|
|
القاهر بالله محمد بن
المعتضد 319هـ ـ 322هـ
القاهر بالله : أبو منصور محمد بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل .
أمه أم ولد اسمها فتنة ، لما قتل المقتدر أحضر هو و محمد بن المكتفي ، فسألوا ابن
المكتفي أن يتولى ، فقال : لا حاجة لي في ذلك ، و عمي هذا أحق به فكلم القاهر ،
فأجاب : فبويع ، و لقب [ القاهر بالله ] كما لقب به في سنة سبع عشرة ، فأول ما فعل
أن صادر آل المقتدر ، و عذبهم ، و ضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب .
و في سنة إحدى و عشرين شغب عليه الجند ، و اتفق مؤنس و ابن مقلة و آخرون على خلعه
بابن المكتفي ، فتحيل القاهر عليهم إلى أن أمسكهم و ذبحهم و طين على ابن المكتفي
بين حيطتين .
و أما ابن مقلة فاختفى ، فأحرقت داره ، و نهبت دور المخالفين ، ثم أطلق أرزاق الجند
فسكنوا ، و استقام الأمر للقاهر ، و عظم في القلوب ، و زيد في ألقابه [ المنتقم من
أعداء دين الله ] و نقش ذلك على السكة .
و في هذه السنة أمر بتحريم القيان و الخمر ، و قبض على المغنين ، و نفى المخانبث ،
و كسر آلات اللهو ، و أمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سواذج ، و كان مع ذلك
و لا يصحو من السكر ، و لا يفتر عن سماع الغناء .
و في سنة اثنتين و عشرين ظهرت الديلم ، و ذلك لأن أصحاب مرداويج دخلوا أصبهان ، و
كان من قواده علي بن بوية ، فاقتطع مالاً جليلاً ، فانفرد عن مخدومه ، ثم التقى هو
و محمد بن ياقوت نائب الخليفة ، فهزم محمد ، و استولى ابن بويه على فارس ، و كان
بويه فقيراً صعلوكاً يصيد السمك ، رأى كأنه بال فخرج من ذكره عمود نار ، ثم تشعب
العمود حتى ملأ الدنيا ، فعبرت بأن أولاده يملكون الدنيا ، و يبلغ سلطانهم على قدر
ما احتوت عليه النار ، فمضت السنون ، و آل الأمر على هذا إلى أن صار قائداً
لمرداويج ابن زياد الديلمي ، فأرسله يستخرج له مالاً من الكرخ فاستخرج خمسمائة ألف
درهم ، و أتى همذان ليملكها ، فغلق أهلها في وجهه الأبواب ، فقاتلهم و فتحها عنوة ،
و قيل صلحاً ، ثم صار سيراز .
ثم إنه قل ما عنده من المال ، فنام على ظهره ، فخرجت حية من سقف المجلس ، فأمر
بنقضه ، فخرجت صناديق ملأى ذهباً ، فأنفقها في جنده .
و طلب خياطاً يخيط له شيئاً ـ و كان أطروشاً فظن أنه قد سعى به ، فقال : و الله ما
عندي سوى اثني عشر صندوقاً ، و لا أعلم ما فيها ، فأحضرت ، فوجد فيها مالاً عظيماً
.
و ركب يوماً ، فساخت قوائم فرسه ، فحفروه ، فوجدوا فيه كنزاً .
و استولى على البلاد ، و خرجت خراسان و فارس عن حكم الخلافة .
و في هذه السنة قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي قد أشار بخلافة القاهر ،
ألقاه على رأسه في بئر و طمت . و ذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية ، و
اشتراها ، فحقد عليه .
و فيها تحرك الجند عليه أن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه ، و يقول لهم : إنه
بنى لكم المطامير ليحبسكم ، و غير ذلك ، فأجمعوا على الفتك به ، فدخلوا عليه
بالسيوف ، فهرب ، فأدركوه و قبضوا عليه في سادس جمادى الآخرة ، و بايعوا أبا العباس
محمد بن المقتدر و لقبوه [ الراضي بالله ] ثم أرسلوا إلى القاهر الوزير و القضاة
أبو الحسن ابن القاضي أبي عمر والحسن بن عبد الله بن أبي الشوارب و أبا طالب بن
البهلول ، فجاؤوه ، فقيل له : ما تقول ؟ قال : أنا أبو منصور محمد بن المعتضد ، لي
في أعناقهم بيعة و في أعناق الناس ، و لست أبرئكم ، و لا أحللكم منها ، فقوموا ،
فقاموا ، فقال الوزير : يخلع و لا يخلع و لا نفكر فيه ، أفعاله مشهورة ، و قال
القاضي أبو الحسين : فدخلت على الراضي و أعدت عليه ما جرى ، و أعلمته أني أرى
إمامته فرضاً ، فقال : انصرف و دعني و إياه ، فأشار سيماء مقدم الحجرية على الراضي
بسمله ، فكحله بمسمار محمى .
قال محمود الأصبهاني : كان سبب خلع القاهر سوء سيرته ، و سفكه الدماء ، فامتنع من
الخلع ، فسلموا عينيه حتى سالتا على خديه .
و قال الصولي : كان أهوج ، سفاكاً للدماء ، قبيح
السيرة ، كثير التلون و الاستحالة ، مدمن الخمر ، و لولا جودة حاجبه سلامة لأهلك
الحرث و النسل .
و كان قد صنع حربة يحميها ، فلا يطرحها حتى يقتل بها إنساناً .
قال علي بن محمد الخراساني : أحضرني القاهر يوماً و الحرية بين يديه ، فقال : أسألك
عن خلفاء بني العباس ، عن أخلاقهم و شيمهم . قلت : أما السفاح : فكان مسارعاً إلى
سفك الدماء ، و أتبعه عماله على مثل ذلك ، و كان مع ذلك سمحاً وصولاً بالمال ، قال
: فالمنصور ؟ قلت : كان أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس و ولد أبي طالب ، و
كانوا قبلها متفقين ، و هو أول خليفة قرب المنجمين ، و أول خليفة ترجمت له المتب
السريانية و الأعجمية ، كـ [ كتاب كليلة و دمنة ] ، و [ كتاب إقليدس ] ، و كتب
اليونان ، فنظر الناس فيها و تعلقوا بها . فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي
و السير ، و المنصور أول من استعمل مواليه و قدمهم على العرب ، قال : فالمهدي ؟ قلت
: كان جواداً عادلاً منصفاً . رد ما أخذ أبوه من الناس غصباً ، و بالغ في إتلاف
الزنادقة ، و بنى المسجد الحرام ، و مسجد المدينة ، و المسجد الأقصى ، قال :
فالهادي ؟ قلت : كان جباراً متكبراً ، فسلك عماله طريقه على قصر أيامه ، قال :
فالرشيد ؟ قلت : كان مواظباً على الغزو و الحج ، و عمر القصور و البرك بطريق مكة ،
و بنى الثغور كأذنه و طرطوس و المصيعته و مرعش ، و عم الناس إحسانه ، و كان في
أيامه البرامكة ، و ما اشتهر من كرمهم . و هو أول خليفة لعب بالصوالجة ، و رمي
النشاب في البرجاس ، و لعب الشطرنج من بني العباس ، قال : فالأمين ؟ قلت : كان
جواداً ، إلا أنه أنهمك في لذاته ، ففسدت الأمور ، قال : المأمون ؟ قلت : غلب عليه
النجوم و الفلسفة ، و كان حليماً جواداً ، قال : فالمعتصم ؟ قلت : سلك طريقه ، و
غلب عليه حب الفروسية و التشبه بملوك الأعاجم ، و اشتغل بالغزو و الفتوح ، قال :
فالواثق ؟ قلت : سلك طريقة أبيه ، قال : فالمتوكل ؟ قلت : خالف ما كان عليه المأمون
و الواثق من الاعتقادات ، و نهى عن الجدال ، و المناظرات ، و الأهواء ، و عاقب
عليها ، و أمر بقراءة الحديث و سماعه ، و نهى عن القول بخلق القرآن ، فأحبه الناس ،
ثم سأل عن باقي الخلفاء ؟ و أنا أجيبه بما فيهم ، فقال لي : سمعت كلامك ، و كأني
أشاهد القوم ، ثم قام .
و قال المسعودي : أخذ القاهر من مؤنس و أصحابه مالاً
عظيماً ، فلما خلع و سمل طولب بها فأنكر ، فعذب بأنواع العذاب ، فلم يقر بشيء ،
فأخذه الراضي بالله ، فقربه و أدناه ، و قال له : قد ترى مطالبة الجند بالمال ، و
ليس عندي شيء ، و الذي عندك فليس بنافع لك ، فاعترف به ، فقال : أما إذا فعلت هذا
فالمال مدفون في البستان . و كان قد أنشأ بستاناً فيه أصناف الشجر ، حملت إليه من
البلاد ، و زخرفه ، و عمل فيه قصراً ، و كان الراضي مغرماً بالبستان و القصر . فقال
: و في أي مكان المال منه ؟ فقال : أنا مكفوف ، لا أهتدي إلى مكان فاحفر البستان
تجده ؟ فحفر الراضي البستان و أساسات القصر ، و قلع الشجر ، فلم يجد شيئاً ، فقال
له : و أين المال ؟ فقال : و هل عندي مال ؟ و إنما كان حسرتي في جلوسك في البستان و
تنعمك ، فأردت أن أفجعك فيه ، فندم الراضي و حبسه ، فأقام إلى سنة ثلاث و ثلاثين ،
ثم أطلقوه و أهملوه ، فوقف يوماً بجامع المنصور بين الصفوف و عليه مبطنه بيضاء ، و
قال : تصدقوا علي ، فأنا من عرفتم ، و ذلك في أيام المستكفي ليشنع عليه ، فمنع من
الخروج إلى أن مات سنة تسع و ثلاثين في جمادى الأولى عن ثلاث و خمسين سنة .
و كان له من الولد : عبد الصمد ، أبو القاسم ، و أبو الفضل ، و عبد العزيز .
و مات في أيامه من الأعلام : الطحاوي شيخ الحنفية ، و ابن دريد ، و أبو هاشم
الجبائي ، و آخرون . |
|
|