|
|
الواثق بالله هارون بن
المعتصم بن الرشيد 227 هـ ـ 232 هـ
الواثق بالله : هارون أبو جعفر ، و قيل : أبو القاسم بن المعتصم بن الرشيد .
أمه أم ولد رومية ، اسمها قراطيس . ولد لعشر بقين من شعبان سنة ست و تسعين و مائة ،
و ولي الخلافة بعهد من أبيه . بويع له في تاسع عشر ربيع الأول سنة سبع و عشرين .
و في سنة ثمان و عشرين استخلف على السلطنة أشناس التركي ، و ألبسه وشاحين مجوهرين و
تاجاً مجوهراً ، و أظن أنه أول خليفة استخلف سلطاناً ، فإن الترك إنما كثروا في
أيام أبيه .
و في سنة إحدى و ثلاثين ورد كتابه إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة و
المؤذنين بخلق القرآن ، و كان قد تبع أباه في ذلك ، ثم رجع في آخره أمره .
و في هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي ، و كان من أهل الحديث ، قائماً بالأمر
بالمعروف و النهي عن المنكر ، أحضره من بغداد إلى سامرا مقيداً و سأله عن القرآن ،
فقال : ليس بمخلوق ، و عن الرؤية في القيامة ، فقال : كذا جاءت الرواية ، و روى له
الحديث ، فقال الواثق له : تكذب ، فقال للواثق : بل تكذب أنت ، فقال : ويحك ! يرى
كما يرى المحدود المتجسم و يحويه مكان و يحصره الناظر ؟ إنما كفرت برب صفته ما
تقولون فيه ؟ فقال جماعة من فقهاء المعتزلة الذين حوله : هو حلال الضرب ، فدعا
بالسيف ، و قال : إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي ، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر
الذي يعبد رباً لا نعبده و لا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس
عليه و هو مقيد ، فمشى إليه ، فضرب عنقه ، و أمر بحمل رأسه إلى بغداد ، فصلب بها و
صلبت جثته في سر من رأى ، و استمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل ، فأنزله و دفنه
. و لما صلب كتب ورقة و علقت في أذنه ، فيها : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك ، دعاه
عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن و نفي التشبيه ، فأبى إلا المعاندة ،
فعجله الله إلى ناره . و وكل بالرأس من يحفظه و يصرفه عن القبلة برمح ، فذكر الموكل
به أنه رآه بالليل يستدبر إلى القبلة بوجهه ، فيقرأ سورة يس بلسان طلق ، رويت هذه
الحكاية من غير وجه .
و في هذه السنة استفك من الروم ألفاً و ستمائة أسير مسلم ، فقال
ابن أبي دؤاد قبحه الله : من قال من الأسارى : [
القرآن مخلوق ] خلصوه و أعطوه دينارين ، و من امتنع دعوه في الأسر .
قال الخطيب : كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على
الواثق ، و حمله على التشدد في المنحة ، و دعا الناس إلى القول بخلق القرآن ، و
يقال : إنه رجع عنه قبل موته .
و قال غيره : حمل إليه رجل فيمن حمل مكبل بالحديد من بلاده ، فلما دخل ـ و ابن أبي
دؤاد حاضر ـ قال المقيد : أخبرني عن هذا الرأي الذي
دعوتم الناس إليه ، أعلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يدع الناس إليه ، أم
شيء لم يعلمه ؟ . قال ابن أبي دؤاد : بل علمه ، قال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس
إليه و أنتم لا يسعكم ؟ قال : فبهتوا ، و ضحك الواثق ، و قام قابضاً على فمه ، و
دخل بيتاً و مد رجليه و هو يقول : وسع النبي صلى الله عليه و سلم أن يسكت عنه و لا
يسعنا ، فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار ، و أن يرد إلى بلده ، و لم يمتحن أحداً
بعدها ، و مقت ابن أبي دؤاد من يومئذ .
و الرجل المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي ، شيخ أبي داود و
النسائي .
قال ابن أبي الدنيا : كان الواثق أبيض ، تعلوه صفرة ،
حسن اللحية ، في عينه نكتة .
قال يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما
أحسن إليهم الواثق ، ما مات و فيهم فقير .
و قال غيره : كان الواثق وافر الأدب ، مليح الشعر ، و كان يحب خادماً أهدي له من
مصر ، فأغضبه الواثق يوماً ، ثم إنه سمعه يقول لبعض الخدم ، و الله إنه ليروم أن
أكلمه من أمس فما أفعل ، فقال الواثق :
يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخراً ما أنت إلا مليك جار إذ
قدرا
لولا الهوى لتجارينا على قدر و إن أفق منه يوماً ما فسوف
ترى
و من شعر الواثق في خادمه :
مهج يملك المهج بسجي اللحظ و الدعج
حسن القد مخطف ذو دلال و ذو غنـــــــج
ليس للعين إن بدا عنه باللحظ منعــــــرج
و قال الصولي : كان الواثق يسمى المأمون الأصغر ،
لأدبه و فضله ، و كان المأمون يعظمه و يقدمه على ولده ، و كان الواثق أعلم الناس
بكل شيء ، و كان شاعراً و كان أعلم الخلفاء بالغناء .
و له أصوات و ألحان عملها نحو مائة صوت ، و كان حاذقاً بضرب العود ، راوية للأشعار
و الأخبار .
و قال الفضل اليزيدي : لم يكن في خلفاء بني العباس
أكثر رواية للشعر من الواثق ، فقيل له : كان أروى من المأمون ؟ فقال : نعم ، كان
المأمون قد مزج بعلم العرب علم الأوائل من النجوم و الطب و المنطق ، و كان الواثق
لا يخلط بعلم العرب شيئاً .
و قال يزيد المهلبي : كان الواثق كثير الأكل جداً .
و قال ابن فهم : كان للواثق خوان من ذهب مؤلف من أربع
قطع يحمل كل قطعة عشرون رجلاً ، و كل ما على الخوان من غضارة و صفحة و سكرجة من ذهب
، فسأله ابن أبي دؤاد أن لا يأكل عليه للنهي عنه ، فأمر أن يكسر ذلك و يضرب و يحمل
إلى بيت المال .
و قال الحسين بن يحيى : رأى الواثق في النوم كأنه يسأل
الله الجنة ، و أن قائلاً يقول له : لا يهلك على الله إلا من قبله مرت ، فأصبح فسأل
الجلساء عن ذلك ، فلم عرفوا معناه ، فوجه إلى أبي محلم و أحضره ، فسأله عن الرؤيا و
المرت ، فقال أبو المحلم : المرت القفر الذي لا ينبت
شيئاً ، فالمعنى على هذا لا يهلك على الله إلا من قبله خال من الإيمان خلو المرت من
النبات ، فقال له الواثق : أريد شاهداً من الشعر في المرت ، فبادر بعض من حضر فأنشد
بيتاً لبني أسد :
و مرت مروتاة يحار بها القطا و يصبح ذو علم بها و هو
جاهل
فضحك أبو محمل و قال : و الله لا أبرح حتى أنشدك ،
فأنشده للعرب مائة قافية معروفة لمائة شاعر معروف في كل بيت ذكر المرت ، فأمر له
الواثق بمائة ألف دينار .
و قال حمدون بن إسماعيل : ما كان في الخلفاء أحد أحلم
من الواثق و لا أصبر على أذى و لا خلاف منه .
و قال أحمد بن حمدون : دخل هارون بن زياد مؤدب الواثق
إليه ، فأكرمه إلى الغاية ، فقيل له : من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا
الفعل ؟ فقال : هذا أول من فتق لساني بذكر الله و أدناني من رحمة الله .
و من مديح علي بن الجهم فيه :
و ثقت بالملك ال واثق بالله النفوس
و ملك يشقى به الما ل و لا يشقى الجليس
أسد يضحك عن شد اته الحرب العبوس
أنس السيف به واس توحش الطلق النفيس
يا بني العباس يأبى الل ه إلا أن تروسوا
مات الواثق بسر من رأى يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة مائتين و اثنتين و
ثلاثين ، و لما احتضر جعل يردد هذين البيتين :
الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقة منهم يبقى و لا ملك
ما ضر أهل قليل في تفارقهم و ليس يغني عن الأملاك ما
ملكوا
و حكي أنه لما مات ترك وحده و اشتغل الناس بالبيعة للمتوكل ، فجاء جرذون فاستل عينه
فأكلها .
مات في أيامه من الأعلام : مسدد ، و خلف بن هشام البزار المقرئ ، و إسماعيل بن سعيد
الشالخي شيخ أهل طبرستان ، و محمد بن سعد كاتب الواقدي ، و أبو تمام الطائي الشاعر
، و محمد بن زياد ابن الأعرابي اللغوي ، و البوطي صاحب الشافغي مسجوناً مقيداً في
المحنة و علي بن المغيرة الأثرم اللغوي ، و آخرون .
و من أخبار الواثق : أسند الصولي عن جعفر بن الرشيد
قال : كنا بين يدي الواثق و قد اصطبح ، فناوله خادمه مهج ورداً و نرجساً ، فأنشد
ذلك بعد يوم لنفسه :
حياك بالنرجس و الورد معتدل القامة و القد
فألهبت عيناه نار الهوى و زاد في اللوعة و الوجد
أملت بالملك له قربه فصال ملكي سبب البعد
و رئحته سكرات الهوى فمال بالوصل إلى الصد
إن سئل البذل ثنى عطفه و أسبل الدمع على الخد
غر بما تجنيه ألحاظه لا يعرف الإنجاز للوعد
مولى تشكى الظلم من عبده فأنصفوا المولى من العبد
قال : فأجمعوا أنه ليس لأحد من الخلفاء مثل هذه الأبيات .
و قال الصولي : حدثني عبد الله بن العتز قال : أنشدني
بعض أهلنا للواثق و كان يهوى خادمين لهذا يوم يخدمه فيه و لهذا يوم يخدمه فيه :
قلبي قسيم بين نفسين فمن رأى روحاً بجسمين
يغضب ذا غن جاد ذا بالرضا فالقلب مشغول بشجوين
و أخرج عن الحزنبل قال : غني في مجلس الواثق بشعر الأخطل :
و شادن مربح بالكاس نادمني لا بالحصور و لا فيها بسوار
فقال : أسوار أو سار ؟ فوجه إلى ابن الأعرابي يسأل عن ذلك ؟ فقال : سوار وثاب ،
يقول : لا يثب على ندمائه ، و سآر مفصل في اكأس سؤراً ، و قد رويا جميعاً ، فأمر
الواثق لابن الأعرابي بعشرين ألف درهم .
و قال : حدثني ميمون بن إبراهيم ، حدثني أحمد بن الحسين بن هشام قال : تلاحى الحسين
بن الضحاك و مخارق يوماً في مجلس الواثق في أبي نواس و أبي العتاهية أيهما أشعر ؟
فقال الواثق : اجعلا بينكما خطراً ، فجعلا بينهما مائتي دينار ، فقال الواثق : من
ههنا من العلماء ؟ فقيل : أبو محلم ، فأحضره فسئل عن
ذلك ؟ فقال : أبو النواس أشعر ، و أذهب في فنون العرب ، و أكثر افتناناً ، من
أفانين الشعر فأمر الواثق بدفع الخطر إلى الحسين .
|
|
|