|
|
المهدي محمد بن أبي
جعفر المنصور 158هـ ـ 169هـ
المهدي : أبو عبد الله محمد بن المنصور ، ولد بأيذج سنة سبع و عشرين و مائة ، و قيل
: سنة ست و عشرين ، و أمه أم موسى بنت منصور الحميرية .
و كان جواداً ممدحاً ، مليح الشكل ، محبباً إلى الرعية ، حسن الاعتقاد ، تتبع
الزنادقة ، و أفنى منهم خلقاً كثيراً ، و هو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد
على الزنادقة و الملحدين ، روى الحديث عن أبيه ، و عن مبارك بن فضالة ، حدث عنه
يحيى بن حمزة ، و جعفر بن سليمان الضبعي ، و محمد بن عبد الله الرقاشي ، و أبو
سفيان سعيد بن يحيى الحميري ، قال الذهبي : و ما علمت
قيل فيه جرحاً و لا تعديلاً .
و أخرج ابن عدي من حديث عثمان مرفوعاً [ المهدي من ولد
العباس عمي ] تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم ، و كان يضع الحديث ، و أورد
الذهبي هنا حديث ابن مسعود مرفوعاً : [ المهدي يواطىء
اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي ] أخرجه أبو داود ، و
الترمذي و صححه .
و لما شب المهدي أمره أبوه على طبرستان و ما والاها ، و تأدب ، و جالس العلماء ، و
تميز ، ثم إن أباه عهد إليه ، فلما مات بويع بالخلافة ، و وصل الخبر إليه ببغداد ،
فخطب الناس فقال : إن أمير المؤمنين عبد دعي فأجاب ، و أمر فأطاع ، و اغرورقت عيناه
، فقال : قد بكى رسول الله صلى الله عليه و سلم عند فراق الأحبة ، و لقد فارقت
عظيماً ، و قلدت جسيماً ، فعند الله أحتسب أمير المؤمنين ، و به أستعين على خلافة
المسلمين ، أيها الناس أسروا مثل ما تعلنون من طاعتنا نهبكم العافية ، و تحمدوا
العاقبة ، و اخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم ، و طوى الإصر عنكم ، و أهال
عليكم السلامة من حيث رآه الله مقدماً ذلك ، و الله لأفنين عمري بين عقوبتكم و
الإحسان إليكم .
قال نفطويه : لما حصلت الخزائن في يد المهدي أخذ في رد
المظالم ، فأخرج أكثر الذخائر ففرقها ، و بر أهله و مواليه .
و قال غيره : أول من هنأ المهدي بالخلافة و عزاه بأبيه أبو دلامة فقال :
عيناي واحدة ترى مسرورة بأميرها جذلى و أخرى تذرف
تبكي ، و تضحك تارة ، و يسوءها ما أنكرت ، و يسرها ما تعرف
فيسوءها موت الخليفة محرماً و يسرها أن قام هذا الأرأف
ما إن رأيت كما رأيت ، و لا أرى شعراً أسرحه و آخر ينتف
هلك الخليفة يا لدين محمد و أتاكم من بعده من يخلف
أهدى لهذا الله فضل خلافة و لذاك جنات النعيم تزخرف
و في سنة تسع و خمسين بايع المهدي بولاية العهد لموسى الهادي ثم من بعده لهارون
الرشيد ولديه .
و في سنة ستين فتحت أربد من الهند عنوة ، و فيها حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة
أنهم يخافون هدمها لكثرة ما عليها من الأستار ، فأمر بها فجردت ، و اقتصر على كسوة
المهدي ، و حمل إلى المهدي الثلج إلى مكة ، قال الذهبي
: لم يتهيأ ذلك لملك قط .
و في سنة إحدى و ستين أمر المهدي بعمارة طريق مكة ، و بنى بها قصوراً ، و عمل البرك
، و أمر بترك المقاصير التي في جوامع الإسلام ، و قصر المنابر ، و صيرها على مقدار
منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و في سنة ثلاث و ستين و ما بعدها كثرت الفتوح بالروم .
و في سنة ست و ستين تحول المهدي إلى قصره المسمى بعيساباذ ، و أمر فأقيم له البريد
من المدينة النبوية و من اليمن و مكة إلى الحضرة بغالاً و إبلاً .
قال الذهبي : و هو أول من عمل البريد من الحجاز إلى
العراق .
و فيها و فيما بعدها جد المهدي في تتبع الزنادقة ، و إبادتهم ، و البحث عنهم في
الأفاق و القتل على التهمة .
و في سنة سبع و ستين أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام ، و أدخل في ذلك دوراً
كثيرة .
و في سنة تسع و ستين مات المهدي : ساق خلف صيد ، فاقتحم الصيد خربة ، و تبعه الفرس
فدق ظهره في بابها ، فمات لوقته ، و ذلك لثمان بقين من المحرم ، و قيل : إنه مات
مسموماً ، و قال سلم الخاسر يرثيه :
و باكية على المهدي عبرى كأن بها ، و ما جنت جنونا
و قد خمشت محاسنها و أبدت غدائرها و أظهرت القرونا
لئن بلي الخليفة بعد عز لقد أبقى مساعي ما بلينا
سلام الله عدة كل يوم على المهدي حين ثوى رهينا
تركنا الدين و الدنيا جميعاً بحيث ثوى أمير المؤمنينا
و من أخبار المهدي : قال الصولي : لما عقد المهدي
العهد لولده موسى قال مروان بن أبي حفصة :
عقدت لموسى بالرصافة بيعة شد الإله بها عرى الإسلام
موسى الذي عرفت قريش فضله و لها فضيلتها على الأقوام
بمحمد بعد النبي محمد حي الحلال و مات كل حرام
مهدي أمته الذي أمست به للذل آمنة و للآعلام
موسى ولي عهد الخلافة بعده جفت بذاك مواقع الأقلام
و قال آخر :
يا بن الخليفة إن أمة أحمد تاقت إليك بطاعة أهواؤها
و لتملأن الأرض عدلاً كالذي كانت تحدث أمة علماؤها
حتى تمنى لو ترى أمواتها من عدل حكمك ما ترى أحياؤها
فعلى أبيك اليوم بهجة ملكها و غداً عليك إزارها و رداؤها
و أسند الصولي أن امرأة اعترضت المهدي ، فقالت : يا
عصبة رسول الله صلى الله عليه و سلم انظر في حاجتي ، فقال المهدي : ما سمعتها من
أحد قط ! اقضوا حاجتها ، و أعطوها عشرة آلاف درهم .
و قال قريش الختلي : رفع صالح بن عبد القدوس البصري
إلى المهدي في الزندقة ، فأراد قتله ، فقال : أتوب إلى الله ، و أنشده لنفسه :
ما يبلغ الأعداء من جاهل مما يبلغ الجاهل من نفسه
و الشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
فصرفه ، فلما قرب من الخروج رده ، فقال : ألم تقل و الشيخ لا يترك أخلاقه ؟ قال :
بلى ، قال : فكذلك أنت لا تدع أخلاقك حتى تموت ، ثم أمر بقتله .
و قال زهير : قدم على المهدي بعشرة محدثين : منهم فرج
بن فضالة ، و غياث بن إبراهيم ـ و كان المهدي يحب الحمام ـ فلما أدخل غياث قيل له :
حدث أمير المؤمنين ، فحدثه عن فلان عن أبي هريرة مرفوعاً [ لا سبق إلا في حافر أو
نصل ] و زاد فيه [ أو جناح ] فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم ، فلما قام قال : أشهد
أن قفاك قفا كذاب ، و إنما استجلبت ذلك ، ثم أمر بالحمام فذبحت .
و روي أن شريكاً دخل على المهدي ، فقال له : لابد من ثلاث : إما أن تلي القضاء ، أو
تؤدب ولدي و تحدثهم ، أو تأكل عندي أكلة ؟ ففكر ساعة ثم قال : الأكلة أخف علي ،
فأمر المهدي بعمل ألوان من المخ المعقود بالسكر و غير ذلك ، فأكل ، فقال الطباخ :
لا يفلح بعدها ، قال فحدثهم بعد ذلك ، و علمهم العلم ، و ولي القضاء لهم .
و أخرج البغوي في الجعديات عن حمدان الأصبهاني قال :
كنت عند شريك ، فأتاه ابن المهدي ، فاستند و سأل عن حديث ، فلم يلتفت شريك ، ثم
أعاد فعاد فقال : كأنك تستخف بأولاد الخلفاء ، قال : لا ، و لكن العلم أزيد عند
أهله من أن يضيعوه ، فجثا على ركبتيه ثم سأله ، فقال شريك : هكذا يطلب العلم ، و من
شعر المهدي ما أنشده الصولي :
ما يكف الناس عنا ما يمل الناس منا
إنما همتهم أن ينبشوا ما قد دفنا
لو سكنا بطن أرض فلكانوا حيث كنا
و هم إن كاشفونا في الهوى يوماً مجنا
و أسند الصولي عن محمد بن عمارة ، قال : كان المهدي
جارية شغف بها ، و هي كذلك ، إلا أنها تتحاماه كثيراً ، فدس إليها من عرف ما في
نفسها ، فقالت : أخاف أن يملني و يدعني فأموت ، فقال المهدي في ذلك :
ظفرت بالقلب مني غادة مثل الهلال
كلما صح لها ود ي جاءت باعتلال
لا لحب الهجر مني و التنائي عن وصال
بل لإبقاء على ح بي لها خوف الملال
و له نديمة عمر بن بزيع :
رب تمم لي نعمي بأبي حفص نديمي
إنما لذة عيشي في غناء و كروم
و جوار عطرات و سماع و نعيم
قلت : شعر المهدي أرق و ألطف من شعر أبيه و أولاده بكثير .
و أسند الصولي عن ابن كريمة ، قال : دخل المهدي إلى
حجرة جارية على غفلة ، فوجدها و قد نزعت ثيابها و أرادت لبس غيرها ، فلما رأته غطت
بيدها فقصرت كفها عنه ، فضحك و قال :
نظرت في القصر عيني نظرة وافق حيني
ثم خرج فرأى بشاراً فأخبره و قال : أجز ، فقال بشار :
سترته إذا رأتني دونه بالراحتين
فبدا لي منه فضل تحت طي العكنتين
و أسند عن إسحاق الموصلي ، قال : كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء تشبهاً
بالمنصور نحواً من سنة ، ثم ظهر لهم ، فأشير عليه أن يحتجب ، فقال إنما اللذة مع
مشاهدتهم .
و أسند عن مهدي بن سابق قال : صاح رجل بالمهدي و هو في موكبه :
قل للخليفة : حاتم لك خائن فخف الإله و أعفنا من حاتم
إن العفيف إذا استعان بخائن كان العفيف شريكه في المأثم
فقال المهدي : يعزل كل عامل لنا يدعى حاتماً .
و أسند أبي عبيدة قال : كان المهدي يصلي بنا الصلوات الخمس في المسجد الجامع
بالبصرة لما قدمها ، فأقيمت الصلاة يوماً ، فقال أعرابي : ليست طهر ، و قد رغبت في
الصلاة خلفك ، فأمر هؤلاء بانتظاري ، فقال : انتظروه ، و دخل المحراب ، فوقف إلى أن
قيل : قد جاء الرجل ، فكبر ، فعجب الناس من سماحة أخلاقه .
و أسند عن إبراهيم بن نافع أن قوماً من أهل البصرة تنازعوا إليه في نهر من أنهار
البصرة ، فقال : إن الأرض لله في أيدينا للمسلمين ، فما لم يقع له ابتياع منها يعود
ثمنه على كافتهم و في مصلحتهم ، فلا سبيل لأحد عليه ، فقال القوم : هذا النهر لنا
بحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه قال : من أحيا أرضاً
ميتة فهي له و هذه موات ، فوثب المهدي عند ذكر النبي صلى الله عليه و سلم
حتى ألصق خده بالتراب و قال : سمعت لما قال وأطعت ، ثم عاد ، و قال : بقي أن تكون
هذه الأرض مواتاً حتى لا أعرض فيها ، و كيف تكون مواتاً و الماء محيط بها من
جوانبها ؟ فإن أقاموا البينة على هذا سلمت .
و أسند عن الأصمعي قال : سمعت المهدي على منبر البصرة يقول : إن الله أمركم بأمر
بدأفيه بنفسه و ثنى بملائكته فقال : إن الله وملائكته يصلون على
النبي ، آثره بها من بين الرسل إذا خصكم بها من بين الأمم .
قلت : و هو أول من قال ذلك في الخطبة ، و قد استسنها الخطباء إلى اليوم .
و لما مات قال أبو العتاهية و قد علقت المسوح على قباب حرمه :
رحن في الموشى و أصبحن عليهن المسوح
كل نطاح من الدهر له يوم نطوح
لست بالباقي و لو عم رت ما عمر نوح
نح على نفسك يا مس كين إن كنت تنوح
ذكر أحاديث من رواية المهدي
قال الصولي : حدثني أحمد بن محمد بن صالح التمار ،
حدثنا يحيى بن محمد القريشي ، حدثنا أحمد بن هشام ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن
مسلم المدائني ـ و هو ثقة صدوق ـ قال : سمعت المهدي يخطب فقال : حدثنا شعبة
عن علي بن زيد بن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول
الله صلى الله عليه و سلم خطبة من العصر إلى مغيربان الشمس حفظها من حفظها ، و
نسيها من نسيها ، فقال : ألا إن الدنيا حلوة خضرة الحديث بطوله .
و قال الصولي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز ، حدثنا
إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، حدثني أبو يعقوب بن حفص الخطابي ، سمعت
المهدي يقول : حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس عن
أبيه أن وفداً من العجم قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ و قد أحفوا
لحاهم و أعفوا شواربهم ـ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : خالفوهم ، أعفوا لحاكم و
أحفوا شواربكم و إخفاء الشارب ، أخذ ما سقط على الشفة منه ، و وضع المهدي
يده على أعلى شفته .
و قال : منصور بن مزاحم و محمد بن يحيى بن حمزة ، عن يحيى بن حمزة قال : صلى بنا
المهدي المغرب فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، فقلت : يا أمير المؤمنين ما هذا ؟
قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن إسحاق أن النبي صلى الله
عليه و سلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، فقلت للمهدي : نأثره عنك ؟ قال : نعم .
قال الذهبي : هذا إسناد متصل ، لكن ما علمت أحداً احتج
بالمهدي و لا بأبيه في الأحكام تفرد به محمد بن الوليد مولى بن هاشم ، و قال ابن
عدي : كان يضع الحديث .
قلت : لم ينفرد به ، بل وجدت له متابعاً .
مات في أيام المهدي من الأعلام : شعبة ، و ابن أبي ذئب ، و سفيان الثوري ، و
إبراهيم بن أدهم الزاهد ، و داود الطائي الزاهد ، و بشار بن برد أول شعراء المحدثين
، و حماد بن سلمة ، و إبراهيم بن طهمان ، و الخليل بن أحمد صاحب العروض .
|
|
|