المأمون عبد الله بن
هارون الرشيد 198 هـ ـ 218هـ
المأمون : عبد الله ابن العباس بن الرشيد ، ولد سنة سبعين و مائة في ليلة الجمعة
منتصف ربيع الأول ، و هي الليلة التي مات فيها الهادي و استخلف أبوه ، و أمه أم ولد
اسمه مراجل ماتت في نفاسها به ، و قرأ العلم في صغره.
سمع الحديث من أبيه ، و هشيم ، و عباد بن العوام ، و يوسف بن عطية ، و أبي معاوية
الضرير ، و إسماعيل بن علية ، و حجاج الأعور ، و طبقتهم .
و أدبه اليزيدي ، و جمع الفقهاء من الآفاق ، و برع في الفقه ، و العربية ، و أيام
الناس ، و لما كبر عني بالفلسفة و علوم الأوائل و مهر فيها ، فجره ذلك إلى القول
بخلق القرآن
روى عنه : ولد الفضل ، و يحيى بن أكثم ، و جعفر بن أبي عثمان الطيالسي ، و الأمير
عبد الله بن طاهر ، و أحمد بن الحارث الشيعي ، و دعبل الخزاعي ، و آخرون .
و كان أفضل رجال بني العباس حزماً ، و عزماً و حلماً و علماً و رأياً ، و دهاء ، و
هيبة ، و شجاعة ، و سؤدداً ، و سماحة ، و له محاسن و سيرة طويلة لو لا ما أتاه من
محنة الناس في القول بخلق القرآن ، و لم يل الخلافة من بني العباس أعلم منه ، و كان
فصيحاً مفوهاً ، و كان يقول : معاوية بعمره ، و عبد الملك بحجاجه ، و أنا بنفسي .
و كان يقال : لبني العباس فاتحة ، و واسطة ، و خاتمة ، فالفاتحة السفاح ، و الواسطة
المأمون ، و الخاتمة المعتضد . و قيل : إنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثاً و ثلاثين
ختمة ، و كان معروفاً بالتشيع ، و قد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن و العهد
بالخلافة إلى علي الرضى كما سنذكره .
قال أبو معشر المنجم : كان المأمون أماراً بالعدل ،
فقيه النفس ، يعد من كبار العلماء .
و عن الرشيد قال : إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور ، و نسك المهدي ، و عزة
الهادي ، و لو أشاء أن أنسبه إلى الرابع ـ يعني نفسه ـ لنسبته ، و قد قدمت محمداً
عليه ، و إني لأعلم أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء و
النساء ، و لو لا أم جعفر و ميل بني هاشم لقدمت عبد الله عليه .
استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمان و تسعين و هو بخراسان و اكتنى بأبي
جعفر .
قال الصولي : و كانوا يحبون هذه الكنية لأنها كنية
المنصور و كان لها في نفوسهم جلالة و تفاؤل بطول عمر من كني بها كالمنصور و الرشيد
.
و في سنة إحدى و مائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد ، و جعل ولي العهد من بعده علي
الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ، حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل :
إنه هم أن يخلع نفسه و يفوض الأمر إليه ، و هو الذي لقبه الرضى ، و ضرب الدراهم
باسمه ، و زوجه ابنته ، و كتب إلى الآفاق بذلك ، و أمر بترك السواد و لبس الخضرة ،
فاشتد ذلك على بني العباس جداً ، و خرجوا عليه ، و بايعوا إبراهيم بن المهدي ، و
لقب [ المبارك ] فجهز المأمون لقتاله ، و جرت أمور و حروب ، و سار المأمون إلى نحو
العراق ، فلم ينشب علي الرضى أن مات في سنة ثلاث ، فكتب المأمون إلى أهل بغداد
يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلي و قد مات ، فردوا جوابه أغلظ جواب ،
فسار المأمون ، و بلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده ، فاختفى في ذي الحجة ،
فكانت أيامه سنتين إلا أياماً ، و بقي في اختفائه مدة ثمان سنين .
و وصل المأمون بغداد في صفر سنة أربع ، فكلمه العباسيون و غيرهم في العود إلى لبس
السواد و ترك الخضرة ، فتوقف ، ثم أجاب إلى ذلك .
و أسند الصولي أن بعض آل بيته قالت : إنك على بر أولاد
علي بن أبي طالب و الأمر فيك أقدر منك على برهم و الأمر فيهم ، فقال : إنما فعلت ما
فعلت لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحداً من بني هاشم شيئاً ، ثم عمر ثم عثمان كذلك ،
ثم ولي علي فولى عبد الله بن عباس البصرة ، و عبيد الله اليمن و معبداً مكة ، و قثم
البحرين ، و ما ترك أحداً منهم حتى ولاه شيئاً ، فكانت هذه منة في أعناقنا حتى
كافأته في ولده بما فعلت .
و في سنة عشر تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل ، و بلغ جهازها ألوفاً كثيرة و
قام أبوها بخلع القواد و كلفتهم مدة سبعة عشر يوماً ، و كتب رقاعاً فيها أسماء ضياع
له و نثرها على القواد و العباسيين ، فمن وقعت في يده رقعة باسم ضيعة تسلمها ، و
نثر صينية ملئت جوهراً بين يدي المأمون عندما زفت إليه .
و في سنة إحدى عشرة أمر المأمون بأن ينادي : برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير ، و أن
أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب .
و في سنة اثنتي عشر أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافاً إلى تفضيل علي على أبي
بكر و عمر ، فاشمأزت النفوس منه ، و كاد البلد يفتتن ، و لم يلتئم له من ذلك ما
أراد ، فكف عنه إلى سنة ثمان عشرة .
و في سنة خمس عشرة سار المأمون إلى غزو الروم ، ففتح حصن قرة عنوة ، و حصن ماجدة ،
ثم سار إلى دمشق ، ثم عاد في سنة ست عشرة إلى الروم و افتتح عدة حصون ، ثم عاد إلى
دمشق ، ثم توجه إلى مصر و دخلها فهو أول من دخلها من الخلفاء العباسين ، ثم عاد في
سنة سبع عشرة إلى دمشق و الروم .
و في سنة ثمان عشرة امتحن الناس بالقول بخلق القرآن ، فكتب إلى نائبه على بغداد
إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين في امتحان العلماء كتاباً يقول فيه
: و قد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم و السواد الأكبر من حشوة الرعية و سفلة
العامة ممن لا نظر له و لا روية و لا استضاءة بنور العلم و برهانه أهل جهالة بالله
، و عمى عنه ، و ضلالة عن حقيقة دينه ، و قصور أن يقدروا الله حق قدره ، و يعرفوه
كنه معرفته ، و يفرقوا بينه و بين خلقه ، و ذلك أنهم ساووا بين الله و بين ما أنزل
من القرآن ، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله و يخترعه ، و قد قال الله تعالى :
إنا جعلناه قرآنا عربيا فكل ما جعله الله فقد خلقه كما
قال الله تعالى : وجعل الظلمات والنور و قال :
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق فأخبر أنه قصص الأمور
أحدثه بعدها و قال : أحكمت آياته ثم فصلت و الله محكم
كتابه و مفصله فهو خالقه و مبتدعه ، ثم انتسبوا إلى السنة و أظهروا أنهم أهل الحق و
الجماعة ، و أن من سواهم أهل الباطل و الكفر ، فاستطالوا بذلك و غروا به الجهال ،
حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب و التخشع لغير الله إلى موافقتهم ، فتركوا الحق
إلى باطلهم ، و اتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم ، إلى أن : قال فرأى أمير
المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظاً و أوعية الجهالة و أعلام
الكذب و لسان إبليس الناطق في أوليائه و الهائل على أعدائه من أهل دين الله ، و أحق
من يتهم في صدقه و تطرح شهادته و لا يوثق به من عمي عن رشده و حظه من الإيمان بالله
و بالتوحيد ، و كان عما سوى ذلك أعمى و أضل سبيلاً ، و لعمر أمير المؤمنين أن أكذب
الناس من كذب على الله و وحيه ، و تخرص الباطل ، و لم يعرف الله حق معرفته ، فأجمع
من بحضرتك من القضاة فأقرأ عليهم كتابنا ، و امتحنهم فيما يقولون ، و اكشفهم عما
يعتقدون في خلقه و إحداثه ، و أعلمهم أني غير مستعين في عملي ، ولا واثق بمن لا
يوثق بدينه ، فإذا أقروا بذلك و وافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود و مسألتهم
عن علمهم في القرآن و ترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق ، و اكتب إلينا بما يأتيك عن
قضاة أهل عملك في مسألتهم و الأمر لهم بمثل ذلك .
و كتب المأمون إليه أيضاً في إشخاص سبعة أنفس ، و هم : محمد بن سعد كاتب الواقدي ،
و يحيى بن معين ، و أبو خيثمة ، و أبو مسلم مستملي يزيد بن هارون ، و إسماعيل بن
داود ، و إسماعيل بن أبي مسعود ، و أحمد بن إبراهيم الدورقي ، فأشخصوا إليه
فامتحنهم بخلق القرآن ، فأجابوه ، فردهم من الرقة إلى بغداد ، و سبب طلبهم أنهم
توقفوا أولاً ثم أجابوه تقية .
و كتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يحضر الفقهاء و مشايخ الحديث ، و يخبرهم بما أجاب
به هؤلاء السبعة ، ففعل ذلك ، فأجابه طائفة ، و امتنع آخرون ، فكان يحيى بن معين و
غيره يقولون : أجبنا خوفاً من السيف .
ثم كتب المأمون كتاباً آخر من جنس الأول إلى إسحاق ، و أمره بإحضار من امتنع ،
فأحضر جماعة منهم : أحمد بن حنبل ، و بشر بن الوليد الكندي ، و أبو حسان الزيادي ،
و علي بن أبي مقاتل ، و الفضل بن غانم ، و عبيد الله القواريري ، و علي بن الجعد ،
و سجادة ، و الذيال بن الهيثم ، و قتيبة بن سعد ، و سعدوية الواسطي ، و إسحاق بن
أبي إسرائيل ، وابن الهرس و ابن علية الأكبر ، و محمد بن نوح العجلي ، و يحيى بن
عبد الرحمن العمري ، و أبو نصر التمار ، و أبو معمر القطيعي ، و محمد بن حاتم بن
ميمون ، و غيرهم . و عرض عليهم كتاب المأمون ، فعرضوا و وروا و لم يجيبوا و لم
ينكروا ، فقال لبشر بن الوليد : ما تقول ؟ قال : قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة ،
قال : و الآن فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب ، قال : أقول : كلام الله ، قال : لم
أسألك عن هذا ، أمخلوق هو ؟ قال : ما أحسن غير ما قلت لك ، و قد استعهدت أمير
المؤمنين أن لا أتكلم فيه ، ثم قال لعلي بن أبي مقاتل : ما تقول ؟ قال : القرآن
كلام الله ، و إن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا و أطعنا ، و أجاب أبو حسان
الزيادي بنحو من ذلك ، ثم قال لأحمد بن حنبل : ما تقول ؟ قال : كلام الله ، قال :
أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله ، لا أزيد على هذا ، ثم امتحن الباقين و كتب
بجواباتهم ، و قال ابن البكاء الأكبر : أقول : القرآن مجعول و محدث لورود النص بذلك
، فقال له إسحاق بن إبراهيم : و المجعول مخلوق ؟ قال : فالقرآن مخلوق ؟ قال : لا
أقول مخلوق ، ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون .
فورد عليه كتاب المأمون : بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة و ملتمسو الرئاسة
فيما ليسوا له بأهل ، فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى و الرواية ، و يقول في
الكتاب : فأما ما قال بشر فقد كذب ، لم يكن جرى بين أمير المؤمنين و بينه عهد أكثر
من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص و القول بأن القرآن مخلوق ، فادع
به إليك ، فإن تاب فأشهر أمره ، و إن أصر على شركة و دفع أن يكون القرآن مخلوقاً
بكفره و إلحاده فاضرب عنقه ، و ابعث إلينا برأسه ، وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه
فإن أجاب و إلا فاضرب عنقه ، و أما علي بن أبي مقاتل فقل له : ألست القائل لأمير
المؤمنين إنك تحلل و تحرم ؟ و أما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي يسرقه من
الأنبار ما يشغله ، و أما أحمد بن يزيد أبو العوام و قوله [ إنه لا يحسن الجواب في
القرآن ] فأعمله أنه صبي في عقله ، لا في سنه ، جاهل يحسن الجواب إذا أدب ، ثم إن
لم يفعل كان السيف من وراء ذلك ، و أما أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير المؤمنين قد
عرف فحوى مقالته ، و استدل على جهله و أفنه بها ، و أما الفضل بن غانم فأعلمه أنه
لم يخف على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر ، و ما اكتسب من الأموال في أقل من سنة ،
يعني في ولاية القضاء ، و أما الزيادي فأعلمه أنه كان منتحلاً ولاء أول دعي ، فأنكر
أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه ، و إنما قيل له [ الزيادي ] لأمر من الأمور
، قال : و أما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة مدجره ، و
أما ابن نوح ـ و المعروف بأبي معمر ـ و ابن حاتم فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن
الوقوف على التوحيد ، و إن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله إلا
لإربائهم و ما نزل به كتاب الله في أمثالهم لا ستحل ذلك ، فكيف بهم و قد جمعوا مع
الإرباء شركاً و صاروا للنصارى شبهاً ؟ و أما ابن شجاع فأعلمه أنك صاحبه بالأمس ، و
المستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام ، و أما
سعدويه الواسطي فقل له : قبح الله رجلاً بلغ به التصنع للحديث و الحرص على الرئاسة
فيه أن يتمنى وقت المحنة ! و أما المعروف بسجادة و إنكاره أن يكون سمع ممن كان
يجالس العلماء القول بأن القرآن مخلوق فأعلمه أن في شغله بإعداد النوى و حكه لإصلاح
سجادته و بالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى و غيره ما أذهله عن التوحيد ، و أما
القواريري ففيما تكشف من أحواله و قبوله الرشا و المصانعات ما أبان عن مذهبه و سوء
طريقته و سخافة عقله و دينه ، و أما يحيى العمري فإن كان من ولد عمر بن الخطاب
فجوابه معروف ، و أما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتدياً بمن مضى من
سلفه لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه ، و إنه بعد صبي محتاج إلى أن يعلم ، و قد كان
أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في
القرآن فجمجم عنها ، و تلجلج فيها ، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف ، فأقر
ذميماًً ، فأنصصه عن إقراره ، فإن كان مقيماً عليه فأشهر ذلك و أظهره ، و من لم
يرجع عن شركه ـ ممن سميت بعد بشر و ابن المهدي ـ فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير
المؤمنين ليسألهم ، فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف ، قال : فأجابوا كلهم عند ذلك
، إلا أحمد بن حنبل ، و سجادة ، و محمد بن نوح ، و القواريري ، فأمر بهم إسحاق
فقيدوا ، ثم سألهم من الغد ـ و هم في القيود ـ فأجاب سجادة ، ثم عاودهم ثالثاً
فأجاب القواريري ، و وجه بأحمد بن حنبل و محمد بن نوح إلى الروم .
ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين ، فغضب و أمر بإحضارهم إليه ،
فحملوا إليه ، فبلغتهم وفاة المأمون قبل وصولهم إليه ، و لطف الله بهم ، و فرج عنهم
. و أما المأمون فمرض بالروم ، فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه و هو يظن
أنه لا يدركه ، فأتاه و هو مجهود و قد نفذت الكتب إلى البلدان فيها : من عبد الله
المأمون و أخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده ، بهذا النص فقيل : إن ذلك وقع بأمر
المأمون ، و قيل : بل كتبوا ذلك وقت غشي أصابه .
و مات المأمون يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة بالبذندون من أقصى
الروم ، و نقل إلى طرسوس ، فدفن بها .
قال المسعودي : كان نزل على عين البذندون ، فأعجبه برد
مائها و صفاؤه و طيب حسن الموضع و كثرة الخضرة ، فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة ،
فأعجبته ، فلم يقدر أحد يسبح في العين لشدة بردها ، فجعل لمن يخرجها سيفاً ، فنزل
فراش فاصطادها وطلع ، فاضطربت و فرت إلى الماء ، فتنضح صدر المأمون و نحره و ابتل
ثوبه ، ثم نزل الفراش ثانية فأخذها ، فقال المأمون : تقلى الساعة ، ثم أخذته رعدة ،
فغطي باللحف ـ و هو يرتعد و يصيح ـ فأوقدت حوله نار فأتى بالسمكة ، فما ذاقها لشغله
بحاله ، ثم أفاق المأمون من غمرته ، فسأل عن تفسير المكان بالعربي ؟ قيل : مد رجليك
، فتطير به ، ثم سأل عن اسم البقعة ، فقيل : الرقة . و كان فيما عمل من مولده أنه
يموت بالرقة ، فكان يتجنب نزول الرقة فرقاً من الموت فلما سمع هذا من الروم عرف و
أيس ، و قال : يا من لا يزول ملكه ، ارحم من قد زال ملكه ، و لما وردت وفاته بغداد
. قال أبو سعيد المخزومي :
هل رأيت النجوم أغنت عن المأ مون أو عن ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرسوس مثل ما خلفوا أباه بطوس
قال الثعالبي : لا يعرف أب و ابن من الخلفاء أبعد
قبراً من الرشيد و المأمون .
قال : و كذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد ، و لم ير الناس مثلهم
: فقبر عبد الله بالطائف ، و عبيد الله بالمدينة ، و الفضل بالشام ، و قثم بسمرقند
، و معبد بإفريقية .
فصل في نبذ من أخبار
المأمون
قال نفطويه : حدثنا حامد بن العباس بن الوزير قال :
كنا بين يدي المأمون ، فعطس ، فلم نشمته ، فقال : لم لا تشمتونني ؟ قلنا : أجللناك
يا أمير المؤمنين ، قال : لست من الملوك التي تتجال عن الدعاء .
و أخرج ابن عساكر عن أبي محمد اليزيدي قال : كنت أؤدب
المأمون ، فأتيته يوماً ـ و هو داخل ـ فوجهت إليه بعض الخدم يعلمه بمكاني ، فأبطأ ،
ثم و جهت إليه آخر ، فأبطأ ، فقلت : إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة ، فقيل : أجل
، و مع هذا إنه إذا فارقك تعرم على خدمه و لقوا منه أذى شديداً ، فقومه بالأدب ،
فلما خرج أمرت بحمله ، فضربته سبع درر ، قال : فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل :
هذا جعفر بن يحيى قد أقبل ، فأخذ منه منديلاً ، فدخل ، فقمت عن المجلس و خفت أن
يشكوني إليه ، فأقبل عليه بوجهه و حدثه حتى أضحكه ، ثم خرج ، فجئت فقلت : لقد خفت
أن تشكوني إلى جعفر ، فقال لي : يا أبا محمد ، ما كنت أطلع الرشيد على هذه ، فكيف
بجعفر ؟ إني أحتاج إلى أدب .
و أخرج عن عبد الله بن محمد التيمي قال : أراد الرشيد سفراً ، فأمر الناس أن
يتأهبوا لذلك و أعلمهم أنه خارج بعد الأسبوع ، فمضى الأسبوع و لم يخرج ، فاجتمعوا
إلى المأمون ، فسألوه أن يستعلم ذلك ، و لم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر
، فكتب إليه المأمون :
يا خير من دبت المطي به و من تقدى بسرجه فرس
هل غاية في المسير نعرفها أم أمرنا في المسير ملتبس ؟
ما علم هذا إلا إلى ملك من نوره في الظلام نقتبس
إن سرت سار الرشاد متبعاً و إن تقف فالرشاد محتبس
فقرأها الرشيد ، فسر بها ، و وقع فيها : يا بني ما أنت و الشعر إنما الشعر ارفع
حالات الدنى ، و أقل حالات السرى . [ تقدى : أي استمر ] .
و أخرج الأصمعي قال : كان نقش خاتم المأمون [ عبد الله
بن عبد الله ] .
و أخرج عن محمد بن عبد الله قال : لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان بن عفان
و المأمون . قلت : و قد رددت هذا الحصر فيما تقدم .
و أخرج عن ابن عيينة قال : جمع المأمون العلماء ، و جلس للناس ، فجاءت امرأة ،
فقالت : يا أمير المؤمنين مات أخي و خلف ستمائة دينار ، أعطوني ديناراً و قالوا :
هذا نصيبك . قال : فحسب المأمون ، ثم كسر الفريضة ، ثم قال لها : هذا نصيبك ، فقال
له العلماء : كيف علمت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : هذا الرجل خلف ابنتين ؟ قالت نعم
، قال : فلهن الثلثان أربعمائة ، و خلف والدة فلها السدس مائة ، و خلف زوجة فلها
الثمن خمسة و سبعون ، و بالله ألك اثنا عشر أخاً ؟ قالت : نعم ، قال : أصابهم
ديناران ، ديناران و أصابك دينار .
و أخرج عن محمد بن حفص الأنماطي قال : تغدينا مع المأمون في يوم عيد ، فوضع على
مائدته أكثر من ثلثمائة لون . قال : فكلما وضع لون نظر المأمون إليه ، فقال : هذا
نافع لكذا ، ضار لكذا ، فمن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا ، و من كان منكم صاحب
صفراء فليأكل من هذا ، و من غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا ، و من قصد قلة الغذاء
فليقتصر على هذا ، فقال له يحيى بن أكثم : يا أمير المؤمنين ، إن خضنا في الطب كنت
جالينوس في معرفته ، أو في النجوم كنت هرمس في حسابه ، أو في الفقه كنت علي بن أبي
طالب رضي الله عنه في علمه ، أو ذكر السخاء كنت حاتم طيء في صفته ، أو صدق الحديث
كنت أبا ذر في لهجته ، أو الكرم فأنت كعب بن مامة في فعاله ، أو الوفاء فأنت
السموأل بن عاديا في وفائه . فسر بهذا الكلام ، و قال : إن الإنسان إنما فضل بعقله
، و لو لا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم و لا دم أطيب من دم .
و أخرج عن يحيى بن أكثم قال : ما رأيت أكمل من المأمون ، بت عنده ليلة ، فانتبه
فقال : يا يحيى انظر أيش عند رجلي ؟ فنظرت فلم أر شيئاً ، فقال : شمعة ، فتبادر
الفراشون ، فقال : انظروا ، فنظروا فإذا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها ، فقلت : قد
انضاف إلي كمال أمير المؤمنين علم الغيب ، فقال : معاذا الله ! و لكن هتف بي هاتف
الساعة و أنا نائم ، فقال :
يا راقد الليل انتبه إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه ثقة محللة العرى
فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر ، إما قريب و إما بعيد ، فتأملت ما قرب فكان ما رأيت .
و أخرج عن عمارة بن عقيل قال : قال لي ابن أبي حفصة الشاعر : أعلمت أن المأمون لا
يبصر الشعر ؟ فقلت : من ذا يكون أفرس منه ؟ و الله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى
آخره ، من غير أن يكون سمعه ، قال : إني أنشدته بيتاً أجدت فيه فلم أره تحرك له و
هو هذا :
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا بالدين و الناس في
الدنيا مشاغيل
فقلت له : ما زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها في يدها سبحة ، فمن يقوم بأمر
الدنيا إذا كان مشغولاً عنها ؟ و هو المطوق لها ! ألا قلت كما قال عمك في الوليد :
فلا هو في الدنيا يضيع نصيبه و لا عرض الدنيا عن الدين
شاغله
قال ابن عساكر : أخبرنا أبو العز بن كادش ، حدثنا محمد
بن الحسين ، حدثنا المعافى بن زكريا . حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي ،
حدثنا الزبير بن بكار ، حدثني النضر بن شميل قال : دخلت على المأمون بمرو و علي
أطمار ، فقال لي : يا نضر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب ؟ فقلت : يا
أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق ، قال : لا ، و لكنك تتقشف ،
فتجارينا الحديث ، فقال المأمون : حدثني هشيم بن بشير ، عن
مجالد عن الشعبي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها و جمالها كان فيه سداد من عوز
قلت : صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم . حدثني عوف الأعرابي ، عن
الحسن ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها و جمالها
كان فيه سداد [ بالكسر ] من عوز
وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً ، و قال : السداد لحن يا نضر ؟ قلت : نعم ههنا و
إنما لحن هشيم و كان لحاناً ، فقال : ما الفرق بينهما ؟ قلت : السداد بالفتح القصد
في السبيل و السداد بالكسر البلغة و كل ما سددت به شيئاً فهو سداد ، قال : أفتعرف
العرب ذلك ؟
قلت : نعم هذا العرجي من ولد عثمان يقول :
أضاعوني و أي فتى أضاعوا ليوم كريهة و سداد ثغر
فأطرق المأمون ملياً ثم قال : قبح الله من لا أدب له ! ثم قال : أنشدني يا نضر أخلب
بيت للعرب ، قلت : قول ابن بيض في الحكم بن مروان :
تقول لي و العيون هاجعة : أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت ؟ قلت لها : لأي وجه إلا إلى الحكم ؟
متى يقل حاجبا سرداقه هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً هيهات أدخل فأعطني سلمي
أسلمت : أسلفت ، مقتبلاً : آخذاً قبيلاً : أي كفيلاً .
قال أنشدني أنصف بيت قالته العرب ، قلت : قول ابن أبي عروبة المديني :
إني و إن كان ابن عمي عاتباً لمزاحم من خلفه و ورائه
و مفيد نصري و إن كان أمرأ متزحزحاً في أرضه و سمائه
و أكون والي سره ، و أصونه حتى يحن إلي وقت أدائه
و إذا الحوادث أجحفت بسوامه قرنت صحيحتنا إلى جربائه
و إذا دعا باسمي ليركب مركباً صعباً قعدت له على سيسائه
و إذا أتى من وجهه بطريقة لم أطلع فيما وراء خبائه
و إذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل : يا ليت أن علي حسن ردائه
قال : أنشدني أقنع بيت العرب ، فأنشدته قول ابن عبدل :
إني امرؤ لم أزل ، و ذاك من الله أديباً أعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأن بي ال ـدار و إن كنت نازحاً طربا
لا أحتوي الصديق ، و لا أتبع نفسي شيئاً إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من ال ـرزق بنفسي ، و أجمل الطلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا رغبته في صنيعة رغبا
و العبد لا يطلب العلاء ، و لا يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا يحسن شيئاً إلا إذا ضربا
و لم أجد عروة العلائق إلا ال ـدين لما اختبرت و الحسبا
قد يرزق الخافض المقيم و ما شد بعيس رحلاً و لا قتبا
و يحرم الرزق المطية و الرحـ ـل و من لا يزال مغتربا
قال : أحسنت يا نضر ، و أخذ القرطاس ، فكتب شيئاً لا أدري ما هو ، ثم قال : كيف
تقول أفعل من التراب ؟ قلت : أترب ، قال : و من الطين ؟ قلت : طن ، قال : فالكتاب
ماذا ؟ قلت : مترب مطين ، قال : هذه أحسن من الأول ، فكتب لي بخمسين ألف درهم ، ثم
أمر الخادم أن يوصلني إلى الفضل بن سهل ، فمضيت معه ، فلما قرأ الكتاب قال : يا نضر
لحنت أمير المؤمنين قلت : كلا ! و لكن هيشم لحانة ، فتبع أمير المؤمنين لفظه ، فأمر
لي من عنده بثلاثين ألفاً ، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفاً .
و أخرج الخطيب عن محمد بن زياد الأعرابي قال : قال :
بعث إلي المأمون ، فصرت إليه ، و هو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم ، فرأيتهما
موليين ، فجلست ، فلما أقبلا قمت فسملت عليه بالخلافة ، فسمعته يقول ليحيى : يا أبا
محمد ما أحسن أدبه رآنا موليين فجلس ، ثم رآنا مقبلين فقام ، ثم رد علي السلام ،
فقال : أخبرني عن قول هند بنت عتبة :
نحن بنات طارق نمشي على النمارق مشي قطا الهمارق
من طارق هذا ؟ فنظرت في نسبها ، فلم أجده ، فقلت : يا أمير المؤمنين ما أعرفه في
نسبها ، فقال : إنما أرادت النجم ، و انتسبت إليه لحسنها ، من قول الله تعالى :
والسماء والطارق فقلت : فأيده يا أمير المؤمنين ، فقال :
أنا بؤبؤ هذا الأمر و ابن بؤبؤه ، ثم رمى إلي بعنبرة كان يقلبها في بعتها بخمسة
آلاف درهم .
و أخرج عن أبي عبادة قال : كان المأمون أحد ملوك الأرض ، و كان يجب له هذا الاسم
على الحقيقة .
و أخرج عن ابن أبي دؤاد ، دخل رجل من الخوارج على المأمون ، فقال له المأمون : ما
حملك على خلافنا ؟ قال : آية في كتاب الله ، قال : و ما هي ؟ قال : قوله تعالى :
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال : نعم
، قال : و ما دليلك ؟ قال : إجماع الأمة ، قال : فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل
بإجماعهم في التأويل ، قال : صدقت ، السلام عليك يا أمير المؤمنين .
و أخرج ابن عساكر عن محمد بن منصور ، قال : قال
المأمون : من علامة الشريف أن يظلم من فوقه و يظلمه من هو دونه .
و أخرج عن سعيد بن مسلم قال : قال المأمون : لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في
العفو ليذهب عنهم الخوف ، و يخلص السرور إلى قلوبهم .
و أخرج عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية ،
فقال له : و الله لأقتلنك ، فقال : يا أمير المؤمنين تأن علي ، فإن الرفق نصف العفو
، قال : و كيف و قد حلفت لأقتلنك ؟ فقال : لأن تلقى الله حانثا خيراًً من أن تلقاه
قاتلاً ، فخلى سبيله .
و أخرج الخطيب عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح ، قال
: بت عند المأمون ليلة ، فنام القيم الذي كان يصلح السراج ، فقام المأمون و أصلحه و
سمعته يقول : ربما أكون في المتوضأ فيشتمني الخدام و يفترون علي ، و لا يدرون أني
أسمع ، فأعفو عنهم .
و أخرج الصولي عن عبد الله بن البواب ، قال : كان
المأمون يحلم حتى يغيظنا ، و جلس مرة يستاك على دجله من وراء ستر ـ و نحن قيام بين
يديه ـ فمر ملاح و هو يقول أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني ـ و قد قتل أخاه ـ
قال : فو الله ما زاد على أن تبسم و قال لنا : ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا
الرجل الجليل ؟ .
و أخرج الخطيب عن يحيى بن أكثم قال : ما رأيت أكرم من
المأمون ، بت عنده ليلة ، فأخذه سعال ، فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه .
و كان يقول : أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته ، ثم الذين يلونهم ، حتى يبلغ إلى
الطبقة السفلى .
و أخرج ابن عساكر عن يحيى بن خالد البرمكي قال : قال
لي المأمون : يا يحيى اغتنم قضاء حوائج الناس ، فإن الفلك أدور و الدهر أجور من أن
يترك لأحد حالاً ، أو يبقي لأحد نعمة .
و أخرج عن عبد الله بن محمد الزهري قال : قال المأمون : غلبة الحجة أحب إلي من غلبة
القدرة ، لأن غلبة القدرة تزول بزوالها ، و غلبة الحجة لا يزيلها شيء .
و أخرج عن العتبي قال : سمعت المأمون يقول : من لم يحمدك على حسن النية لم يشكرك
على جميل الفعل .
و أخرج عن أبي العالية قال : سمعت المأمون يقول : ما أقبح اللجاجة بالسلطان ، و
أقبح من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهيم ، و أقبح منه سخافة الفقهاء بالدين ، و
أقبح منه البخل بالأغنياء ، و المزاح بالشيوخ ، و الكسل بالشباب ، و الجبن يالمقاتل
.
و أخرج عن علي بن عبد الرحيم المروزي قال : قال المأمون : أظلم الناس لنفسه من
يتقرب إلى من يبعده ، و يتواضع لمن لا يكرمه ، و يقبل مدح من لا يعرفه . و أخرج عن
مخارق قال : أنشدت المأمون قول أبي العتاهية :
و إني لمحتاج إلى ظل صاحب يروق و يصفو إن كدرت عليه
فقال لي : أعد ، فأعدت سبع مرات ، فقال لي : يا مخارق خذ مني الخلافة و اعطني هذا
الصاحب .
و أخرج عن هدبة بن خالد قال : حضرت غداء المأمون ، فلما رفعت المائدة جعلت ألتقط ما
في الأرض ، فنظر إلي المأمون ، فقال : أما شعبت ؟ قال : بلى ، و لكن حدثني حماد بن
سلمة عن ثابت البناني عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه و
سلم يقول : من أكل ما تحت مائدة أمن من الفقر فأمر لي بألف دينار .
و أخرج عن الحسن بن عبدوس الصفار قال : لما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل ،
أهدي الناس إلى الحسن ، فأهدى له رجل فقير مزودين ، في أحدهما ملح ، و في الآخر
أشنان ، و كتب إليه : جعلت فداك ! خفة البضاعة قصرت ببعد الهمة ، و كرهت أن تطوى
صحيفة أهل البر و لا ذكر لي فيها ، فوجهت إليك بالمبتدإ ليمينه و بركته ، و
بالمختوم به لطيبه و نظافته . فأخذ الحسن المزودين و دخل بهما على المأمون ،
فاستحسن ذلك ، و أمر بهما ففرغا و ملئا دنانير .
أخرج الصولي عن محمد بن القاسم قال : سمعت المأمون
يقول : أنا و الله ألذ العفو حتى أخاف أن لا أوجر عليه ، و لو علم الناس مقدار
محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب .
و أخرج الخطيب عن منصور البرمكي قال : كان للرشيد
جارية ، و كان المأمون يهواها ، فبينما هي تصب على الرشيد من إبريق معها و المأمون
خلفه ، إذا أشار إليها بقبلة ، فزجرته بحاجبها ، و أبطأت غن الصب ، فنظر إليها
هارون فقال : ما هذا ؟ فتلكأت عليه ، فقال إن لم تخبريني لأقتلنك ، فقلت : أشار إلي
عبد الله بقبلة ، فالتفت إليه ، و إذا هو قد نزل به من الحياء و الرعب ما رحمه الله
منه ، فاعتنقه ، و قال : أتحبها ؟ قال : نعم ، قال : قم فادخل بها في تلك القبة ،
فقام ، فلما خرج ، قال له : قل في هذا شعراً ، فقال :
ظبي كنيت بطرفي عن الضمير إليه
قبلته من بعيد فاعتل من شفتيه
ورد أحسن رد بالكسر من حاجبيه
فما برحت مكاني حتى قدرت عليه
و أخرج ابن عساكر عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال :
سمعت بعض النخاسين يقول : عرضت على المأمون جارية شاعرة فصيحة متأدبة شطرنجية ،
فساومته في ثمنها بألفي دينار ، فقال المأمون : إن هي أجازت بيتاً أقول ببيت من
عندها اشتريها بما تقول و زدتك ، فأنشد المأمون :
ماذا تقولين فيمن شفه أرق من جهد حبك قد صار حيرانا ؟
فأجازته :
إذا وجدنا محباً قد أضر به داء الصبابة أوليناه إحسانا
و أخرج الصولي عن الحسن الخليع قال : لما غضب علي
المأمون و منعني رزقاً لي علمت قصيدة أمتدحه به و دفعتها إلى من أوصلها إليه ، و
أولها :
أجرني فإني قد ظمئت إلى الوعد متى تنجر الوعد المؤكد
بالعهد
أعيذك من خلف الملوك و قد ترى تقطع أنفاسي عليك من الوجد
أيبخل فرد الحسن عني بنائل قليل و قد أفردته بهوى فرد
إلى أن قال :
رأى عبد الله خير عباه فملكه ، و الله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة مفرقة بين الضلالة و الرشد
فقال المأمون : قد أحسن إلا أنه القائل :
أعيناي جودا و أبكيا لي محمداً و لا تذخرا دمعاً عليه و
أسعدا
فلا تمت الأشياء بعد محمد و لا زال الملك فيه مبددا
و لا فرح المأمون بالملك بعده و لا زال في الدينا طريداً
مشردا
فهذا بذاك ، و لا شيء عندنا ، فقال له الحاجب : فأين عادة أمير المؤمنين في العفو ؟
فقال : أما هذا فنعم فأمر له بجائزة ، ورد رزقه عليه .
و أخرج عن علية عن حماد بن إسحاق قال : لما قدم المأمون بغداد جلس للمظالم كل يوم
أحد إلى الظهر .
و أخرج عن محمد بن العباس قال : المأمون يحب لعب الشطرنج شديداً ، و يقول : هذا
يشحذ الذهن ، و اقترح فيها . و كان يقول : لا أسمعن أحداً يقول : تعال حتى نلعب ، و
لكن يقول : نتداول ، أو نتناقل ، و لم يكن حاذقاً بها .
و كان يقول : أنا أدبر الدنيا فأتسع لذلك ، و أضيق عن تدبير شبرين في شبرين .
و أخرج عن ابن أبي سعيد قال : هجا دعبل المأمون ، فقال :
إني من القوم الذين سيوفهم قتلت أخاك و شرفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله و استنفذوك من الحضيض الأوهد
فلما سمعها المأمون لم يزد على أن قال : ما أقل حياء دعبل ! متى كنت خاملاً و قد
نشأت في حجر الخلفاء ؟ و لم يعاقبه .
و أخرج من طرق عدة ، أن المأمون كان يشرب النبيذ .
و أخرج عن الجاحظ قال : كان أصحاب المأمون يزعمون أن لون وجهه وجسده لون واحد ، سوى
سياقية فإنهما صفراوان كأنهما طليتا بالزعفران .
و أخرج عن إسحاق الموصلي قال : قال المأمون : ألذ الغناء ما طرب له السامع ، خطأ
كان أو صواباً .
و أخرج عن علي بن الحسين قال : كان محمد بن حامد واقفاً على رأس المأمون و هو يشرب
، فاندفعت عريب ، فغنت الشعر النابغة الجعدي :
كحاشية البرد اليماني المسهم
فأنكر المأمون أن لا يكون ابتدأت بشيء ، فأمسك القوم ، فقال : نفيت من الرشيد ، لئن
لم أصدق عن هذا لأقرن بالضرب الوجيع عليه ، ثم لأعاقبن عليه أشد العقوبة ، و لئن
صدقت لأبلغن الصادق أمله ، فقال محمد بن حامد : أنا يا سيدي أو مأت إليها بقبلة ،
فقال : الآن جاء الحق ، صدقت ، أتحب أن أزواجك بها ؟ قال : نعم ، فقال المأمون :
الحمد لله العالمين ، و صلى الله على سيدنا محمد و آله الطيبين لقد زوجت محمد بن
حامد عريب مولاتي ، و مهرتها عنه أربعمائة درهم على بركة الله و سنة نبيه صلى الله
عليه و سلم ، خذ بيدها ، فقامت معه ، فصار المعتصم إلى الدهليز ، فقال له : الدلالة
، قال : لك ذاك ، قال : دلالتي أن تغنيني الليلة ، فلم تزل تغنيه إلى السحر و ابن
حامد على الباب ، ثم خرجت ، فأخذت بيده ، و مضت عليه .
و أخرج عن ابن أبي دؤاد قال : أهدي ملك الروم إلى المأمون هدية ، فيها مائتا رطل
مسك و مائتا جلد سمور ، فقال : أضعفوها له ليعلم عز الإسلام .
و أخرج عن إبراهيم بن الحسن قال : قال المدائني
للمأمون : إن معاوية قال : بنو هاشم أسود و أحداء و نحن أكثر سيداً ، فقال المأمون
: إنه قد أقر و ادعى ، فهو في ادعائه خصم ، و في إقراره مخصوم .
و أخرج عن أبي أمامة قال : حدثني بعض أصحابنا أن أحمد بن أبي خالد قرأ القصص يوماً
على المأمون ، فقال : فلان الثريدي ـ و هو اليزيدي ـ فضحك المأمون ، و قال : يا
غلام هات طعاماً لأبي العباس فإنه أصبح جائعاً ، فاستحيى ، و قال : ما أنا بجائع ،
و لكن صاحب القصة أحمق نقط الياء بنقط الثاء ، فقال : على ذلك ، فجاءه بطعام ، فأكل
حتى انتهى ، ثم عاد فمر في قصة [ فلان الحمصي ] فقال : الخبيصي ، فضحك المأمون ، و
قال : يا غلام جامة فيها خبيص ، فقال : إن صاحب القصة كان أحمق ، فتح اليم فصارت
كأنها سنتان فضحك ، و قال : لولا حمقها لبقيت جائعاً .
و أخرج عن أبي عباد قال : ما أظن الله خلق نفساً هي أنبل من نفس المأمون و لا أكرم
.
و كان قد عرف شره أحمد بن أبي علي خالد ، فكان إذا وجهه في حاجة غداة قبل أن يرسله
.
و رفع إليه في القصة : إن رأى أمير المؤمنين أن يجري على ابن خالد نزلاً فإنه يعين
الظالم بأكله ، فأجرى عليه المأمون ألف درهم كل يوم لمائدته .
و كان مع هذا يشره إلى طعام الناس ، فقال دعبل الشاعر :
شكرنا الخليفة إجراءه على ابن أبي خالد نزله
فكف أذاه عن المسلمين و صير في بيته شغله
و أخرج عن ابن أبي دؤاد قال : سمعت المأمون يقول لرجل : إنما هو غدر أو يمن قد
وهبتهما لك ، و لا تزال تسيء ، و تذنب و أغفر ، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك .
و أخرج عن الجاحظ قال : قال ثمامة بن أشرس : ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى
البرمكي ، و المأمون .
و أخرج السفلي في الطيوريات عن حفص المدائني قال : أتى
المأمون بأسود قد ادعى النبوة و قال : أنا موسى بن عمران ، فقال له المأمون : إن
موسى بن عمران أخرج يده من جيبه بيضاء ، أخرج يدك بيضاء حتى أومن بك ، فقال الأسود
: إنما جعل ذلك لموسى لما قال له فرعون : أنا ربكم الأعلى ، فقل أنت كما قال فرعون
حتى أخرج يدي بيضاء و إلا لم تبيض .
و أخرج أيضاً أن المأمون قال : ما انفتق علي فتق إلا وجدت سببه جور العمال .
و أخرج ابن عساكر عن يحيى بن أكثم قال : كان المأمون
يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء ، فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها ، و نعله في
يده ، فوقف على طرف البساط و قال : السلام عليكم ، فرد عليه المأمون ، فقال أخبرني
عن هذا المجلس الذي أنت فيه ، جلسته باجتماع الأمة أم بالمغالبة و القهر ؟ قال : لا
بهذا و لا بهذا ، بل يتولى أمر المسلمين من عقد لي و لأخي ، فلما صار الأمر إلي
علمت أني محتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في المشرق و المغرب على الرضا بي ، رأيت
متى خليت الأمر اضرب حبل الإسلام ، و مرج أمرهم ، و تنازعوا ، و بطل الجهاد و الحج
، و انقطعت السبل فقمت حياطةً للمسلمين إلى أن يجتمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه
الأمر ، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر ، فقال : السلام عليكم و رحمة الله و
بركاته ، و ذهب .
و أخرج عن محمد بن المنذر الكندي قال : حج الرشيد ، فدخل الكوفة ، فطلب المحدثين ،
فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس ، و عيسى بن يونس ، فبعث إليهما الأمين و المأمون
، فحدثهما ابن إدريس بمائة حديث ، فقال المأمون : يا عم أتأذن لي أن أعيدها من حفظي
؟ قال : افعل ، فأعادها ، فعجب من حفظه .
و قال بعضهم : استخرج المأمون كتب الفلاسفة و اليونان من جزيرة قبرس ، هكذا ذكره
الذهبي مختصراً .
و قال الفاكهي : أول من كسا الكعبة الديباج الأبيض
المأمون ، و استمر ذلك بعده إلى أيام الخليفة الناصر ، إلا أن محمود بن سبكتكين
كساها في خلال هذه المدة دبياجاً أصفر .
و من كلام المأمون : لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال .
و قال : أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يدبر و إذا أدبر أن يقبل .
و قال : أحسن المجالس ما نظر فيه إلى الناس .
و قال : الناس ثلاثة مثل الغذاء لابد منه على كل حال ، و منهم كالدواء يحتاج إليه
في حال المرض ، و منهم كالداء مكروه على حال .
و قال : ما أعياني جواب أحد مثل ما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة ، قدمه أهله فشكا
عاملهم ، فقلت : كذبت ، بل هو رجل عادل ، فقال : صدق أمير المؤمنين و كذبت أنا قد
خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد [ خذه ] و استعمله على بلد آخر يشملهم من
عدله و إنصافه مثل الذي شملنا ، فقلت : قم في غير حفظ الله ، و عزلته عنكم .
و من شعر المأمون :
لساني كتوم لأسراركم و دمعي نموم لسري مذيع
فلولا دموعي كتمت الهوى و لولا الهوى لم يكن لي دموع
و له في الشطرنج :
أرض مربعة حمراء من أدم ما بين إلفين معروفين بالكرم
تذاكر الحرب فاحتلا لها حيلاً من غير أن يأثما فيها بسفك
دم
هذا يغير على هذا ، و ذاك على هذا بغير ، و عين الحزم لم تنم
فانظر إلى فطن جالت بمعرفة في عسكرين بلا طبل و لا علم
و أخرج الصولي عن محمد بن عمرو ، قال : دخل أصرم بن
حميد على المأمون ـ و عنده المعتصم ـ فقال : يا أصرم ، صفني و أخي ، و لا تفضل
واحداً منا على صاحبه ، فأنشد بعد قليل :
رأيت سفينة تجري ببحر إلى بحرين دونها البحور
إلى ملكين ضوؤهما جميعاً سواء ، حار دونها البصير
كلا الملكين يشبه ذاك هذا و ذا هذا ، و ذاك و ذا أمير
فإن يك ذاك ذا و ذاك هذا فلي في ذا و ذاك معاً سرور
رواق المجد ممدود على ذا و هذا وجهه بدر منير
ذكر أحاديث من رواية
المأمون
قال البيهقي : سمعت الإمام أبا عبد الله الحاكم قال :
سمعت أبا أحمد الصيرفي ، سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول : صليت العصر في
الرصافة خلف المأمون في المقصورة يوم عرفة ، فلما سلم كبر الناس ، فرأيت المأمون
خلف الدرابزين و هو يقول : لا يا غوغاء لا يا غوغاء غداً سنة أبي القاسم صلى الله
عليه و سلم ، فلما كان يوم الأضحى حضرت إلى الصلاة فصعد المنبر ، فحمد الله و أثنى
عليه ، ثم قال : الله أكبر كبيراً و الحمد لله كثيراً و سبحان الله بكرة و أصيلاً ،
حدثنا هشيم بن بشير ، حدثنا ابن شبرمة عن الشعبي عن البراء بن
عازب عن أبي بردة بن دينار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من ذبح قبل
أن يصلي فإنما هو لحم قدمه ، و من ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة الله أكبر
كبيراً و الحمد لله كثيراً و سبحان الله بكرة و أصيلاً اللهم أصلحني و استصلحني ، و
أصلح على يدي .
قال الحاكم : هذا حديث لم نكتبه إلا عن أبي أحمد ، و
هو عندنا ثقة المأمون ، و لم يزل في القلب منه شيء حتى ذاكرت به أبا الحسن
الدارقطني فقال : هذه الرواية عندنا صحيحة عن جعفر ، فقلت : هل من متابع به لشيخنا
أبي أحمد ؟ فقال : نعم ، ثم قال : حدثني الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات ، حدثني
أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الروزباذي ، حدثنا محمد بن عبد الملك التاريخي ـ قال
الدارقطني : و ما فيهم إلا ثقة مأمون ـ حدثنا جعفر
الطيالسي ، حدثنا يحيى بن معين قال : سمعت المأمون ، فذكر الخطبة و الحديث . و قال
الصولي : حدثنا جعفر الطيالسي ، حدثنا يحيى بن معين ،
قال : خطبنا المأمون ببغداد يوم الجمعة ، و وافق يوم عرفة ، فلما سلم كبر الناس ،
فأنكر التكبير ، ثم وثب حتى نأخذ بخشب المقصورة و قال : يا غوغاء ، ما هذا التكبير
في غير أيامه ؟ حدثنا هشيم ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، أن الرسول الله
صلى الله عليه و سلم ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، و التكبير في غد ظهراً عند
انقضاء التلبية إن شاء الله تعالى .
و قال الصولي حدثنا أبو القاسم
البغوي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي ، قال كنا عند المأمون ، فقام إليه رجل
فقال : يا أمير المؤمنين ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الخلق عيال الله ،
فأحب عباد الله إلى الله عز و جل أنفعهم لعياله فصاح المأمون : و قال : اسكت
، أنا أعلم بالحديث منك ، حدثنيه يوسف بن عطية الصفار عن ثابت ،
عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الخلق عيال الله فأحب عباد الله أنفعهم
لعياله أخرجه من هذا الطريق ابن عساكر و أخرجه
أبو يعلى الموصلي في مسنده و غير من طرق عن يوسف بن
عطية .
و قال الصولي : حدثنا المسيح بن حاتم العكلي ، حدثنا
عبد الجبار بن عبد الله ، قال سمعت المأمون يخطب ، فذكر في خطبته الحياء فوصفه و
مدحه ، ثم قال : حدثنا هشيم ،عن منصور ، عن الحسن ، عن أبي بكرة
و عمران بن حصين قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحياء من الإيمان ، و
الإيمان في الجنة ، و البذاء من الجفاء و الجفاء في النار أخرجه
ابن عساكر من طريق يحيى بن أكثم عن المأمون .
و قال الحاكم : حدثنا الحسين بن
تميم ، حدثنا الحسين بن فهم ، حدثنا يحيى بن أكثم القاضي ، قال : قال لي المأمون
يوماً : يا يحيى إني أريد أن أحدث ، فقلت : و من أولى بهذا من أمير المؤمنين ؟ فقال
: ضعوا لي منبراً ، فصعد و حدث ، فأول حديث حدثنا به : عن هشيم ، عن أبي الجهم ، عن
الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : امرؤ
القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ، ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثاً ثم نزل ،
فقال لي : يا يحيى ، كيف رأيت مجلسنا ؟ قلت أجل مجلس يا أمير المؤمنين ، تفقه
الخاصة و العامة ، فقال : لا و حياتك ما رأيت لكم حلاوة ، و إنما المجلس لأصحاب
الخلقان و المحابر .
و قال الخطيب : حدثنا أبو الحسن علي بن القاسم الشاهد
، حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن عثمان ، حدثنا الحسين بن عبيد الله الأبزاري ،
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : لما فتح المأمون مصر قال له قائل : الحمد
لله يا أمير المؤمنين الذي كفاك أمر عدوك ، و أدان لك العراقين و الشامات و مصر ، و
أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقلت له : ويحك ! إلا أنه بقيت لي خلة
، و هو أن أجلس في مجلس و يستملي يحيى فيقول لي : من ذكرت رضي الله عنك ؟ فأقول :
حدثنا الحمادان حماد بن سلمة و حماد بن زيد قالا : حدثنا ثابت
البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من عال ابنتين أو
ثلاثاً أو أختين أو ثلاثاً حتى يمتن أو يموت عنهن ، كان معي كهاتين في الجنة
و أشار بالمسبحة و الوسطى .
قال الخطيب : في هذا الخبر غلط فاحش ، و يشبه أن يكون
المأمون رواه عن رجل عن الحمادين ، و ذلك أن مولد المأمون سنة سبعين ، ومات حماد بن
سلمة في سنة سبع و ستين قبل مولده بثلاث سنين ، و أما حماد بن زيد فمات في تسع و
سبعين .
و قال الحاكم حدثنا بن يعقوب بن إسماعيل الحافظ ،
حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي ، حدثنا محمد بن سهل بن عسكر ، قال : وقف المأمون يوماً
للأذان و نحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه رجل غريب بيده محبرة ، فقال : يا أمير
المؤمنين ، صاحب حديث منقطع به ، فقال له المأمون : إيش تحفظ في باب كذا ؟ فلم يذكر
فيه شيئاً ، فما زال المأمون يقول : حدثنا هشيم ، و حدثنا حجاج ، و حدثنا فلان ،
حتى ذكر الباب ثم سأله عن باب ثان ، فلم يذكر فيه شيئاً ، فذكره المأمون ، ثم نظر
إلى أصحابه فقال : يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول : أنا من أصحاب الحديث ،
أعطوه ثلاث دراهم .
و قال ابن عساكر : حدثنا محمد بن إبراهيم الغزي ،
حدثنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن السري التفليسي ، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي ،
أخبرني عبيد الله بن محمد الزاهد العكبري ، حدثنا عبد الله بن محمد بن مسيح ، حدثنا
محمد بن المغلس ، حدثنا محمد بن السري القنطري ، حدثنا علي بن عبد الله ، قال : قال
يحيى بن أكثم : بت ليلة عند المأمون ، فانتبهت في جوف الليل و أنا عطشان فتقلبت ،
فقال : يا يحيى ما شأنك ؟ قلت : عطشان ، فوثب من مرقده فجاءني بكوز من ماء ، فقلت :
يا أمير المؤمنين ألا دعوت بخادم ألا دعوت بغلام ؟ قال : لا ،
حدثني أبي عن أبيه عن جده ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم سيد القوم خادمهم . و قال الخطيب :
حدثنا الحسن بن الحسن بن عثمان الواعظ ، حدثنا جعفر بن محمد بن
الحاكم الواسطي ، حدثني أحمد بن الحسن الكسائي ، حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني ،
حدثني يحيى بن أكثم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : حدثني الرشيد ، حدثني المهدي ،
حدثني المنصور عن أبيه عن عكرمة ، عن ابن عباس ، حدثني جرير بن عبد الله سمعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يقول : سيد القوم خادمهم .
و قال ابن عساكر : حدثنا أبو الحسن
علي بن أحمد ، حدثنا القاضي أبو المظفر هناد بن إبراهيم النسفي ، حدثنا محمد بن
أحمد بن محمد بن سليمان الغنجار ، حدثنا أبو أحمد علي بن محمد بن عبد الله المروزي
، حدثنا أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب ، حدثني محمد بن
قدامة بن إسماعيل صاحب النضر بن شميل ، حدثنا أبو حذيفة البخاري ، قال : سمعت
المأمون أمير المؤمنين يحدث عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و
سلم : قال : مولى القوم منهم قال محمد بن قدامة : فبلغ المأمون أن أبا حذيفة
حدث بهذا عنه ، فأمر له بعشرة آلاف درهم . و في أيام المأمون أحصيت أولاد العباس ،
فبلغوا ثلاثة و ثلاثين ألفاً ، ما بين ذكر و أنثى ، و ذلك في سنة مائتين .
و في أيامه مات من الأعلام : سفيان بن عيينة ، و الإمام الشافعي ، و عبد الرحمن بن
مهدي ، و يحيى بن سعيد القطان ، و يونس بن بكير ـ راوي المغازي ـ ، و أبو مطيع
البلخي صاحب أبي حنيفة رحمه الله ، و معروف الكرخي الزاهد ، و إسحاق بن بشر صاحب
كتاب المبتدأ ، و إسحاق بن الفرات ـ قاضي مصر ـ من أجلة أصحاب مالك ، و أبو عمرو
الشيباني اللغوي ، و أشهب صاحب مالك ، و الحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة ، و
حماد بن أسامة الحافظ ، و روح بن عبادة ، و زيد بن الحباب ، أبو داود الطيالسي ، و
الغازي بن قيس من أصحاب مالك ، و أبو سليمان الداراني الزاهد المشهور ، و علي الرضى
بن موسى الكاظم ، و الفراء إمام العربية ، و قتيبة بن مهران صاحب الإمالة ، و قطرب
النحوي ، و الواقدي و أبو عبيدة معمر بن المثنى ، و النضر بن شميل ، و السيدة نفيسة
، و هشام أحد النحاة الكوفيين ، و اليزيدي ، و يزيد بن هارون ، و يعقوب بن إسحاق
الحضرمي قارىء البصرة ، وعبد الرزاق ، و أبو العتاهية الشاعر ، و أسد السنة ، و أبو
عاصم النبيل ، و الفريابي ، و عبد الملك بن الماجشون ، و عبد الله بن الحكم ، و أبو
زيد الأنصاري صاحب العربية ، و الأصمعي ، و خلائق آخرون .
|