ثلاث و خمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال ، فكانوا يعملونها بالقصب و الورق و يلبسونها السوداء ، فقال أبو دلامة :
و كنا نرجي من إمام زيادة       فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها       دنان يهود جللت بالبرانس
و في سنة ثمان و خمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري ، و عباد بن كثير فحبسا ، و تخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج ، فلم يوصله الله مكة سالماً ، بل قدم مريضاً و مات و كفاهما الله شره ، و كانت وفاته بالبطن في ذي الحجة و دفن بين الحجون و بين بئر ميمون ، و قال سلم الخاسر :
قفل الحجيج و خلفوا ابن محمد       رهناً بمكة في الضريح الملحد
شهدوا المناسك كلها و إمامهم       تحت الصفائح محرماً لم يشهد
و من أخبار المنصور أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة ،فبينا هو يدخل منزلاً من المنازل قبض عليه صاحب الرصد ، فقال : زن درهمين قبل أن تدخل ، قال : خل عني فإني رجل من بني هاشم ، قال : زن درهمين ، فقال : خل عني فإني من بني عم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال زن درهمين ، قال : خل عني فإني رجل قارىء لكتاب الله ، قال : زن درهمين ، قال : خل عني فإني رجل عالم بالفقه ، و الفرائض ، قال : زن درهمين ، فلما أعياه أمره وزن الدرهمين ، فرجع و لزم جمع المال و التدنق فيه حتى لقب بأبي الدوانيق .
و أخرج عن الربيع بن يونس الحاجب قال : سمعت المنصور يقول : الخلفاء أربعة : أبو بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي ، و الملوك أربعة : معاوية ، و عبد الملك ، و هشام ، و أنا .
و أخرج عن مالك بن أنس قال : دخلت على أبي جعفر المنصور فقال : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قلت : أبو بكر و عمر ، قال أصبت ، و ذلك رأي أمير المؤمنين .
و أخرج عن إسماعيل الفهري قال : سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في خطبته :
أيها الناس : إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه و رشده ، و خازنه على فيئه أقسمه بإرادته و أعطيه بإذنه ، و قد جعلني الله عليه قفلاً : إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم ، و إذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني ، فارغبوا إلى الله أيها الناس ، و سلوه في هذا البيت الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلكم في كتابه إذ يقول : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا أن يوفقني للصواب ، و يسددني للرشاد ، و يلهمني الرأفة بكم ، و الإحسان إليكم ، و يفتحني لإعطائكم و قسم أرزاقكم بالعدل ، فإنه سميع مجيب . و أخرجه الصولي ، و زاد في أوله أن سبب هذه الخطبة أن الناس بخلوه ، و زاد في آخره : فقال بعض الناس : أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه .
و أخرج عن الأصمعي و غيره أن المنصور صعد المنبر فقال :
الحمد لله ، أحمده و أستعينه ، و أومن به ، و أتوكل عليه ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فقام : إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، أذكر من أنت في ذكره ، فقال : مرحباً مرحباً ، لقد ذكرت جليلاً ، و خوفت عظيماً ، و أعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ، و الموعظة منا بدت ، و من عندنا خرجت ، و أنت يا قائلها فأحلف بالله ما أردت بها ، و إنما أردت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر فاهون بها من قائلها ، و اهتبلها من الله ، ويلك ! إني قد غفرتها ، و إياكم معشر الناس و أمثالها ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، فعاد إلى خطبته فكأنما يقرؤها من قرطاس .
و أخرج من طرق أن المنصور قال لابنه المهدي : يا أبا عبد الله ، الخليفة لا يصلحه إلا التقوى ، و السلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، و الرعية لا يصلحها إلا العدل ، و أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، و أنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه .
و قال : لا تبر من أمراً حتى تفكر فيه ، فإن فكرة العاقل مرآته تريه قبيحة و حسنه .
و قال : أي بني استدم النعمة بالشكر ، و المقدرة بالعفو ، و الطاعة بالتألف ، و النصر بالتواضع و الرحمة للناس .
و أخرج عن مبارك بن فضالة قال : كنا عند المنصور ، فدعا برجل و دعا بالسيف ، فقال المبارك : يا أمير المؤمنين ، سمعت الحسين يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة قام مناد من عند الله ينادي ليقم الذين أجرهم على الله ، فلا يقوم إلا من عفا ، فقال المنصور : خلوا سبيله .
و أخرج عن الأصمعي قال : أتى المنصور برجل يعاقبه ، فقال : يا أمير المؤمنين الانتقام عدل ، و التجاوز فضل و نحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين ، فعفا عنه .
و أخرج عن الأصمعي قال : لقي المنصور أعرابياً بالشام ، فقال أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت ، قال : إن الله لا يجمع علينا حشفاً و سوء كيل ولايتكم و الطاعون .
و أخرج عن محمد بن منصور البغدادي قال : قام بعض الزهاد بين يدي المنصور فقال : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك ببعضها ، و اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة ، و اذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده ، فأفحم المنصور و أمر له بمال ، فقال : لو احتجت إلى مالك ما وعظتك .
و أخرج عن عبد السلام بن حرب أن المنصور بعث إلى عمرو بن عبيد فجاءه فأمر له بمال ، فأبى أن يقبله ، فقال المنصور : و الله لتقبلنه ، فقال : و الله لا أقبله ، فقال له المهدي : قد حلف أمير المؤمنين ، فقال : أمير المؤمنين أقوى على كفارة اليمين من عمك ، فقال له المنصور : سل حاجتك ؟ قال : أسألك أن لا تدعوني حتى آتيك ، و لا تعطني حتى أسألك ، فقال : علمت أني جعلت هذا ولي عهدي ، فقال يأتيه الأمر يوم يأتيه و أنت مشغول .
و أخرج عن عبد الله بن صالح قال : كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة : انظر التي تخاصم فيها فلان القائد و فلان التاجر فادفعها إلى القائد ، فكتب إليه سوار : إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر ، فلست أخرجها من يده إلا ببينة ، فكتب إليه المنصور : و الله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد ، فكتب إليه سوار : و الله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق ، فلما جاءه الكتاب قال : ملأتها و الله عدلاً ، و صار قضاتي تردني إلى الحق .
و أخرج من وجه آخر أن المنصور وشي إليه بسوار ، فاستقدمه فعطس المنصور ، فلم يشمته سوار ، فقال ، ما يمنعك من التشميت ؟ قال : لأنك لم تحمد الله ، فقال قد حمدت الله في نفسي ، قال شمتك في نفسي ، قال : ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لم تحاب غيري .
و أخرج عن نمير المدني قال : قدم المنصور المدينة ، و محمد بن عمران الطلحي على قضائه ، و أنا كاتبه ، فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء ، فأمرني أن أكتب إليه بالحضور و إنصافهم ، فاستعفيت ، فلم يعفني ، فكتبت الكتاب ، ثم ختمته ، و قال : و الله لا يمضي به غيرك ، فمضيت به إلى الربيع ، فدخل عليه ، ثم خرج ، فقال للناس إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد دعيت إلى مجلس الحكم ، فلا يقومن معي أحد . ثم جاء هو و الربيع ، فلم يقم له القاضي ، بل حل رداءه ، و اختبى به ، ثم دعا بالخصوم ، فادعوا ، فقضى لهم على الخليفة ، فلما فرغ قال له المنصور : جزاك الله عن دينك أحسن الجزاء ، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار .
و أخرج عن محمد بن حفص العجلي قال : ولد لأبي دلامة ابنة ، فغدا على المنصور ، فأخبره ، و أنشد :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم       قوم لقيل : اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم       إلى السماء فأنتم أكرم الناس
ثم أخرج أبو دلامة خريطة ، فقال المنصور : ما هذه ؟ قال ، أجعل فيها ما تأمر لي به ، فقال : املؤوها له دراهم ، فوسعت ألفي درهم .
و أخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال : قيل للمنصور هل من بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله ؟ قال : بقيت خصلة ، أن أقعد في مصطبة و حولي أصحاب الحديث . يقول المستملي : من ذكرت رحمك الله ، فغدا عليه الندماء و أبناء الوزراء بالمحابر و الدفاتر ، فقال لستم بهم ، إنما هم الدنسة ثيابهم ، المشققة أرجلهم ، الطويلة شعورهم ، برد الآفاق و نقلة الحديث .
و أخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور : لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو ، قال : لأن بني مروان لم تبل رممهم ، و آل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ، و نحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة ، و اليوم خلفاء ، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو و استعمال العقوبة .
و أخرج عن يونس بن حبيب قال : كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه و أرزاقه ، و أبلغ في كتابه ، فوقع المنصور في القصة : إن الغنى و البلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه ، و أمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك ، فاكتف بالبلاغة.
و أخرج عن محمد بن سلام قال : رأت جارية المنصور قميصه مرقوعاً ، فقالت : خليفة و قميصه مرقوع ، فقال : ويحك ! أما سمعت قول ابن هرمة :
قد يدرك الشرف الفتى و رادؤه       خلق و جيب قميصه مرقوع
و قال العسكري في الأوائل : كان المنصور في ولد العباس كعبد الملك في بني أمية في بخله ، رأى بعضهم عليه قميصاً مرقوعاً فقال : سبحان من ابتلى أبا جعفر بالفقر في ملكه ! و حدا به سلم الحادي ، فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة ، فأجازه بنصف درهم ، فقال : لقد حدوت بهشام ، فأجازني بعشرة آلاف ، فقال : ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال ، يا ربيع و كل به من يقبضها منه ، فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهاباً و إياباً بغير شيء .
و في كتاب الأوائل للعسكري : كان ابن هرمة شديد الرغبة في الخمر ، فدخل على المنصور فأنشده :
له لحظات من خفا في سريرة       إذا كرها فيها عقاب و نائل
فأم الذي أمنت آمنة الردى       و أم الذي حاولت بالثكل ثاكل
فأعجب به المنصور ، و قال : ما حاجتك ؟ قال : تكتب إلى عاملك بالمدينة أن لا يحدني إذا وجدني سكران ، فقال : لا أعطل حداً من حدود الله ، قال : تحتال لي ، فكتب إلى عامله : من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة ، و اجلد ابن هرمة ثمانين .
فكان العون إذا مر به و هو سكران يقول : من يشتري مائة بثمانين ؟ و يتركه و يمضي قال : و أعطاه المنصور في هذه المرة عشرة آلاف درهم ، و قال له : يا إبراهيم احتفظ بها فليس لك عندنا مثلها ، فقال : إني ألقاك على الصراط بها بختمة الجهبذ .
و من شعر المنصور ، و شعره قليل :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة       فإن فساد الرأي أن تترددا
و لا تهمل العداء يوماً بقدرة       و بادرهم أن يملكوا مثلها غدا
و قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة ، فأدخلني منزله ، فقدم إلي طعاماً لا لحم فيه ثم قال : يا جارية عندك حلواء ؟ قالت : لا ، قال : و لا التمر ؟ قالت : لا ، فاستلقى و قرأ عسى ربكم أن يهلك عدوكم الآية ، فلما ولي الخلافة وفدت إليه فقال : كيف سلطاني من سلطان بني أمية ؟ قلت : ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئاً إلا رأيته في سلطانك ، فقال : إنا لا نجد الأعوان ، قلت : قال عمر بن عبد العزيز : إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها ، فإن كان براً أتوه ببرهم ، و إن كان فاجراً أتوه بفجورهم ، فأطرق .
و من كلام المنصور : الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة خلال : إفشاء السر ، و التعرض للحرم ، و القدح في الملك . أسنده الصولي .
و قال : إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك ، و إلا فقبلها ، أسنده أيضاً .
و أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : مما يؤثر من ذكاء المنصور انه دخل المدينة فقال للربيع : اطلب لي رجلاً يعرفني دور الناس ، فجاءه رجل ، فجعل يعرفه الدور ، إلا انه لا يبتدئ به حتى يسأله المنصور ، فلما فارقه أمر له بألف درهم ، فطالب الرجل الربيع بها ، فقال : ما قال لي شيئاً ، و سيركب فذكره ، فركب مرة أخرى ، فجعل يعرفه ، و لا يرى موضعاً للكلام ، فلما أراد أن يفارقه قال الرجل مبتدئاً : وهذه يا أمير المؤمنين دار عاتكة التي يقول فيها الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل       حذر العدى و بك الفؤاد موكل
فأنكر المنصور ابتداءه ، فأمر القصيدة على قلبه فإذا فيها :
و أراك تفعل ما تقول و بعضهم       مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فضحك و قال : و يلك يا ربيع ! أعطه ألف درهم .
و أسند الصولي عن إسحاق الموصلي قال : لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب ولا غناء ، بل يجلس و بينه و بين الندماء ستارة ، و بينهم و بينها عشرون ذراعاً ، و بينهما و بينه كذلك ، و أول من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهدي .
و أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : قال المنصور لقثم بن العباس بن عبد الله بن العباس ، و كان عامله على اليمامة و البحرين : ما القثم ؟ و من أي شيء أخذ ؟ فقال : لا أدري ، فقال : اسمك اسم هاشمي لا تعرفه ، أنت و الله جاهل ، قال : فإن رأى أمير المؤمنين أن يفيدنيه ، قال : القثم الذي ينزل بعد الأكل و يقثم الأشياء : يأخذها و يثلمها .
روي أن المنصور ألح عليه ذباب ، فطلب مقاتل بن سليمان ، فسأله لم خلق الله الذباب ؟ قال : ليذل به الجبارين . و قال محمد بن علي الخراساني : المنصور أول خليفة قرب المنجمين و عمل بأحكام النجوم ، و أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية و الأعجمية بالعربية ، ككتاب كليلة ودمنة ، و إقليدس ، و هو أول من استعمل مواليه على الأعمال و قدمهم على العرب ، و كثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة العرب و قيادتها ، و هو أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس و ولد علي ، و كان قبل ذلك أمرهم واحداً .
أحاديث من رواية المنصور      
قال الصولي : كان المنصور أعلم الناس بالحديث و الأنساب ، مشهوراً بطلبه .
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق : حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي ، حدثنا أبو محمد الجوهري ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن الشخير ، حدثنا أحمد بن إسحاق أبو بكر الملحمي ، حدثنا أبو عقيل أنس بن سلم الأنطرطوشي ، حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، عن المأمون ، عن الرشيد ، عن المهدي ، عن المنصور ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم [ كان يتختم في يمينه ] .
و قال الصولي : حدثنا محمد بن زكريا اللؤلؤي ، حدثنا جهنم بن السباق الرياحي ، حدثني بشر بن المفضل ، سمعت الرشيد يقول : سمعت المهدي يقول : سمعت المنصور يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، و من تأخر عنها هلك .
و قال الصولي : حدثنا محمد بن موسى ، حدثنا سليمان بن أبي شيخ ، حدثنا أبو سفيان الحميري ، سمعت المهدي يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أمرنا أميراً و فرضنا له فرضاً ، فما أصاب من شيء فهو غلول .
و قال الصولي : حدثنا جبلة بن محمد ، حدثنا أبي ، عن يحيى بن حمزة الحضرمي ، عن أبيه ، قال : ولاني المهدي القضاء ، فقال : اصلب في الحكم ، فإن أبي حدثني عن أبيه ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول الله : و عزتي و جلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله و آجله ، و لأنتقمن ممن رأى مظلوماً يقدر أن ينصره فلم يفعل ، و قال الصولي : حدثنا محمد بن العباس ابن الفرج ، حدثني أبي ، عن الأصعمي ، حدثني جعفر بن سليمان ، عن المنصور ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل سبب و نسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي ، و قال الصولي : حدثنا أبو إسحاق محمد بن هرون بن عيسى ، حدثنا الحسن بن عبيد الله الحصيبي ، حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثني المأمون ، عن الرشيد ، عن المهدي ، عن المنصور ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : لا تسافروا في محاق الشهر ، و لا إذا كان القمر في العقرب .
مات في أيام المنصور من الأعلام : ابن المقفع ، و سهيل بن أبي صالح ، و العلاء بن عبد الرحمن ، و خالد بن يزيد المصري الفقيه ، و داود بن أبي هند ، و أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج ، و عطاء بن أبي مسلم الخراساني ، و يونس بن عبيد ، و سليمان الأحول ، و موسى بن عقبة صاحب المغازي ، و عمرو بن عبيد المعتزلي ، و يحيى بن سعيد الأنصاري ، و الكلبي ، و أبو إسحاق ، و جعفر بن محمد الصادق ، و الأعمش ، و شبل بن عباد مقرئ مكة ، و محمد بن عجلان المعدني الفقيه ، و محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، و ابن جريج ، و أبو حنيفة ، و حجاج بن أرطأة ، و حماد الراوية ، و رؤبة الشاعر ، و الجريري ، و سليمان التميمي ، و عاصم الأحول ، و ابن شبرمة الضبي ، و مقاتل بن حبان ، و مقاتل بن سليمان ، و هاشم بن عروة ، و أبو عمرو بن العلاء ، و أشعب الطماع ، و حمزة بن حبيب الزيات ، و الأوزاعي ، و خلائق آخرون .

 
 
 

يتبع لطفا"

 
 
 
 

 

.Powered by Braaum Modern Programming Est

Copy©2001 aslmna.com All Rights reserved webmaster@aslmna.com   .