|
|
المسترشد بالله الفضل
بن المستظهر بالله 512 هـ ـ 529 هـ
المسترشد بالله : أبو المنصور الفضل بن المستظهر بالله ، ولد في ربيع الأول سنة خمس
و ثمانين و أربعمائة و أمه أم ولد ، و بويع بالخلافة عند موت أبيه في ربيع الآخر
سنة اثنتي عشرة و خمسمائة ، و كان ذا همة عالية ، و شهامة زائدة ، و إقدام و رأي ،
و هيبة شديدة ، ضبط أمور الخلافة و رتبها أحسن ترتيب ، و أحيا رسم الخلافة و نشر
عظامها ، و شيد أركان الشريعة و طرز أكمامها ، و باشر الحروب بنفسه ، و خرج عدة نوب
إلى الحلة و الموصل طريق خراسان إلى أن خرج النوبة الأخيرة و كسر جيشه بقرب همذان و
أخذ أسيراً إلى أذربيجان ، و قد سمع الحديث من أبي القاسم بن بيان ، و عبد الوهاب
بن هبة الله السبتي ، و روى عنه محمد بن عمر بن مكي الأهوازي ، و وزيره علي بن طراد
، و إسماعيل بن طاهر الموصلي ذكر ذلك ابن السمعاني و ذكره ابن الصلاح في الطبقات
الشافعية . و ناهيك بذلك فقال هو الذي صنف له أبو بكر الشاشي كتابه العمدة في الفقه
، و بلقبه اشتهر الكتاب ، فإنه كان حينئذ يلقب عمدة الدنيا و الدين ، و ذكره ابن
السبكي في الطبقات الشافعية و قال : كان في أول أمره تنسك ، و لبس الصوف ، و انفرد
في بيت للعبادة ، و كان مولده في يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان سنة ست و ثمانين و
أربعمائة و خطب له أبوه بولاية العهد و نقش اسمه على السكة في شهر ربيع الأول سنة
ثمان و ثمانين ، و كان مليح الخط و ما كتب أحد من الخلفاء قبله مثله ، يستدرك على
كتابه و يصلح أغاليط في كتبهم ، و أما شهامته و هيبته و سجاعته و إقدامه فأمر أشهر
من الشمس ، و لم تزل أيامه مكدرة بكثرة التشويش و المخالفين ، و كان يخرج بنفسه
لدفع ذلك إلى أن خرج الخرجة الأخيرة إلى العراق و انكسر و أخذ و رزق الشهادة .
و قال الذهبي : مات السلطان محمود بن محمد ملشكاه سنة
خمس و عشرين فأقيم ابنه داود مكانه ، فخرج عليه عمه مسعود بن محمد ، فاقتتلا ثم
اصطلحا على الاشتراك بينهما ، و لكل مملكة ، و خطب لمسعود بالسلطنة ببغداد و من
بعده لداود و خلع عليهم ثم وقعت الوحشة بين الخليفة و مسعود لقتاله ، فالتقى
الجمعان ، و غدر بالخليفة أكثر عسكره ، فظفر به مسعود ، و أسر الخليفة و خواصه ،
فحبسهم بقلعة بقرب همذان ، فبلغ أهل بغداد ذلك ، فحثوا في الأسواق التراب على
رؤوسهم ، و بكوا و ضجوا و خرج النساء حاسرات يندبن الخليفة ، و منعوا الصلوات و
الخطبة .
قال ابن الجوزي : و زلزلت بغداد مراراً كثيرة و دامت
كل يوم خمس مرات أو ستاً و الناس يستغيثون ، فأرسل السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود
يقول : ساعة وقوف الولد غياث الدنيا و الدين على هذا المكتوب يدخل على أمير
المؤمنين ، و يقبل الأرض بين يديه ، ويسأله العفو و الصفح ، و يتنصل غاية التنصل ،
فقد ظهر عندنا من الآيات السماوية و الأرضية مالا طاقة لنا بسماع مثلها ، فضلاً عن
مشاهدة : من العواصف ، و البروق و الزلازل ، و دام ذلك عشرين يوماً ، و تشويش
العساكر ، و انقلاب البللدان . و لقد خفت على نفسي من جانب الله ، و ظهور آياته ، و
امتناع الناس من الصلاة في الجوامع ، و منع الخطباء ما لا طاقة لي بحمله ، فالله
الله تتلافى أمرك ، و تعيد أمير المؤمنين إلى مقر عزه ، و تحمل الغاشية بين يديه
كما جرت عادتنا و عادة آبائنا ، ففعل مسعود جميع ما أمره به ، و قبل الأرض بين يدي
الخليفة ، و وقف يسأل العفو .
ثم أرسل سنجر رسولاً آخر و معه عسكر يستحث مسعوداً على إعادة الخليفة إلى مقر عزه ،
فجاء في العسكر سبعة عشر من الباطنية ، فذكر أن مسعوداً ما علم بهم ، و قيل : بل
علم بهم ، و قيل : بل هو الذي دستهم ، فهجموا على الخليفة في خيمته ، ففتكوا به ، و
قتلوا معه جماعة من أصحابه ، فما شعر بهم العسكر إلا و قد فرغوا من شغلهم ، فأخذوهم
و قتلوهم إلى لعنة الله . و جلس السلطان للعزاء ، و أظهر المساءة بذلك ، و وقع
النحيب و البكاء ، و جاء الخبر إلى بغداد ، فاشتد ذلك على الناس ، و خرجوا حفاة
مخرقين الثياب ، و النساء ناشرات الشعور يلطمن و يقلن المراثي ، لأن المسترشد كان
محبباً فيهم ببره ، و لما فيه من الشجاعة و العدل و الرفق بهم . و كان قتل المسترشد
رحمه الله بمراغة يوم الخميس سادس عشر ذي لبقعدة سنة تسع و عشرين .
و من شعره :
أنا الأشقر المدعو بي الملاحم و من يملك الدنيا بغير
مزاحم
ستبلغ أرض الروم خيلي ، و تنتضى بأقصى بلاد الصين صوارمي
و من شعره لما أسر :
و لا عجباً للأسد إن ظفرت بها كلاب الأعادي من فصيح و
أعجم
فحربة و خشي سقت حمزة الردى و موت علي من حسام ابن ملجم
و له لما كسر عليه بالهزيمة فلم يفعل وثبت حتى أسر :
قالوا : تقيم و قد أحا ط بك العدو و لا تفر
فأجابتهم : المء ما لم يتعظ بالوعظ غر
لا نلت خيراً ما حييـ ـت و لا عداني الدهر شر
إن كنت أعلم أن غيـ ـر الله ينفع أو يضر
قال الذهبي : و قد خطب بالناس يوم عيد أضحى ، فقال :
الله أكبر ما سبحت الأنواء ، و أشرق الضياء ، و طلعت ذكاء ، و علت على الأرض السماء
، الله أكبر ما همى سحاب ، و لمع سراب ، و أنجح طلاب ، و سر قادماً إياب ـ و ذكر
خطبة بليغة ـ ثم جلس ، ثم قام فخطب ، و قال : اللهم أصلحني في ذريتي ، و أعني على
ما وليتني ، و أوزعني شكر نعمتك ، و وقفني و انصرني ، فلما أنهاها و و تهيأ للنزول
بدره أبو المظفر الهاشمي ، فأنشده :
عليك سلام يا خير من علا على منبر قد حف أعلامه النصر
و أفضل من أم الأنام و عمهم بسيرته الحسنى جده من أجله
نزل القطر
و أفضل أهل الأرض شرقاً و مغرباً و من جده من أجله نزل القطر
لقد شنفت أسماعنا منك خطبة و موعظة فصل يلين لها الصخر
ملأت بها كل القلوب مهابة فقد رجفت من خوف تخويفها مصر
و زدت بها عدنان مجداً مؤثلاً فأضحى بها بين الأنام لك
الفخر
وسدت بني العباس حتى لقد غدا يباهي بك السجاد و العلم البحر
فلله عصر أنت فيه إمامنا و لله دين أنت فيه لنا الصدر
بقيت على الأيام و الملك كلما تقدم عصر أنت فيه أتى عصر
و أصبحت بالعيد السعيد مهنأ تشريفنا فيه صلاتك و النحر
و قال وزيره جلال الدين الحسن بن علي بن صدقه يمدحه :
و جدت الورى كالماء طعماً ورقة و أن أمير المؤمنين زلالة
و صورت معنى العقل شخخصاً مصوراً و أن أمير المؤمنين مثاله
و لولا مكان الدين و الشرع و التقى لقلت من الإعظام جل و
جلاله
و في سنة أربع و عشرين من أيامه ارتفع سحاب أمطر بلد الموصل ناراً أحرقت من البلد
مواضع و دوراً كثيرة .
و فيها قتل صاحب مصر الآمر بأحكام الله منصور من غير عقب ، و قام بعده ابن عمه
الحافظ عبد المجيد بن محمد بن المنتصر .
و فيها ظهر ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان ، و خاف الناس منها ، و قد قتلت جماعة
أطفال .
و ممن مات في أيام المسترشد من الأعلام : شمس الأئمة أبو
الفضل إمام الحنيفة ، و أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي ، و قاضي القضاة أبو الحسن
الدامغاني ، و ابن بليمة المقرئ ، و الطغراني صاحب لامية العجم ، و أبو علي الصدفي
الحافظ ، و أبو نصر القيشري ، و ابن القطاع اللغوي ، و محيي السنة البغوي ، و ابن
الفحام المقرئ ، و الحريري صاحب المقامات ، و الميداني صاحب الأمثال ، و أبو الوليد
بن رشد المالكي ، و الإمام أبو بكر الطرطوشي ، و أبو الحجاج السرقسطي ، و ابن السيد
البطليوسي ، و أبو علي الفارقي من الشاعفية ، و ابن الطراوة النحوي ، و ابن الباذش
، و ظافر الحداد الشاعر ، و عبد الغفار الفارسي ، و خلائق آخرون .
|
|
|