|
|
المقتفي لأمر الله محمد
بن المستظهر بالله 530 هـ ـ 555 هـ
المقتفي لأمر الله : أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله .
ولد في الثاني و العشرين من ربيع الأول سنة تسع و ثمانين و أربعمائة ، و أمه حبشية
، و بويع له بالخلافة عند خلع ابن أخيه و عمره أربعون سنة ، و سبب تلقيبه بالمقتفي
أنه رأى في منامه قبل أن يستخلف بستة أيام رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقول
له : سيصل هذا الأمر إليك فاقتف لأمر الله . فلقب المقتفي لأمر الله ، و بعث
السلطان مسعود بعد أن أظهر العدل و مهد بغداد ، فأخذ جميع ما في دار الخلافة من
دواب ، و أثاث ، و ذهب ، و ستور ، و سرادق ، و لم يترك في إصطبل الخلافة سوى أربعة
أفراس ، و ثمانية أبغال برسم الماء ، فيقال : إنهم بايعوا المقتفي على أن لا يكون
عنده خيل ، و لا آلة سفر .
ثم في سنة إحدى و ثلاثين أخذ السلطان مسعود جميع تعلق الخليفة ، و لم يترك له إلا
العقار الخاص ، و أرسل وزيره يطلب من الخليفة مائة ألف دينار ، فقال المقتفي : ما
رأينا أعجب من أمرك ! أنت تعلم أن المسترشد سار إليك بأمواله فجرى ما جرى ، و أن
الراشد ولي ففعل ما فعل ، و رحل و أخذ ما تبقى ، و لم يبق إلا الأثاث ، فأخذته كله
، و تصرفت في دار الضرب ، و أخذت التركات و الجوالي ، فمن أي وجه نقيم لك هذا المال
؟ و ما بقي إلا أن نخرج من الدار ، و نسلمها ، فإني عاهدت الله أن لا آخذ من
المسلمين حبة ظلماً ، فترك السلطان الأخذ من الخليفة ، و عاد إلى جباية الأملاك من
الناس ، و صادر التجار ، فلقي الناس من ذلك شدة ، ثم في جمادى الأولى أعيدت بلاد
الخليفة و معاملاته و التركات إليه .
و في هذه السنة رقب الهلال الثلاثين من شهر رمضان فلم ير ، فأصبح أهل بغداد صائمين
لتمام العدة ، فلما أمسوا رقبوا الهلال ، فما رأوه أيضاً ، و كانت السماء جلية
صاحية ، و مثل هذا لم يسمع بمثله في التواريخ .
و في سنة ثلاث و ثلاثين كان ببحترة زلزلة عظيمة عشرة فراسخ في مثلها ، فأهلكت خلائق
ثم خسف ببحترة ، و صار مكان البلد ماء أسود .
و فيها استولى المراء على مغلات البلاد ، و عجز السلطان مسعود ، و لم يبق له إلا
الاسم ، و تضعضع أيضاً أمر السلطان سنجر ، فسبحان مذل الجبابرة . و تمكن الخليفة
المقتفي ، و زادت حرمته ، و علت كلمته ، و كان ذلك مبدأ صلاح الدولة العباسية ،
فلله الحمد .
و في سنة إحدى و أربعين قدم السلطان مسعود بغداد ، و عمل دار ضرب ، فقبض الخليفة
على الضراب الذي تسبب في إقامة دار الضرب ، فقبض مسعود على حاجب الخليفة ، فغضب
الخليفة ، و غلق الجامع و المساجد ثلاثة أيام ، ثم أطلق الحاجب ، فأطلق الضراب و
سكن الأمر .
و فيها جلس ابن العبادي الواعظ ، فحضر السلطان مسعود ، و تعرض بذكر مكس البيع و ما
جرى على الناس ، ثم قال : يا سلطان العالم ، أنت تهب في ليلة لمطرب بقدر هذا الذي
يؤخذ من المسلمين ، فاحسبني ذلك المطرب ، وهبه لي ، و اجعله شكراً لله بما أنعم
عليك ، فأجاب ، و نودي في البلد بإسقاطه ، و طيف بالألواح التي نقش عليها ترك
المكوس ، و بين يديه الدباب ، و البوقات ، و سمرت ، و لم تزل إلى أن أمر الناصر
لدين الله بقلع الألواح ، و قال : ما لنا حاجة بآثار الأعاجم .
و في سنة ثلاث و أربعين حاصرت الفرنج دمشق ، فوصل إليها نور الدين محمود بن زنكي و
هو صاحب حلب يومئذ ، و أخوه غازي صاحب الموصل ، فنصر المسلمون و لله الحمد ، و هزم
الفرنج ، و استمر نور الدين في قتال الفرنج ، و أخذ ما استولوا عليه من بلاد
المسلمين .
و في سنة أربع و أربعين مات صاحب مصر الحافظ لدين الله ، و أقيم ابنه الظافر
إسماعيل .
و فيها جاءت زلزلة عظيمة ، و ماجت بغداد نحو عشر مرات . و تقطع منها جبل بحلوان .
و في سنة خمس و أربعين جاء باليمن مطر كله دم و صارت الأرض مرشوشة بالدم ، و بقي
أثره في ثياب الناس .
و في سنة سبع و أربعين مات السلطان مسعود .
قال ابن هبيرة و ـ هو وزير المقتفي ـ : لما تطاول على المقتفي أصحاب مسعود ، و
أساؤوا الأدب ، و لم يمكن المجاهرة بالمحاربة ، اتفق الرأي على الدعاء عليه شهراً
كما دعا النبي صلى الله عليه و سلم على رعل و ذكوان شهراً ، فابتدأ هو و الخليفة
سراً كل واحد في موضعه يدعو سحراً من ليلة تسع و عشرين من جمادى الأولى ، و استمر
الأمر كل ليلة ، فلما تكامل الشهر مات مسعود على سريره ، و لم يزد على الشهر يوماً
، و لا نقص يوماً .
و اتفق العسكر على سلطنة ملكشاه و قام بأمره خاصبك ثم أن خاصبك قبض على ملكشاه ، و
طلب أخاه محمداً من خوزستان فجاءه ، فسلم إليه السلطنة و أمر الخليفة حينئذ و نهى ،
و نفذت كلمته ، و عزل من كان السلطان ولاه مدرساً بالنظامية ، و بلغه أن في نواحي
واسط تخبطاً ، فسار بعسكره ، و مهد البلاد و دخل الحلة و الكوفة ، ثم عاد إلى بغداد
مؤيداً منصوراً ، وزينب بغداد .
و في سنة ثمان و أربعين خرجت الغز على السلطان سنجر ، و أسروه ، و أذاقوه الذل ، و
ملكوا بلاده ، و بقوا الخطبة باسمه ، و بقي معهم صورة بلا معنى ، و صار يبكي على
نفسه و له اسم السلطنة ، و راتبه في قدر راتب سائس من ساسته .
و في سنة تسع و أربعين قتل بمصر صاحبها الظافر بالله العبيدي ، و أقاموا ابنه
الفائز عيسى صبياً صغيراً و وهى أمر المصريين ، فكتب المقتفي عهداً لنور الدين
محمود بن زنكي ، و ولاه مصر ، و أمره بالمسير إليها و كان مشغولاً بحرب الفرنج و هو
يفتر من الجهاد ، و كان تملك دمشق في صفر من هذا العام ، و ملك عدة قلاع و حصون
بالسيف و بالأمان من بلاد الروم ، و عظمت ممالكه ، و بعد صيته ، فبعث إليه المكتفي
تقليداً ، و أمره بالمسير إلى مصر ، و لقبه [ بالملك العادل ] و عظم سلطان المقتفي
، و اشتدت شوكته ، و استظهر على المخالفين ، و أجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره
، و لم يزل أمره في تزايد و علوا إلى أن مات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس و
خمسين و خمسمائة .
قال الذهبي : كان المقتفي من سروات الخلفاء ، عالماً ،
أديباً ، شجاعاً ، حليماً ، دمث الأخلاق ، كامل السؤدد ، خليقاً للإمامة ، قليل
المثل في الأمة ، لا يجري في دولته أمر ـ و إن صغر ـ إلا بتوقيعه ، و كتب في خلافته
ثلاث ربعات ، و سمع الحديث من مؤدبه أبي البركات بن أبي الفرج بن السني .
قال ابن السمعاني : و سمع جزاء ابن عرفة مع أخيه
المسترشد من أبي القاسم بن بيان ، روى عنه أبو منصور الجواليقي اللغوي إمامه ، و
الوزير ابن هبيرة وزيره ، و غيرهما ، و قد جدد المقتفي باباً للكعبة ، و اتخذ من
العقيق تابوتاً لدفنه ، و كان محمود السيرة ، ، مشكور الدولة ، يرجع إلى الدين و
عقل و فضل و رأي و سياسة ، جدد معالم الإمامة ، و مهد رسوم الخلافة ، و باشر الأمور
بنفسه ، و غزا غير مرة ، و امتدت أيامه .
و قال أبو طالب عبد الرحمن بن محمد بن عبد السميع الهاشمي في
كتاب المناقب العباسية : كانت أيام المقتفي نضرة بالعدل ، زاهرة بفعل
الخيرات ، و كان على قدم من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه ، و كان في أول أمره
متشاغلاً بالدين و نسخ العلوم و قراءة القرآن ، و لم ير مع سماحته و لين جانبه و
رأفته بعد المعتصم خليفة في شهامته و صرامته و شجاعته مع ما خص به من زهده و ورعه و
عبادته ، و لم تزل جيوشه منصورة حيث يممت .
و قال ابن الجوزي : من أيام المقتفي عادت بغداد و
العراق إلى يد الخلفاء ، و لم يبق له منازع ، و قبل ذلك من دولة المقتدر إلى وقته
كان الحكم للمتغلبين من الملوك ، و ليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة ، و من سلاطين
دولته السلطان سنجر صاحب خراسان ، و السلطان نور الدين محمود صاحب الشام ، و كان
جواداً كريماً ، محباً للحديث وسماعه ، معتنياً بالعلم مكر ماً لأهله .
قال ابن السمعاني : حدثنا أبو
المنصور الجواليقي ، حدثنا المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين ، حدثنا أبو البركات
أحمد بن عبد الوهاب ، حدثنا أبو محمد الصيرفيني حدثنا المخلص ، حدثنا إسماعيل
الوراق ، حدثنا حفص بن عمرو الربالي ، حدثنا أبو سحيم ، حدثنا عبد العزيز ابن صهيب
، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزداد الأمراء إلا شدة ، و
لا الناس إلا شحاً ، و لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس .
و لما عاد المقتفي الإمام أبا منصور الجواليقي النحوي ليجعله إماما يصلى به دخل
عليه ، فما زاد على أن قال : السلام على أمير المؤمنين و رحمه الله ـ و كان ابن
التلميذ النصراني الطبيب قائماً ـ فقال : ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ ،
فلم يلتفت إليه ابن الجواليقي ، و قال : يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به
السنة النبوية ، و روى الحديث ، ثم قال : يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانياً
أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه لما لزمته كفارة ، لأن
الله ختم على قلوبهم و لن يفك ختم الله إلا الإيمان ، فقال المقتفي : صدقت و أحسنت
،المقتفي ألجم ابن التلميذ بحجر مع غزارة أدبه .
و ممن مات في أيام المقتفي من الأعلام : ابن الأبرش النحوي ،
و يونس بن مغيث ، و جمال الإسلام بن المسلم الشافعي ، و أبو القاسم الأصفهاني صاحب
لترغيب ، و ابن برجان ، و المازري المالكي صاحب كتاب [ المعلم بفوائد مسلم ] ، و
الزمخشري ، و الرشاطي صاحب [ الأنساب ] ، و الجواليقي ـ و هو إمامه ـ و ابن عطية
صاحب التفسير ، وأبو السعادات ابن الشجري ، و الإمام أبو بكر بن العربي ، و ناصح
الدين الأرجاني الشاعر ، و القاضي عياض ، و الحافظ أبو الوليد بن الدباغ ، و أبو
الأسعد هبة الرحمن القشيري ، و ابن علام الفرس المقرئ ، والرفاء الشاعر ، و
الشهرستاني صاحب [ الملل و النحل ] ، و القيسراني الشاعر ، و محمد بن يحيى تلميذ
الغزالي ، و أبو الفضل بن ناصر الحافظ ، و أبو الكرم الشهرزوري المقرئ ، و الوأواء
الشاعر ، و ابن الجلاء إمام الشافعية ، و خلائق آخرون . |
|
|