|
|
المعتضد بالله بن الموفق
طلحة بن المتوكل بن المعتصم 279 هـ ـ 289 هـ
المعتضد بالله : أحمد أبو العباس ابن ولي العهد الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم
بن الرشيد ، ولد في ذي القعدة سنة اثنتين و أربعين و مائتين .
و قال الصولي : في ربيع الأول سنة ثلاث و أربعين و
مائتين ، و أمه أم ولد اسمها صواب ، و قيل : حرز ، و قيل ضرار ، و بويع له رجب سنة
تسع و سبعين و مائتين بعد عمه المعتمد ، و كان ملكاً شجاعاً ، مهيباً ، ظاهر
الجبروت ، وافر العقل ، شديد الوطأة ، من أفراد خلفاء بني العباس ، و كان يقدم على
الأسد وحده لشجاعته ، و كان قليل الرحمة : إذا غضب على قائد أمر بأن يلقى في حفيره
و يطم عليه ، و كان ذا سياسة عظيمة .
قال عبد الله بي حمدون : خرج المعتضد يتصيد ، فنزل إلى
جانب مقثأة ـ و أنا معه ـ فصاح الناطور ، فقال : علي به ، فأحضر ، فسأله ، فقال :
ثلاثة غلمان نزلوا المقثأة فأخربوها ، فجيء بهم فضربت أعناقهم من الغد المقثأة ، ثم
كلمني بعد مدة فقال : أصدقني فيما ينكر علي الناس ، قلت : الدماء ، قال : و الله ما
سفكت دماً حراماً منذ وليت ، قلت أحمد بن الطيب ؟ قال : دعاني إلى الإلحاد ، قلت :
فالثلاثة الذين نزلوا المقثأة ؟ قال : و الله ما قتلتهم ، و إنما قتلت لصوصاً قد
قتلوا ، و أوهمت أنهم هم .
و قال إسماعيل القاضي : دخلت على المعتضد و على رأسه
أحداث صباح الوجوه روم ، فنظرت إليهم ، فلما أردت القيام قال لي : أيها القاضي و
الله ما حللت سراويلي على حرام قط .
و دخلت مرة ، فدفع إلي كتاباً ، فنظرت فيه ، فإذا هو قد جمع له فيه الرخص من زلل
العلماء ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : أمختلق ؟ قلت : لا ، و لكن من أباح
المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح الغناء ، و ما من عالم إلا و له
زله ، و من أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه ، فأمر بالكتاب فأحرق .
و كان المعتضد شهماً ، جلداً ، موصوفاً بالرجلة ، قد لقي الحروب ، و عرف فضله ،
فقام بالأمر أحسن قيام ، و هابه الناس ، و رهبوه أحسن رهبة ، و سكنت الفتن في أيامه
لفرط هيبته .
و كانت أيامه طيبة ، كثيرة الأمن و الرخاء .
و كان قد أسقط المكوس ، و نشر العدل ، و رفع الظلم عن الرعية .
و كان يسمى [ السفاح الثاني ] ، لأنه جدد ملك بني العباس ، و كان قد خلق و ضعف ، و
كاد يزول . و كان في اضطرب من وقت قتل المتوكل . و في ذلك يقول ابن الرومي يمدحه :
هنيئاً بني العباس إن إمامكم إمام الهدى و البأس و الجود
أحمد
كما بأبي العباس أنشئ ملككم كذا بأبي العباس أيضاً يجدد
إمام يظل الأمس يعمل نحوه تلهف ملهوف و يشتاقه الغد
و قال في ذلك ابن المعتز أيضاً :
أما ترى ملك بني هاشم عاد عزيزاً بعدما ذللا
يا طالباً للملك كن مثله تستوجب الملك ، و إلا فلا
و في أول سنة استخلف فيه منع الوارقين من بيع كتب الفلاسفة و ما شاكلها ، و منع
القصاص و المنجمين من القعود في الطريق ، و صلى بالناس صلاة الأضحى ، فكبر في
الأولى ستاً ، و في الثانية واحدة ، و لم تسمع منه الخطبة .
و في سنة ثمانين دخل داعي المهدي إلى القيروان ، و فشا أمره ، و وقع القتال بينه و
بين صاحب إفريقية ، و صار أمره في زيادة .
و فيها ورد كتاب من الدبيل أن القمر كسف في شوال ، و
أن الدنيا أصبحت مظلمة إلى العصر ، فبهت ريح سوداء ، فدامت إلى ثلث الليل ، و
أعقبها زلزلة عظيمة أذهبت عامة المدينة ، فكان عدة من أخرج من تحت الردم مائة ألف و
خمسين ألفاً .
و في سنة إحدى و ثمانين فتحت مكورية في بلاد الروم .
و فيها غارت مياه الري و طبرستان ، حتى بيع الماء ثلاثة أرطال بدرهم ، و قحط الناس
، و أكلوا الجيف .
و فيها هدم المعتضد دار الندوة بمكة ، وصيرها مسجداً إلى جانب المسجد الحرام .
و في سنة اثنتين و ثمانين أبطل ما يفعل في النيروز : من وقيد النيران ، و صب الماء
على الناس ، و أزال سنة المجوس .
و فيها زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون ، فدخل عليها في ربيع
الأول . و كان في جهازها أربعة آلاف تكة مجوهرة ، و عشر صناديق جوهر .
و في سنة ثلاث و ثمانين كتب إلى الآفاق بأن يورث ذوو الأرحام ، و أن يبطل ديوان
المواريث ، و كثر الدعاء للمعتضد .
و في سنة أربع و ثمانين ظهرت بمصر حمرة عظيمة حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الرجل
فيراه أحمر ، و كذا الحيطان ، فتضرع الناس بالدعاء إلى الله تعالى ، و كانت من
العصر إلى الليل .
قال ابن جرير : و فيها عزم المعتضد على لعن معاوية على
المنابر ، فخوفه عبيد الله الوزير اضطراب العامة ، فلم يلتفت ، و كتب كتاباً في ذلك
، ذكر فيه كثيراً من مناقب علي ، و مثالب معاوية ، فقال له القاضي يوسف : يا أمير
المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه ، فقال : إن تحركت العامة وضعت السيف فيها . قال :
فما تصنع بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك ؟ و إذا سمع الناس هذا من
فضائل أهل البيت كانوا إليهم أميل ، فأمسك المعتضد عن ذلك .
و في سنة خمس و ثمانين هبت ريح صفراء بالبصرة ، ثم صارت خضراء ، ثم صارت سوداء ، و
امتدت في الأمصار ، و وقع عقبها برد ، زنة البردة مائة و خمسون درهماً ، و قلعت
الريح نحو خمسمائة نخلة ، و مطرت قرية حجارة سوداً و بيضاً .
و في سنة ست و ثمانين ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي ، و قويت شوكته ـ و هو أبو أبي
طاهر سليمان الذي يأتي أنه قلع الحجر الأسود ـ و وقع القتال بينه و بين عسكر
الخليفة ، و أغار على البصرة و نواحيها ، و هزم جيش الخليفة مرات .
و من أخبار المعتضد ما أخرجه الخطيب و
ابن عساكر عن أبي الحسين الخصيبي ، قال : وجه المعتضد
إلى القاضي أبي حازم يقول : إن لي على فلان مالاً ، و قد بلغني أن غرماءه أثبتوا
عندك و قد قسطت لهم من ماله ، فاجعلنا كأحدهم ، فقال أبو حازم : قل له : أمير
المؤمنين أطال الله بقاءه ذاكر لما قال لي وقت قلدني إنه قد أخرج الأمر من عنقه و
جعله في عنقي ، و لا يجوز لي أن أحكم في مال رجل لمدع إلا ببينة ، فرجع إليه فأخبره
، فقال : قل له : فلان و فلان يشهدان ـ يعني رجلين جليلين ـ فقال : يشهدان عندي ، و
أسأل عنهما ؟ فإن زكيا قبلت شهادتهما ، و إلا أمضيت ما قد ثبت عندي ، فامتنع أولئك
من الشهادة فزعاً ، و لم يدفع إلى المعتضد شيئاً .
و قال ابن حمدون النديم : غرم المعتضد على عمارة
البحيرة ستين ألف دينار ، و كان يخلوا فيها مع جواريه و فيهن محبوبته دريرة ، فقال
ابن بسام :
ترك الناس بحيره و تخلى في البحيره
قاعداً يضرب بالطبـ ـل على حر دريره
فبلغ ذلك المعتضد فلم يظهر أنه بلغه ، ثم أمر بتخريب تلك العمارات . ثم ماتت دريرة
في أيام المعتضد ، فجزع عليها شديداً . و قال يرثيها :
يا حبيباً لم يكن يعـ ـدله عندي حبيب
أنت عن عيني بعيد و من القلب قريب
ليس لي بعدك في شـ ـيء من اللهو نصيب
لك من قلبي على قلـ ـبي و إن بنت رقيب
و خيال منك مذ عبـ ـت خيال لا يغيب
لو تراني كيف لي بعـ ـدك عول و نحيب؟
و فؤادي حشوه من حرق الحزن لهيب
لتيقنت بأني فيك محزون كئيب
ما أرى نفسي و إن سلـ ـيتها عنك تطيب
لي دمع ليس يعصيـ ـني و صبر ما يجيب
و قال بعضهم يمدح المعتضد ، و هي على جزء جزء :
طيف ألم بذي سلم
بين الخيم يطوي الأكم
جاد نعم يشفي السقم
ممن لئم و ملتزم
فيه هضم إذا يضم
داوى الألم ثم انصرم
فلم أنم شوقاً و هم
اللوم ذم كم ثم كم
لوم الأصم ؟ أحمد لم
كل الثلم مما انهدم
هو العلم و المعتصم
خير النسم خالاً و عم
حوى الهمم و ما احتلم
طود أشم شمح الشيم
جلا الظلم كالبدر تم
رعى الذمم حمى الحرم
فلم يؤم خص و عم
بما قسم له النعم
مع النقم و الخير جم
إذا ابتسم و الماء دم
إذا انتقم
اعتل المعتضد في ربيع الآخر سنة تسع و ثمانين علة صعبة ، و كان مزاجه تغير من كثرة
إفراطه في الجماع ، ثم تماسك . فقال ابن المعتز :
طار قلبي بجناح الوجيب جزعاً من حادثات الخطوب
و حذاراً أن يشاك بسوء أسد الملك و سيف الحروب
ثم انتكس ، و مات يوم الاثنين لثمان بقين منه .
و حكى المسعودي قال : شكوا في موت المعتضد ، فتقدم
إليه الطبيب و جس نبضه ففتح عينيه ، و رفس الطبيب برجله ، فتدحاه أذرعاً فمات
الطبيب ثم مات المعتضد من ساعته ، و لما احتضر أنشد :
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى و خذ صفوها ما إن صفت ودع
الرنقا
و لا تأمنن الدهر إني أمنته فلم يبق لي حالاً و لم يرع
لي حقا
قتلت صناديد الرجال فلم أدع عدواً و لم أمهل على ظنة
خلقا
و أخيلت دور الملك من كل بازل و شتتهم غرباً و مزقتهم
شرقا
فلما بلغت النجم عزاً و رفعة و دانت رقاب الخلق أجمع لي
رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي فها أنا ذا في حفرتي
عاجلاً ملقى
فأفسدت دنياي و ديني سفاهة فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى
؟
فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى إلى نعمة الله أم نارة
ألقى ؟
و من شعر المعتضد :
يا لا حظي بالفتور و الدعج و قاتلي بالدلال و الغنج
أشكو إليك الذي لقيت من ال وجد فهل لي إليك من فرج
حللت بالطرف و الجمال من الن اس محل العيون و المهج
و له ، أنشده الصولي .
لم يلق من حر الفراق أحد كما أنا منه لاق
يا سائلي عن طعمه ألفيته مر المذاق
جسمي يذوب و مقلتي عبرى و قلبي ذو احتراق
ما لي أليف بعدكم إلا اكتئابي و اشتياقي
فالله يحفظكم جميعـ ـاً في مقام و انطلاق
و لابن المعتز يرثيه :
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً و أنت والد سوء تأكل
الولدا
أستغفر الله ، بل ذا كله قدر ، رضيت بالله رباً واحداً
صمدا
يا ساكن القبر في غبراء مظلمة بالظاهرية مفصى الدار
منفردا
أين الجيوش التي قد كنت تنجبها ؟ أين الكنوز التي
أحصيتها عددا
أين السرير الذي قد كنت تملؤه ؟ مهابة من رأته عينه
ارتعدا
أين الأعادي الأولى ذللت مصعبهم ؟ أين الليوث التي
صيرتها بددا
أين الجياد التي حجلتها بدم ؟ و كن يحملن منك الضيغم
الأسدا
أين الرماح التي غديتها مهجا ؟ مذ مت ما وردت قلباً و لا
كبدا
أين الجنان التي تجري جداولها ؟ و تستجيب إليها الطائر
الغردا
أين الوصائف كالغزلان راتعة ؟ يسحبن من حلل موشية جددا
أين الملاهي ؟ و أين الراح تحسبها ؟ يا قوتة كسيت من فضة زردا
أين الوثوب إلى الأعداء مبتغياً ؟ صلاح ملك بني العباس
إذ فسدا
ما زلت تقسر منهم كل قسورة و تحطم العالي الجبار معتمدا
ثم انقضيت فلا عين و لا أثر حتى كأنك يوماً لم تكن أحدا
مات في أيام المعتضد من الأعلام : ابن المواز المالكي ، و ابن أبي الدنيا ، و
إسماعيل القاضي ، و الحارث بن أبي أسامة ، و أبو العيناء ، و المبرد ، و أبو سعيد
الخراز شيخ الصوفية ، و البحتري الشاعر ، و خلائق آخرون .
و خلف المعتضد من الأولاد أربعة ذكور ، و من الإناث إحدى عشرة . |
|
|