|
|
أبو جعفر المنصور عبد
الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس 136 هـ ـ 158 هـ
المنصور أبو جعفر : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، و أمه سلامة
البربرية أم ولد ، ولد سنة خمس و تسعين ، و أدرك جده و لم يرو عنه .
و روى عن أبيه ، و عن عطاء بن يسار ، و عنه ولده المهدي . و بويع بالخلافة بعهد من
أخيه و كان فحل بني العباس هيبة و شجاعة و حزماً و رأياً و جبروتاً ، جماعاً للمال
، تاركاً اللهو و اللعب ، كامل العقل ، جيد المشاركة في العلم و الأدب ، فقيه النفس
، قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه ، و هو الذي ضرب أبا حنيفة رحمه الله على
القضاء ، ثم سجنه ، فمات بعد أيام ، و قيل : إنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج
عليه ، و كان فصيحاً بليغاً مفوهاً خليقاً للإمارة ، و كان غاية في الحرص و البخل ،
فلقب [ أبا الدوانيق ] لمحاسبته العمال و الصناع على الدوانيق و الحبات .
أخرج الخطيب عن الضحاك عن ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : منا السفاح ، و منا المنصور ، و منا المهدي
.
قال الذهبي : منكر منقطع .
و أخرج الخطيب و ابن عساكر و غيرهما من طريق سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس قال : منا السفاح و منا المنصور ، و منا
المهدي .
قال الذهبي : إسناده صالح .
و أخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل
عن محمد بن جابر عن الأعمش عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنهم ! قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : منا القائم ، و
منا المنصور ، و منا السفاح ، و منا المهدي ، فأما القائم فتأتيه الخلافة و لم يهرق
فيها محجمة من دم ، و أما المنصور فلا ترد له راية ، و أما السفاح فهو يسفح المال و
الدم ، و أما المهدي فيملؤها عدلاً كما ملئت ظلماً .
و عن المنصور قال : رأيت كأني في الحرم ، و كأن رسول الله صلى الله عليه و سلم في
الكعبة و بابها مفتوح ، فنادى مناد : أين عبد الله ؟ فقام أخي أبو العباس حتى صار
على الدرجة ، فأدخل ، فما لبث أن خرج و معه قناة عليها لواء أسود قدر أربعة أذرع ،
ثم نودي : أين عبد الله ؟ فقمت على الدرجة ، فأصعدت و إذا رسول الله صلى الله عليه
و سلم ، و أبو بكر ، و عمر ، و بلال ، فعقد لي ، و أوصاني بأمته ، و عمني بعمامة ،
فكان كورها ثلاثة و عشرين ، و قال : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة .
تولى المنصور الخلافة في أول سنة سبع و ثلاثين و مائة ، فأول ما فعل أن قتل أبا
مسلم الخراساني صاحب دعوتهم و ممهد مملكتهم .
و في سنة ثمان و ثلاثين و مائة كان دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك
بن مروان الأموي إلى الأندلس . و استولى عليها و امتدت أيامه ، و بقيت الأندلس في
يد أولاده إلى بعد الأربعمائة ، و كان عبد الرحمن هذا من أهل العلم و العدل ، و أمه
بربرية
قال أبو المظفر الأبيوردي : فكانوا يقولون : ملك
الدنيا ابنا بربريتين : المنصور ، و عبد الرحمن بن معاوية .
و في سنة أربعين شرع في بناء مدينة بغداد .
و في سنة إحدى و أربعين كان ظهور الراوندية القائلين بالتناسخ ، فقتلهم المنصور و
فيها فتحت طبرستان .
قال الذهبي : في سنة ثلاث و أربعين شرع علماء الإسلام
في هذا العصر في تدوين الحديث ، و الفقه ، و التفسير ، فصنف ابن جريج بمكة ، و مالك
الموطأ بالمدينة ، و الأوزاعي بالشام ، و ابن أبي عروبة و حماد بن سلمة و غيرهما
بالبصرة ، و معمر باليمن ، و سفيان الثوري بالكوفة ، و صنف ابن إسحاق المغازي ، و
صنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه و الرأي ، ثم بعد يسير صنف هشيم ، و الليث ، و ابن
لهيعة ، ثم ابن المبارك ، و أبو يوسف ، و ابن وهب ، و كثر تدوين العلم و تبويبه ، و
دونت كتب العربية ، و اللغة ، و التاريخ و أيام الناس ، و قبل هذا العصر كان الأئمة
يتكلمون من حفظهم ، أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة .
و في سنة خمس و أربعين كان خروج الأخوين محمد و إبراهيم ابني عبد الله بن حسن ابن
الحسن بن علي بن أبي طالب ، فظفر بهما المنصور فقتلهما و جماعة كثيرة من آل البيت
فإنا لله و إنا إليه راجعون .
و كان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسين و العلويين ، و كانوا قبل شيئاً
واحداً و آذى المنصور خلقاً من العلماء ممن خرج معهما أو أمر بالخروج قتلاً و ضرباً
و غير ذلك : منهم أبو حنيفة ، و عبد الحميد بن جعفر ، و ابن عجلان ، و ممن أفتى
بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس رحمه الله ، و قيل له : إن في
أعناقنا بيعة للمنصور ، فقال : إنما بايعتكم مكرهين ، و ليس على مكره يمين .
و في سنة ست و أربعين كانت غزوة قبرس .
و في سنة سبع و أربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد ، و كان السفاح
عهد إليه من بعد المنصور ، و كان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما ، فكافأه
بأن خلعه مكرهاً ، و عهد إلى ولده المهدي .
و في سنة ثمان و أربعين توطدت الممالك كلها للمنصور ، و عظمت هيبته في النفوس ، و
دانت له الأمصار ، و لم يبق خارجاً عنه سوى جزيرة الأندلس فقط فإنها غلب عليها عبد
الرحمن بن معاوية الأموي المرواني ، لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين ، بل الأمير فقط
، و كذلك بنوه .
و في سنة تسع و أربعين فرغ من بناء بغداد .
و في سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير استاذ سيس ، و استولى
على أكثر مدن خراسان و عظم الخطب ، و استفحل الشر و اشتد على المنصور الأمر ، و بلغ
ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس و راجل ، فعمل معهم أجشم
المروزي مصافاً ، فقتل أجشم و استبيح عسكره ، فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش
عرمرم يسد الفضاء ، فالتقى الجمعان ، و صبر الفريقان ، و كانت وقعة مشهورة يقال :
قتل فيها سبعون ألفاً ، و انهزم أستاذ سيس فالتجأ إلى جبل ، و أمر الأمير خازم في
العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم ، و كانوا أربعة عشر ألفاً ، ثم حاصروا أستاذ
سيس مدة ، ثم سلم نفسه فقيده و أطلقوا أجناده ، و كان عددهم ثلاثين ألفاً ، انتهى .
و في سنة إحدى و خمسين بنى الرصافة و شيدها .
و في سنة ثلاث و خمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال ، فكانوا يعملونها
بالقصب و الورق و يلبسونها السوداء ، فقال أبو دلامة :
و كنا نرجي من إمام زيادة فزاد الإمام المصطفى في
القلانس
تراها على هام الرجال كأنها دنان يهود جللت بالبرانس
و في سنة ثمان و خمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري ، و عباد بن كثير
فحبسا ، و تخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج ، فلم يوصله الله مكة سالماً
، بل قدم مريضاً و مات و كفاهما الله شره ، و كانت وفاته بالبطن في ذي الحجة و دفن
بين الحجون و بين بئر ميمون ، و قال سلم الخاسر :
قفل الحجيج و خلفوا ابن محمد رهناً بمكة في الضريح
الملحد
شهدوا المناسك كلها و إمامهم تحت الصفائح محرماً لم يشهد
و من أخبار المنصور أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر
المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة ،فبينا هو يدخل منزلاً من المنازل قبض
عليه صاحب الرصد ، فقال : زن درهمين قبل أن تدخل ، قال : خل عني فإني رجل من بني
هاشم ، قال : زن درهمين ، فقال : خل عني فإني من بني عم رسول الله صلى الله عليه و
سلم ، قال زن درهمين ، قال : خل عني فإني رجل قارىء لكتاب الله ، قال : زن درهمين ،
قال : خل عني فإني رجل عالم بالفقه ، و الفرائض ، قال : زن درهمين ، فلما أعياه
أمره وزن الدرهمين ، فرجع و لزم جمع المال و التدنق فيه حتى لقب بأبي الدوانيق .
و أخرج عن الربيع بن يونس الحاجب قال : سمعت المنصور يقول : الخلفاء أربعة : أبو
بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي ، و الملوك أربعة : معاوية ، و عبد الملك ، و هشام ،
و أنا .
و أخرج عن مالك بن أنس قال : دخلت على أبي جعفر المنصور فقال : من أفضل الناس بعد
رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قلت : أبو بكر و عمر ، قال أصبت ، و ذلك رأي أمير
المؤمنين .
و أخرج عن إسماعيل الفهري قال : سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في
خطبته :
أيها الناس : إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه و رشده ، و خازنه على
فيئه أقسمه بإرادته و أعطيه بإذنه ، و قد جعلني الله عليه قفلاً : إذا شاء أن
يفتحني فتحني لإعطائكم ، و إذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني ، فارغبوا إلى الله أيها
الناس ، و سلوه في هذا البيت الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلكم في كتابه إذ
يقول : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
الإسلام دينا أن يوفقني للصواب ، و يسددني للرشاد ، و يلهمني الرأفة بكم ، و
الإحسان إليكم ، و يفتحني لإعطائكم و قسم أرزاقكم بالعدل ، فإنه سميع مجيب . و
أخرجه الصولي ، و زاد في أوله أن سبب هذه الخطبة أن
الناس بخلوه ، و زاد في آخره : فقال بعض الناس : أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه
.
و أخرج عن الأصمعي و غيره أن المنصور صعد المنبر فقال
:
الحمد لله ، أحمده و أستعينه ، و أومن به ، و أتوكل عليه ، و أشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ، فقام : إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، أذكر من أنت في
ذكره ، فقال : مرحباً مرحباً ، لقد ذكرت جليلاً ، و خوفت عظيماً ، و أعوذ بالله أن
أكون ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ، و الموعظة منا بدت ، و من عندنا
خرجت ، و أنت يا قائلها فأحلف بالله ما أردت بها ، و إنما أردت أن يقال : قام فقال
فعوقب فصبر فاهون بها من قائلها ، و اهتبلها من الله ، ويلك ! إني قد غفرتها ، و
إياكم معشر الناس و أمثالها ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ، فعاد إلى خطبته
فكأنما يقرؤها من قرطاس .
و أخرج من طرق أن المنصور قال لابنه المهدي : يا أبا عبد الله ، الخليفة لا يصلحه
إلا التقوى ، و السلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، و الرعية لا يصلحها إلا العدل ، و
أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، و أنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه .
و قال : لا تبر من أمراً حتى تفكر فيه ، فإن فكرة العاقل مرآته تريه قبيحة و حسنه .
و قال : أي بني استدم النعمة بالشكر ، و المقدرة بالعفو ، و الطاعة بالتألف ، و
النصر بالتواضع و الرحمة للناس .
و أخرج عن مبارك بن فضالة قال : كنا عند المنصور ، فدعا برجل و
دعا بالسيف ، فقال المبارك : يا أمير المؤمنين ، سمعت الحسين يقول : قال رسول الله
صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة قام مناد من عند الله ينادي ليقم الذين
أجرهم على الله ، فلا يقوم إلا من عفا ، فقال المنصور : خلوا سبيله .
و أخرج عن الأصمعي قال : أتى المنصور برجل يعاقبه ،
فقال : يا أمير المؤمنين الانتقام عدل ، و التجاوز فضل و نحن نعيذ أمير المؤمنين
بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين ، فعفا عنه .
و أخرج عن الأصمعي قال : لقي المنصور أعرابياً بالشام
، فقال أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت ، قال : إن
الله لا يجمع علينا حشفاً و سوء كيل ولايتكم و الطاعون .
و أخرج عن محمد بن منصور البغدادي قال : قام بعض الزهاد بين يدي المنصور فقال : إن
الله أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك ببعضها ، و اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت
قبلها ليلة ، و اذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده ، فأفحم المنصور و أمر له بمال
، فقال : لو احتجت إلى مالك ما وعظتك .
و أخرج عن عبد السلام بن حرب أن المنصور بعث إلى عمرو بن عبيد فجاءه فأمر له بمال ،
فأبى أن يقبله ، فقال المنصور : و الله لتقبلنه ، فقال : و الله لا أقبله ، فقال له
المهدي : قد حلف أمير المؤمنين ، فقال : أمير المؤمنين أقوى على كفارة اليمين من
عمك ، فقال له المنصور : سل حاجتك ؟ قال : أسألك أن لا تدعوني حتى آتيك ، و لا
تعطني حتى أسألك ، فقال : علمت أني جعلت هذا ولي عهدي ، فقال يأتيه الأمر يوم يأتيه
و أنت مشغول .
و أخرج عن عبد الله بن صالح قال : كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة :
انظر التي تخاصم فيها فلان القائد و فلان التاجر فادفعها إلى القائد ، فكتب إليه
سوار : إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر ، فلست أخرجها من يده إلا ببينة ، فكتب
إليه المنصور : و الله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد ، فكتب إليه سوار :
و الله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق ، فلما جاءه الكتاب قال
: ملأتها و الله عدلاً ، و صار قضاتي تردني إلى الحق .
و أخرج من وجه آخر أن المنصور وشي إليه بسوار ، فاستقدمه فعطس المنصور ، فلم يشمته
سوار ، فقال ، ما يمنعك من التشميت ؟ قال : لأنك لم تحمد الله ، فقال قد حمدت الله
في نفسي ، قال شمتك في نفسي ، قال : ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لم تحاب غيري
.
و أخرج عن نمير المدني قال : قدم المنصور المدينة ، و محمد بن عمران الطلحي على
قضائه ، و أنا كاتبه ، فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء ، فأمرني أن أكتب إليه
بالحضور و إنصافهم ، فاستعفيت ، فلم يعفني ، فكتبت الكتاب ، ثم ختمته ، و قال : و
الله لا يمضي به غيرك ، فمضيت به إلى الربيع ، فدخل عليه ، ثم خرج ، فقال للناس إن
أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد دعيت إلى مجلس الحكم ، فلا يقومن معي أحد . ثم جاء
هو و الربيع ، فلم يقم له القاضي ، بل حل رداءه ، و اختبى به ، ثم دعا بالخصوم ،
فادعوا ، فقضى لهم على الخليفة ، فلما فرغ قال له المنصور : جزاك الله عن دينك أحسن
الجزاء ، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار .
و أخرج عن محمد بن حفص العجلي قال : ولد لأبي دلامة ابنة ، فغدا على المنصور ،
فأخبره ، و أنشد :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم لقيل : اقعدوا يا آل
عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم إلى السماء فأنتم أكرم
الناس
ثم أخرج أبو دلامة خريطة ، فقال المنصور : ما هذه ؟
قال ، أجعل فيها ما تأمر لي به ، فقال : املؤوها له دراهم ، فوسعت ألفي درهم .
و أخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال : قيل للمنصور هل من بقي من لذات الدنيا شيء لم
تنله ؟ قال : بقيت خصلة ، أن أقعد في مصطبة و حولي أصحاب الحديث . يقول
المستملي : من ذكرت رحمك الله ، فغدا عليه الندماء و
أبناء الوزراء بالمحابر و الدفاتر ، فقال لستم بهم ، إنما هم الدنسة ثيابهم ،
المشققة أرجلهم ، الطويلة شعورهم ، برد الآفاق و نقلة الحديث .
و أخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور : لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع
بالعفو ، قال : لأن بني مروان لم تبل رممهم ، و آل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ، و نحن
بين قوم قد رأونا أمس سوقة ، و اليوم خلفاء ، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا
بنسيان العفو و استعمال العقوبة .
و أخرج عن يونس بن حبيب قال : كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المنصور يسأله
الزيادة في عطائه و أرزاقه ، و أبلغ في كتابه ، فوقع المنصور في القصة : إن الغنى و
البلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه ، و أمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك ، فاكتف
بالبلاغة.
و أخرج عن محمد بن سلام قال : رأت جارية المنصور قميصه مرقوعاً ، فقالت : خليفة و
قميصه مرقوع ، فقال : ويحك ! أما سمعت قول ابن هرمة :
قد يدرك الشرف الفتى و رادؤه خلق و جيب قميصه مرقوع
و قال العسكري في الأوائل
: كان المنصور في ولد العباس كعبد الملك في بني أمية في بخله ، رأى بعضهم عليه
قميصاً مرقوعاً فقال : سبحان من ابتلى أبا جعفر بالفقر في ملكه ! و حدا به سلم
الحادي ، فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة ، فأجازه بنصف درهم ، فقال : لقد حدوت بهشام
، فأجازني بعشرة آلاف ، فقال : ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال ، يا ربيع و كل
به من يقبضها منه ، فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهاباً و إياباً بغير شيء
.
و في كتاب الأوائل للعسكري : كان ابن هرمة شديد الرغبة
في الخمر ، فدخل على المنصور فأنشده :
له لحظات من خفا في سريرة إذا كرها فيها عقاب و نائل
فأم الذي أمنت آمنة الردى و أم الذي حاولت بالثكل ثاكل
فأعجب به المنصور ، و قال : ما حاجتك ؟ قال : تكتب إلى عاملك بالمدينة أن لا يحدني
إذا وجدني سكران ، فقال : لا أعطل حداً من حدود الله ، قال : تحتال لي ، فكتب إلى
عامله : من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة ، و اجلد ابن هرمة ثمانين .
فكان العون إذا مر به و هو سكران يقول : من يشتري مائة بثمانين ؟ و يتركه و يمضي
قال : و أعطاه المنصور في هذه المرة عشرة آلاف درهم ، و قال له : يا إبراهيم احتفظ
بها فليس لك عندنا مثلها ، فقال : إني ألقاك على الصراط بها بختمة الجهبذ .
و من شعر المنصور ، و شعره قليل :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
و لا تهمل العداء يوماً بقدرة و بادرهم أن يملكوا مثلها
غدا
و قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور
قبل الخلافة ، فأدخلني منزله ، فقدم إلي طعاماً لا لحم فيه ثم قال : يا جارية عندك
حلواء ؟ قالت : لا ، قال : و لا التمر ؟ قالت : لا ، فاستلقى و قرأ
عسى ربكم أن يهلك عدوكم الآية ، فلما ولي الخلافة وفدت إليه فقال : كيف
سلطاني من سلطان بني أمية ؟ قلت : ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئاً إلا رأيته في
سلطانك ، فقال : إنا لا نجد الأعوان ، قلت : قال عمر بن عبد العزيز : إن السلطان
بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها ، فإن كان براً أتوه ببرهم ، و إن كان فاجراً
أتوه بفجورهم ، فأطرق .
و من كلام المنصور : الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة خلال : إفشاء السر ، و التعرض
للحرم ، و القدح في الملك . أسنده الصولي .
و قال : إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك ، و إلا فقبلها ، أسنده أيضاً .
و أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : مما يؤثر من
ذكاء المنصور انه دخل المدينة فقال للربيع : اطلب لي رجلاً يعرفني دور الناس ،
فجاءه رجل ، فجعل يعرفه الدور ، إلا انه لا يبتدئ به حتى يسأله المنصور ، فلما
فارقه أمر له بألف درهم ، فطالب الرجل الربيع بها ، فقال : ما قال لي شيئاً ، و
سيركب فذكره ، فركب مرة أخرى ، فجعل يعرفه ، و لا يرى موضعاً للكلام ، فلما أراد أن
يفارقه قال الرجل مبتدئاً : وهذه يا أمير المؤمنين دار عاتكة التي يقول فيها الأحوص
:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى و بك الفؤاد موكل
فأنكر المنصور ابتداءه ، فأمر القصيدة على قلبه فإذا فيها :
و أراك تفعل ما تقول و بعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فضحك و قال : و يلك يا ربيع ! أعطه ألف درهم .
و أسند الصولي عن إسحاق الموصلي قال : لم يكن المنصور
يظهر لندمائه بشرب ولا غناء ، بل يجلس و بينه و بين الندماء ستارة ، و بينهم و
بينها عشرون ذراعاً ، و بينهما و بينه كذلك ، و أول من ظهر للندماء من خلفاء بني
العباس المهدي .
و أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : قال المنصور
لقثم بن العباس بن عبد الله بن العباس ، و كان عامله على اليمامة و البحرين : ما
القثم ؟ و من أي شيء أخذ ؟ فقال : لا أدري ، فقال : اسمك اسم هاشمي لا تعرفه ، أنت
و الله جاهل ، قال : فإن رأى أمير المؤمنين أن يفيدنيه ، قال : القثم الذي ينزل بعد
الأكل و يقثم الأشياء : يأخذها و يثلمها .
روي أن المنصور ألح عليه ذباب ، فطلب مقاتل بن سليمان ، فسأله لم خلق الله الذباب ؟
قال : ليذل به الجبارين . و قال محمد بن علي الخراساني
: المنصور أول خليفة قرب المنجمين و عمل بأحكام النجوم ، و أول خليفة ترجمت له
الكتب السريانية و الأعجمية بالعربية ، ككتاب كليلة ودمنة ، و إقليدس ، و هو أول من
استعمل مواليه على الأعمال و قدمهم على العرب ، و كثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة
العرب و قيادتها ، و هو أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس و ولد علي ، و كان قبل
ذلك أمرهم واحداً .
أحاديث من رواية المنصور
قال الصولي : كان المنصور أعلم الناس بالحديث و
الأنساب ، مشهوراً بطلبه .
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق : حدثنا أبو بكر محمد بن
عبد الباقي ، حدثنا أبو محمد الجوهري ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن الشخير ،
حدثنا أحمد بن إسحاق أبو بكر الملحمي ، حدثنا أبو عقيل أنس بن سلم الأنطرطوشي ،
حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، عن المأمون ، عن الرشيد ، عن المهدي ، عن المنصور ،
عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم [ كان يتختم في يمينه
] .
و قال الصولي : حدثنا محمد بن
زكريا اللؤلؤي ، حدثنا جهنم بن السباق الرياحي ، حدثني بشر بن المفضل ، سمعت الرشيد
يقول : سمعت المهدي يقول : سمعت المنصور يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركب
فيها نجا ، و من تأخر عنها هلك .
و قال الصولي : حدثنا محمد بن موسى
، حدثنا سليمان بن أبي شيخ ، حدثنا أبو سفيان الحميري ، سمعت المهدي يقول : حدثني
أبي ، عن أبيه ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : إذا أمرنا أميراً و فرضنا له فرضاً ، فما أصاب من شيء فهو غلول
.
و قال الصولي : حدثنا جبلة بن محمد
، حدثنا أبي ، عن يحيى بن حمزة الحضرمي ، عن أبيه ، قال : ولاني المهدي القضاء ،
فقال : اصلب في الحكم ، فإن أبي حدثني عن أبيه ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن
أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول الله : و عزتي و جلالي
لأنتقمن من الظالم في عاجله و آجله ، و لأنتقمن ممن رأى مظلوماً يقدر أن ينصره فلم
يفعل ، و قال الصولي :
حدثنا محمد بن العباس ابن الفرج ، حدثني أبي ، عن الأصعمي ، حدثني جعفر بن سليمان ،
عن المنصور ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
كل سبب و نسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي ، و قال
الصولي : حدثنا أبو إسحاق محمد بن هرون بن عيسى ،
حدثنا الحسن بن عبيد الله الحصيبي ، حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثني المأمون ، عن
الرشيد ، عن المهدي ، عن المنصور ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس قال : سمعت علي
بن أبي طالب يقول : لا تسافروا في محاق الشهر ، و لا إذا كان القمر في العقرب .
مات في أيام المنصور من الأعلام : ابن المقفع ، و سهيل بن أبي صالح ، و العلاء بن
عبد الرحمن ، و خالد بن يزيد المصري الفقيه ، و داود بن أبي هند ، و أبو حازم سلمة
بن دينار الأعرج ، و عطاء بن أبي مسلم الخراساني ، و يونس بن عبيد ، و سليمان
الأحول ، و موسى بن عقبة صاحب المغازي ، و عمرو بن عبيد المعتزلي ، و يحيى بن سعيد
الأنصاري ، و الكلبي ، و أبو إسحاق ، و جعفر بن محمد الصادق ، و الأعمش ، و شبل بن
عباد مقرئ مكة ، و محمد بن عجلان المعدني الفقيه ، و محمد ابن عبد الرحمن بن أبي
ليلى ، و ابن جريج ، و أبو حنيفة ، و حجاج بن أرطأة ، و حماد الراوية ، و رؤبة
الشاعر ، و الجريري ، و سليمان التميمي ، و عاصم الأحول ، و ابن شبرمة الضبي ، و
مقاتل بن حبان ، و مقاتل بن سليمان ، و هاشم بن عروة ، و أبو عمرو بن العلاء ، و
أشعب الطماع ، و حمزة بن حبيب الزيات ، و الأوزاعي ، و خلائق آخرون .
|
|
|