|
|
الرشيد هارون بن
المهدي بن المنصور 170هـ ـ 193 هـ
الرشيد : هارون أبو جعفر بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد علي بن عبد
الله بن العباس ، استخلف بعهده من أبيه عند موت أخيه الهادي ليلة السبت لأربع عشرة
بقيت من ربيع الأول سنة سبعين و مائة .
قال الصولي : هذه الليلة ولد له فيها عبد الله المأمون
، و لم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة و قام خليفة و ولد خليفة إلا هذه
الليلة ، و كان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر ، حدث عن أبيه و جده ، و مبارك بن
فضالة ، و روى عنه ابنه المأمون و غيره ، و كان من أميز الخلفاء و أجل ملوك الدنيا
، و كان كثير الغزو و الحج ، كما قال فيه أبو المعالي الكلابي :
فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر و في أرض الترفه فوق كور
مولده بالري ـ حين كان أبوه أميراً عليها و على خراسان ـ و في سنة ثمان و أربعين و
مائة .
و أمه أم ولد ، تسمى الخيزران ، و هي أم الهادي ، و فيها يقول مروان بن أبي حفصة :
يا خيزران هناك ثم هناك أمسى يسوس العالمين ابناك
و كان أبيض ، طويلاً ، جميلاً ، مليحاً ، فصيحاً ، له نظر في العلم و الأدب .
و كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ، لا يتركها إلا لعلة ، و
يتصدق من صلب ماله يوم بألف درهم .
و كان يحب العلم و أهله ، و يعظم حرمات الإسلام ، و يبغض المراء في الدين ، و
الكلام في معارضة النص .
و بلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن ، فقال لئن ظفرت به لأضربن عنقه .
و كان يبكي على نفسه و على إسرافه و ذنوبه ، سيما إذا وعظ . و كان يحب المديح و
يجيز عليه الأموال الجزيلة ، و له شعر .
دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ ، فبالغ في احترامه ، فقال له ابن السماك : تواضعك
في شرفك أشرف من شرفك ، ثم وعظه فأبكاه .
و كان يأتي بنفسه إلى بيت الفضيل بن عياض .
قال عبد الرزاق : كنت مع الفضل بمكة ، فمر هارون ،
فقال فضيل : الناس يكرهون هذا ، و ما في الأرض أعز علي منه ، لو مات لرأيت أموراً
عظاماً .
قال أبو معاوية الضرير : ما ذكرت النبي صلى الله عليه
و سلم بين يدي الرشيد إلا قال : صلى الله على سيدي ، و حدثته بحديثه صلى الله عليه
و سلم و وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ، ثم أحيى فأقتل
فبكى حتى انتحب .
و حدثته يوماً حديث احتج آدم و موسى و عنده رجل من وجوه
قريش ، فقال القريشي : فأين لقيه ؟ فغضب الرشيد ، و قال : النطع و السيف ، زنديق
يطعن في حديث النبي صلى الله عليه و سلم .
قال أبو معاوية : فما زلت أسكنه ، أقول : يا أمير
المؤمنين كانت منه نادرة ، حتى سكن .
و عن أبي معاوية أيضاً قال : أكلت مع الرشيد يوماً ، ثم صب على يدي رجل لا أعرفه ،
ثم قال الرشيد : تدري من يصب عليك ؟ قلت : لا ، قال : أنا إجلالاً للعلم .
و قال المنصور بن عمار : ما رأيت أغزر دمعاً عند الذكر
من ثلاثة : الفضيل بن عياض ، و الرشيد ، و آخر .
و قال عبيد الله القواريري : لما لقي الرشيد الفضيل
قال له : يا حسن الوجه ، أنت المسؤول عن هذه الأمة حدثنا ليث عن مجاهد
وتقطعت بهم الأسباب قال : الوصلة التي كانت بينهم في
الدنيا ، فجعل هارون يبكي و يشهق .
و من محاسنه أنه لما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء ، و أمر الأعيان أن يعزوه في
ابن المبارك .
قال نفطويه : كان الرشيد يقتفي آثار جده أبي جعفر إلا
في الحرص فإنه لم ير خليفة قبله أعطى منه : أعطى مرة سفيان بن عيينة مائة ألف ، و
أجاز إسحاق الموصلي مرة بمائتي ألف ، و أجاز مروان بن أبي حفصة مرة على قصيدة خمسة
آلاف دينار ، و خلعة ، و فرساً من مراكبه ، و عشرة من رقيق الروم .
و قال الأصمعي : قال لي الرشيد : يا أصمعي ما أغفلك
عنا و أجفاك لنا ! قلت : و الله يا أمير المؤمنين ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك ،
فسكت ، فلما تفرق الناس قال : ما لاقتني ؟ قلت :
كفاك كف ما تليق درهماً جواداً و أخرى تعطي بالسيف الدما
فقال : أحسنت ، و هكذا فكن ، و قرنا في الملا ، و علمنا في الخلا ، و أمر لي بخمسة
آلاف دينار .
و في مروج المسعودي قال : رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم و بحر القزم مما يلي
الفرما ، فقال له يحيى بن خالد البرمكي : كان يختطف الروم الناس من المسجد الحرام ،
و تدخل مراكبهم إلى الحجاز ، فتركه .
و قال الجاحظ : اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره :
وزراؤه البرامكة ، و قاضيه أبو يوسف رحمه الله ، و شاعره مروان بن أبي حفصة ، و
نديمه العباس بن محمد عم أبيه ، و حاجبه الفضل بن الربيع ، أنبه الناس و أعظمهم ، و
مغنيه إبراهيم الموصلي ، و زوجته زبيدة .
و قال غيره : كانت أيام الرشيد كلها خير كأنها من حسنها أعراس .
و قال الذهبي : أخبار الرشيد يطول شرحها ، و محاسنه
جمة و له أخبار في اللهو و اللذات المحظورة و الغناء ، سامحه الله .
مات في أيامه من الأعلام : مالك بن أنس ، و الليث بن سعد ، و أبو يوسف صاحب أبي
حنيفة ، و القاسم بن معن ، و مسلم بن خالد الزنجي ، و نوح الجامع ، و الحافظ أبو
عوانة اليشكري ، و إبراهيم بن سعد الزهري ، و أبو اسحاق الفزاري ، و إبراهيم بن أبي
يحيى شيخ الشافعي ، و أسد الكوفي من كبار أصحاب أبي حنيفة ، و إسماعيل بن عياش ، و
بشر بن المفضل ، و جرير بن عبد الحميد ، و زياد البكائي ، و سليم المقرئ صاحب حمزة
، و سيبويه إمام العربية ، و ضيغم الزاهد ، و عبد الله العمري الزاهد ، و عبد الله
بن المبارك ، و عبد الله بن إدريس الكوفي ، و عبد العزيز بن أبي حازم ، و الدراوردي
، و الكسائي شيخ القراء و النحاة ، و محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ـ كلاهما في يوم
، و علي بن مسهر ، و غنجار ، و عيسى بن يوسف السبعي ، و الفضيل بن عياض ، و ابن
السماك الواعظ و مروان بن أبي حفصة الشاعر ، و المعافى بن عمران الموصلي ، و معتمر
بن سليمان ، و المفضل بن فضالة قاضي مصر ، و موسى بن ربيعة أبو الحكم المصري أحد
الأولياء ، و النعمان بن عبد السلام الأصبهاني ، و هشيم ، و يحيى بن أبي زائدة ، و
يزيد بن زريع ، و يونس بن حبيب النحوي ، و يعقوب بن عبد الرحمن قارئ المدينة ، و
صعصة بن سلام عالم الأندلس أحد أصحاب مالك ، و عبد الرحمن بن القاسم أكبر أصحاب
مالك ، و العباس بن الأحنف الشاعر المشهور ، و أبو بكر بن عياش المقري ، و يوسف بن
الماجشون ، و خلائق آخرون كبار .
و من الحوادث في أيامه : في سنة خمس و سبعين افترى عبد الله بن مصعب الزبيري على
يحيى بن عبد الله بن حسن العلوي أنه طلب إليه أن يخرج معه على الرشيد ، فباهله يحيى
بحضرة الرشيد و شبك يده في يده و قال قل : اللهم إن كنت تعلم أن يحيى لم يدعني إلى
الخلافة و الخروج على أمير المؤمنين هذا فكلني إلى حولي و قوتي و اسحتني بعذاب من
عندك ، آمين رب العالمين ، فتلجلج الزبيري و قالها ، ثم قال يحيى مثل ذلك و قاما ،
فمات الزبيري ليومه .
و في سنة ست و سبعين فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك ابن
صالح العباسي .
و في سنة تسع و سبعين اعتمر الرشيد في رمضان ، و دام على إحرامه إلى أن حج ، و مشى
من مكة إلى عرفات .
و في سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى ، سقط منها رأس منارة الإسكندرية .
و في سنة إحدى و ثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة ، و هو الفاتح له .
و في سنة ثلاث و ثمانين خرج الخزر على أرمينية ، فأوقعوا بأهل الإسلام ، و سفكوا ،
و سبوا أزيد من مائة ألف نسمة . و جرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله .
و في سنة سبع و ثمانين أتاه كتاب من ملك الروم [ نقفور ] بنقض الهدنة التي كانت
عقدت بين المسلمين و بين الملكة [ ريني ] ملكة الروم .
و صورة الكتاب : من [ نقفور ] ملك الروم إلى [ هارون ] ملك العرب : أما بعد : فإن
الملكة التي قبلي كانت أقامتك مقام الرخ و أقامت نفسها مقام البيذق ، فحملت إليك من
أموالها أحمالاً ، و ذلك لضعف النساء و حمقهن ، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك
من أموالها ، و إلا فالسيف بيننا و بينك . فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضباً حتى
لم يتمكن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يخاطبه ، و تفرق جلساؤه من الخوف ، و استعجم
الرأي على الوزير ، فدعا الرشيد بدواة ، و كتب على ظهر كتابه :
[ بسم الله الرحمن الرحيم ، من هارون أمير المؤمنين ، إلى نقفور كلب الروم ، قد
قرأت كتابك ياابن الكافرة ، و الجواب ما تراه ، لا ما تسمعه ] .
ثم سار ليومه ، فلم يزل حتى نازل مدينة هرقل ، و كانت غزوة مشهورة و فتحاً مبيناً ،
فطلب نقفور الموادعة ، و التزم بخراج يحمله كل سنة فأجيب . فلما رجع الرشيد إلى
الرقة نقض الكلب العهد لإياسه من كره الرشيد في البرد ، فلم يجترئ أحد أن يبلغ
الرشيد نقضه ، بل قال عبد الله بن يوسف التيمي :
نقض الذي أعطيته نقفور فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه غنم أتاك به الإله كبير
و قال أبو العتاهية أبياتاً ، و عرضت على الرشيد ، فقال : أوقد فعلها ؟ فكر راجعاً
في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه ، فلم يبرح حتى بلغ مراده ، و حاز جهاده .
و في ذلك يقول أبو العتاهية :
ألا نادت هرقلة بالخراب من الملك الموفق للصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا و يبرق بالمذكرة القضاب
و رايات يحل النصر فيها تمر كأنها قطع السحاب
و في سنة تسع و ثمانين فادى الروم حتى لم يبق بممالكهم في الأسر مسلم .
و في سنة تسعين فتح هرقلة ، و بث جيوشه بأرض الروم ، فافتتح شراحبيل بن معن بن زائدة
حصن الصقالبة ، و افتتح يزيد بن مخلد ملقونية ، و سار حميد بن معيوف إلى قبرس ،
فهدم و حرق ، و سبى من أهلها ستة عشر ألفاً .
و في سنة اثنتين و تسعين توجه الرشيد نحو خراسان ، فذكر محمد بن الصباح الطبري أن
أباه شيع الرشيد إلى النهروان ، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال : يا صباح لا
أحسبك تراني بعدها ، فقلت : بل يردك الله سالماً ، ثم قال : و لا أحسبك تدري ما أجد
، فقلت : لا و الله ، فقال : تعال حتى أريك ، و انحرف عن الطريق ، و أومأ إلى
الخواص فتنحوا ، ثم قال : أمانة الله يا صباح أن تكتم علي ، و كشف عن بطنه فإذا
عصابة حرير حوالي بطنه ، فقال : هذه علة أكتمها الناس كلهم ، و لكل واحد من ولدي
علي رقيب ، فمسرور رقيب المأمون ، و جبريل بن بختيشوع رقيب الأمين ، و نسيت الثالث
، ما منهم أحد إلا و يحصي أنفاسي و يعد أيامي و يستطيل دهري ، فإن أردت أن تعرف ذلك
فالساعة أدعو ببرذون ، فيجيئون به أعجف ليزيد في علتي ، ثم دعا ببرذون فجاؤوا به
كما وصف ، فنظر إلي ثم ركبه وودعني و سار إلى جرجان ، ثم رحل منها في صفر سنة ثلاث
و تسعين و هو عليل إلى طوس ، فلم يزل بها إلى أن مات .
و كان الرشيد بايع بولاية العهد لابنه محمد في سنة خمس و سبعين ، و لقبه الأمين ، و
له يومئذ خمس سنين ، لحرص أمه زبيدة على ذلك ، قال الذهبي
: فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة ، ثم بايع لابنه عبد
الله من بعد الأمين في سنة اثنتين و ثمانين ، و لقبه المأمون ، و ولاه ممالك خراسان
بأسرها ، ثم بايع لابنه القاسم من بعد الأخوين في سنة ست و ثمانين ، و لقبه المؤتمن
، و ولاه الجزيرة و الثغور و هو صبي ، فلما قسم الدنيا من هؤلاء الثلاثة قال بعض
العقلاء : لقد ألقى بأسهم بينهم ، و غائلة ذلك تضر بالرعية ، و قالت الشعراء في
البيعة المدائح ، ثم إنه علق نسخة البيعة في البيت العتيق ، و في ذلك يقول إبراهيم
الموصلي :
خير الأمور مغبة و أحق أمر بالتمام
أمر قضى أحكامه ال ـرحمن في البيت الحرام
و قال عبد الملك بن صالح في ذلك :
حب الخليفة حب لا يدين له عاصي الإله و شار يلقح الفتنا
الله قلد هاروناً سياسته لما اصطفاه فأحيا الدين و
السننا
و قلد الأرض هارون لرأفته بنا أميناً و مأموناً و مؤتمنا
قال بعضهم : و قد زوى الرشيد الخلافة عن ولده المعتصم لكونه أمياً فساقها الله إليه
، و جعل الخلفاء بعده كلهم من ذريته ، و لم يجعل من نسل غيره من أولاد الرشيد خليفة
، و قال سلم الخاسر في العهد للأمين :
قل للمنازل بالكثيب الأعفر أسقيت غادية السحاب الممطر
قد بايع الثقلان مهدي الهدى لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر
قد وفق الله الخليفة إذ بنى بيت الخلافة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه و جده شهدا عليه بمنظر و بمخبر
فحشت زبيدة فاه جوهراً باعه بعشرين ألف دينار .
فصل في نبذ من أخبار الرشيد عفا الله عنه
أخرج السلفي في الطيوريات
بسنده عن ابن المبارك قال : لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من
جواري المهدي ، فراودها عن نفسها ، فقالت : لا أصلح لك ، إن أباك قد طاف بي ، فشغف
بها ، فأرسل إلى أبي يوسف ، فسأله : أعندك في هذا شيء ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو
كلما ادعت أمة شيئاً ينبغي أن تصدق ، لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة ، قال
ابن المبارك : فلم أدر ممن أعجب : من هذا الذي قد وضع
يده في دماء المسلمين و أموالهم يتحرج عن حرمة أبيه ، أو من هذه الأمة التي رغبت
بنفسها عن أمير المؤمنين ، أو من هذا فقيه الأرض و قاضيها ! قال : اهتك حرمة أبيك ،
و اقض شهوتك ، و صيره في رقبتي .
و أخرج أيضاً عن عبد الله بن يوسف ، قال : قال الرشيد لأبي يوسف : إني اشتريت جارية
و أريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء ، فهل عندك حيلة ؟ قال : نعم ، تهبها لبعض ولدك
، ثم تتزوجها .
و أخرج عن ابن إسحاق بن راهوية قال : دعا الرشيد أبا يوسف ليلاً فأفتاه ، فأمر له
بمائة ألف درهم ، فقال أبو يوسف : إن رأى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح ،
فقال : عجلوها ، فقال بعض من عنده : إن الخازن في بيته و الأبواب مغلقة ، فقال أبو
يوسف : فقد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ، ففتحت .
و أسند الصولي عن يعقوب بن جعفر
قال : خرج الرشيد في السنة التي ولي الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم ، و انصرف في
شعبان ، فحج بالناس آخر السنة ، و فرق بالحرمين مالاً كثيراً ، و كان رأى النبي صلى
الله عليه و سلم في النوم فقال له : إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر ، فاغز و
حج و وسع على أهل الحرمين ، ففعل هذا كله . و أسند عن معاوية بن صالح عن
أبيه ، قال : أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولي الخلافة ، فدخل داراً ، فإذا في
صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على حائط :
ألا يا أمير المؤمنين أما ترى فديتك هجران الحبيب كبيرا
فدعا بدواة ، و كتب تحته بخطه :
بلى و الهدايا المشعرات و ما مشى بمكة مرفوع الأظل حسيرا
و أخرج عن سعيد بن مسلم قال : كان فهم الرشيد فهم العلماء ، أنشده العماني في صفة
فرس :
كأن أذنيه إذا تشوفا قادمة أو قلما محرفا
فقال الرشيد : دع كأن و قل : تخال أذنيه ، حتى يستوي الشعر.
و أخرج عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال : حلف الرشيد أن لا يدخل إلى
جارية له أياماً ، و كان يحبها ، فمضت الأيام و لم تسترضه فقال :
صد عني إذ رآني مفتتن و أطال الصبر لما أن فطن
كان مملوكي فأضحى مالكي إن هذا من أعاجيب الزمن
ثم أحضر أبو العتاهية ، فقال : أجزهما ، فقال :
عزة الحب أرته ذلتي في هواه ، و له وجه حسن
فلهذا صرت مملوكاً له و لهذا شاع ما بي و علن
و أخرج ابن عساكر عن ابن علية قال : أخذ هارون الرشيد
زنديقاً ، فأمر بضرب عنقه ، فقال له الزنديق : لم تضرب عنقي ؟ قال له : أريح العباد
منك ، قال : فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه و سلم كلها
ما فيها حرف نطق به ؟ قال فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري و عبد الله بن
المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفاً ؟
و أخرج الصولي عن ابن إسحاق الهاشمي قال : كنا عند
الرشيد فقال : بلغني أن العامة يظنون في بغض علي بن أبي طالب ، و و الله ما أحب
أحداً حبي له ، و لكن هؤلاء أشد الناس بغضاً لنا و طعناً علينا و سعياً في فساد
ملكنا بعد أخذنا بثأرهم و مساهمتنا إياهم ما حويناه ، حتى إنهم لأميل إلى بني أمية
منهم إلينا ، فأما ولده لصلبه فهم سادة الأهل و السابقون إلى الفضل ، و لقد حدثني
أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمد بن علي عن أبيه ابن عباس
أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول في الحسن و الحسين : من أحبهما فقد أحبني ،
و من أبغضهما فقد أبغضني وسمعه يقول : فاطمة سيدة نساء
العالمين ، غير مريم ابنة عمران و آسية بنت مزاحم .
روي أن ابن السماك دخل على الرشيد يوماً ، فاستقى ، فأتى بكوز ، فلما أخذه قال :
على رسلك يا أمير المؤمنين ، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها ؟ قال : بنصف ملكي
، قال : اشرب هنأك الله تعالى ، قال : أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت
تشتري خروجها ؟ قال : بجميع ملكي ، قال : إن ملكاً قيمته شربة ماء و بولة لجدير أن
لا ينافس فيه ، فبكى هارون بكاءً شديداً .
و قال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان : عظني ، قال :
لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف ،
فقال الرشيد : فسر لي هذا ، قال : من يقول لك : أنت مسؤول عن الرعية فاتق الله أنصح
لك ممن يقول : أنتم أهل بيت مغفور لكم ، و أنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه و سلم ،
فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله . و في كتاب الأوراق للصولي
بسنده : لما ولي الرشيد الخلافة و استوزر يحيى بن خالد قال إبراهيم الموصلي
:
ألم تر أن الشمس كانت مريضة فلما أتى هارون أشرق نورها
تلبست الدنيا جمالاً بملكه فهارون واليها و يحيى وزيرها
فأعطاه مائة ألف درهم ، و أعطاه يحيى خمسين ألفاً .
و لداود بن رزين الواسطي فيه :
بهارون لاح النور في كل بلدة و قام به في عدل سيرته
النهج
إمام بذات الله أصبح شغله فأكثر ما يعنى به الغزو و الحج
تضيق عيون الخلق عن نور وجهه إذا ما بدا للناس منظره
البلج
تفسحت الآمال في جود كفه فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو
و قال القاضي الفاضل في بعض رسائله : ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا
للرشيد ، فإنه رحل بولديه الأمين و المأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله ، قال
: و كان أصل الموطأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين ، قال : ثم رحل لسماعه السلطان
صلاح الدين بن أيوب إلى الإسكندرية ، فسمعه على ابن طاهر بن عوف ، و لا أعلم لهما
ثالثاً .
و لمنصور النمري فيه :
جعل القران إمامه و دليله لما تخيره القران ذماما
و له فيه من قصيدة :
إن المكارم و المعروف أودية أحلك الله منها حيث تجتمع
و يقال : إنه أجازه عليها بمائة ألف .
و قال الحسين بن فهم : كان الرشيد يقول : من أحب ما مدحت به إلي :
أبو أمين ، و مأمون ، و مؤتمن أكرم به والداً براً و ما
ولدا
و قال إسحاق الموصلي : دخلت على الرشيد ، فأنشدته :
و آمرة بالبخل قلت لها : اقصري فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الجواد ، و لا أرى بخيلاً له في العالمين
خليل
و إني رأيت البخل يزري بأهله فأكرمت نفسي أن يقال : بخيل
و من خير حالات الفتى لو علمته إذا نال شيئاً أن يكون
ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرماً و مالي كما قد تعلمين قليل
و كيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى و رأي أمير المؤمنين
جميل
فقال : لا كيف إن شاء الله يا فضل أعطه مائة ألف درهم ، لله در أبيات يأتينا بها !
ما أجود أصولها ، و أحسن فصولها ! فقلت : يا أمير المؤمنين كلامك أحسن من شعري ،
فقال : يا فضل أعطه مائة ألف أخرى .
و في الطوريات بسنده إلى إسحاق الموصلي قال أبو
العتاهية لأبي نواس : البيت الذي مدحت به الرشيد لوددت أني كنت سبقتك به إليه :
قد كنت خفتك ثم آمنني من أن أخافك خوفك الله
و قال محمد بن علي الخراساني : الرشيد أول خليفة لعب بالصوالجة و الكرة ، و رمى
النشاب في البرجاس ، و أول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس .
و قال الصولي : هو أول من جعل للمغنين مراتب و طبقات .
و من شعر الرشيد يرثي جاريته هيلانة أورده الصولي :
قاسيت أوجاعاً و أخزاناً لما استخص الموت هيلانا
فارقت عيشي حين فارقتها فما أبالي كيف ما كانا
كانت هي الدنيا فلما ثوت في قبرها فارقت دنيانا
قد كثر الناس و لكنني لست أرى بعدك إنسانا
و الله لا أنساك ما حركت ريح بأعلى نجد أغصانا
و له أيضاً ، أنشده الصولي :
يا ربة المنزل بالفرك و ربة السلطان و الملك
ترفقي بالله في قتلنا لسنا من الديلم و الترك
مات الرشيد في الغزو ، بطوس من خراسان ، و دفن بها في ثالث جمادى الآخرة سنة ثلاث و
تسعين و مائة ، و له خمس و أربعون سنة ، و صلى عليه ابنه صالح .
قال الصولي : خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار ، و من الأثاث و الجوهر و الورق و
الدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار و خمسة و عشرون ألف دينار .
و قال غيره : غلط جبريل بن بختيشوع على الرشيد في علته في علاج عالجه به كان سبب
منيته ، فهم أن يفصل أعضاءه فقال : انظرني إلى غد ، فإنك تصبح في عافية ، فمات ذلك
اليوم .
و قيل : إن الرشيد رأى مناماً أنه يموت بطوس ، فبكى و قال : احفروا لي قبراً ، فحفر
له ، ثم حمل في قبة على جمل ، و سيق به حتى نظر إلى القبر ، فقال : ياابن آدم تصير
إلى هذا ؟ و أمر قوماً فنزلوا فختموا فيه ختمة ، و هو في محفة على شفير القبر ، و
لما مات بويع لولده الأمين في المعسكر ـ و هو حينئذ ببغداد ـ فأتاه الخبر ، فصلى
بالناس الجمعة ، و خطب ، و نعى الرشيد إلى الناس و بايعوه ، و أخذ رجاء الخادم
البرد و القضيب و الخاتم ، و سار على البريد في اثني عشر يوماً من مرو ، حتى قدم
بغداد في نصف جمادى الآخرة ، فدفع ذلك إلى الأمين ، و لأبي الشيص يرثي الرشيد :
غربت في الشرق شمس فلها عيني تدمع
ما رأينا قط شمساً غربت من حيث تطلع
و قال أبو نواس جامعاً بين العزاء و الهناء :
جرت جوار بالسعد و النحس فنحن في مأتم و في عرس
القلب يبكي و العين ضاحكة فنحن في وحشة و في أنس
يضحكنا القائم الأمين و يب كينا وفاة الإمام بالأمس
بدران بدر أضحى ببغداد في ال خلد و بدر بطوس في الرمس
و مما رواه الرشيد من الحديث ، قال الصولي :
حدثنا عبد الرحمن بن خلف ، حدثني جدي الحصين بن سليمان الضبي ،
سمعت الرشيد يخطب فقال في خطبته : حدثني مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أنس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اتقوا النار و لو بشق تمرة حدثني محمد بن
علي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب قال
النبي صلى الله عليه و سلم نظفوا أفواهكم فإنها طريق القرآن .
|
|
|