|
|
|
|
|
|
|
|
معركة بلاط الشهداء
تولى عبد الرحمن بن عبدالله الغافقي إمرة
الأندلس زمن الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك سنة 112هـ ، فطاف
الأقاليم ينظر في المظالم ، ويقتص للضعفاء ، ويعزل الـولاة الذين حادوا
عن جادة الطريق ، ويستبدل بهم ولاة معروفين بالزهد والعدل ، ويتأهـب
للجهاد ، ودعا المسلمين من اليمن والشام ومصر وإفريقية لمناصرته فجاؤوا
وازدحمت بهم قرطبة .
وجمع الغافقي المجاهدين في مدينة بنبلونة ،
وخرج باحتفال مهيب ليعبر جبال البرانس شمال أسبانيا ، واتجه شرقاً جنوب
فرنسا فأخضع مدينة أرل ، ثم اتجه إلى دوقية أقطانيا فانتصـر عـلى الدوق
أودو انتصـاراً حاسماً ، وتقهقر الدوق ، واستنجـد بشارل مارتل ، حاجـب
قصـر الميروفنجيين حكام الفرنجة وصاحب الأمر والنهي في دولة الفرنجة ،
وكان يسمى المطرقة ، فلبى النداء ، وكان قبلها لا يحفل بتحركات
المسلمين جنوب فرنسا بسبب الخلاف الذي بينه وبين دوق أقطـانيا الذي كان
سببه طـمع شارل بالدوقية ، وبذلك توحـدت قوى النصرانية في فرنسا
.
واجتمع الفرنجة إلى شارل مارتل وقالوا له : ماهذا الخزي
الباقي في الأعقاب ،كنا نسمع بالعرب ونخافهم من مطلع الشمس حتى أتوا من
مغربها ، واستولوا على بـلاد الأندلـس وعـظيم ما فيها من العدة والعـدد
، بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهـم لا دروع لهم ، فأجابهم : الرأي
عندي ألا تعترضوهم في خرجتهم هذه فإنهم كالسيل يحمل ما يصادفه ، وهم في
إقبال أمرهم ، ولهم نيات تغني عن حصـانة الدروع ، ولكن أمهلوهم حتى
تمتلئ أيديهم من الغنائم ، ويتخذوا المساكن ، ويتنافسوا في الرئاسة ،
ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر .
وأنهى
شارل حروبه مع السكسون والبافاريين ، وتنبه لفتوح المسلمين ، وأما
الغافقي فقد مضى في طريقه متتبعاً مجرى نهر الجارون ففتح بردال ،
واندفع شمالاً ووصل إلى مدينة بواتييه .
وكانت المعركة في مدينة
بواتييه جنوب فرنسـا ، على مسافة عشرين كيلومتراً منها ، وتسمى المعركة
: البلاط ، بلاط الشهداء ، تور ، بواتييه . والمقصود بالبلاط القصر أو
الحصن ، ولعل مكان الموقعة كان بجوار قصر أو حصن كبير .
موازين
القوى :
1- عدد الجيش الفرنجيّ أكبر من جيش المسلمين ، فهم سيل
من الجند المتدفق ، ولم يكن الجيش المسلم يزيد عن سبعين ألفاً ، وقد
يصل إلى مائة ألف .
2- موقف الفرنجة الاستراتيجي أفضل وأجود ؛
لمعرفتهم بالموقع ، والقدرة على القتال في جو شات مطير وأرض موحلة
.
3- الفرنجة مددهم البشري والتمويني قريب ، بينما المسلمون على
بعد يجاوز ألف كيلومتر عن عاصمة الأندلس .
4- الغنائم التي
حملها الجيش الإسلامي مما غنموه في المعارك السابقة ، فقد كانت سبباً
مهماً في الخسارة كما سيأتي ، ولو أنهم تركوها في برشلونة مثلاً
لاطمأنت نفوسهم وخلت أيديهم للعمل المقبل ، ولكنهم حرصوا عليها وانقلبت
عليهم ثقلاً يرهقهم ويضعف حركتهم .
والتقى الجمعان في أواخر
شعبان سنة 114هـ ، ورابط كل منهما أمام الآخر ثمانية أيام ، وكان
المسلمون هم الذين بدأوا القتال ، ولم يشتبك الجيشان في المعركة إلا
بعد بضعة أيام ظلا خلالها يتناوشان في اشتباكات محلية ، ثم اشتبكا بعد
ذلك في قتال عنيف ، واجتهد الفرنجة ومن معهم من الألمان والسويف
والسكسون في اختراق خطوط المسلمين يومين متتاليين دون نتيجة ، وقد
بذلوا أقصى ما استطاعوا من جهد وهجم مشاتهم وفرسانهم على المسلمين
هجوماً عنيفاً بالحراب ، ولكن المسلمين ثبتوا ، بل بدا قرب مساء اليوم
الثاني أن المسلمين أخذوا يتفوقون على عدوهم ، ثم حدث بعد ذلك أن
اندفعت فرقـة من فرسـان الفرنجة فاخترقت صفوف المسلمين في موضع ، وأفضت
إلى خلف الصفوف حيث كان المسلمون قد أودعوا غنائمهم ، وكانت شيئاً
عظيماً جداً ، فريع الجند الإسلامي ، وخشي الكثيـرون من أفراده أن
يستولي عليها هؤلاء الفرنجة ، فالتفت بعضهم وعادوا إلى الخلف ليبعدوا
عنها الأعـداء ، وهنا اضطربت صفوف المسلمين واتسعت الثغرة التي نفـذ
منها الفرنجة ، فاندفعوا فيها في عنف وقوة زلزلت نظام القوات الإسلامية
، وحاول عبد الرحمن الغافقي أن يثبت جنوده ويعيد نظامه أو يصرفه عن
الهلع على الغنائم فلم يوفق ، وأصابه سهم أودى بحياته ، وصبر المسلمون
حتى أقبل الليل فانتهـزوا فرصة الظـلام وتسللوا متراجعين إلى الجنوب
على عجل ، وكل ذلك أوائل شهر رمضان سنة 114هـ .
وحينما أسفر
الصبح نهض الفرنجة فلم يجدوا من المسلمين أحداً ، فتقدموا على حذر من
مضارب المسلمين فإذا هي خالية منهم ، وقد فاضـت بالغنائم والأسلاب
والخيرات ، فظنوا أن في الأمر خدعة ، وتريثـوا قبل أن يجتاحوا المعسكر
وينتهبوا مافيه ، ولم يفكر أحد منهم في تتبع المسلمين ؛ إما لأنهم
خافوا أن يكون المسلمون قد نصبوا لهم بهذا الانسحاب شركاً ، أو لأن
شارل مارتل تبين مانزل بالمسلمين فرأى أنه يستطيع العودة إلى الشمال
مطمئناً إلى أنهم انصرفوا عنه وعن بلاده ، واندفع المسلمون في تراجعهم
نحو الجنوب مسرعين ، واتجهت جموعهم نحو أربونة ، وحينما أحسوا أن أحداً
من النصارى لا يتتبعهم تمهلوا في سيرهم ليستجمعوا صفوفهم من جديد
.
وهكذا انتهت المعركة ، ولو انتصر فيها المسلمون لتخلصت أوروبا
من ظلماتها وجهالتها واستبدادها وحطمت الاستغلال والاضطهاد ، ولذا قال
جيبون : لو انتصر العرب في تور _ بواتييه لتلي القرآن وفسر في اكسفور
وكمبردج .
وما إن وصل الخبر إلى الخليفة الأموي حتى أمر والي
إفريقية بإرسال مدد بقيادة عبد الملك بن قطن الفهري ، وأمره الخليفة
بغزو فرنسا ، وتوجه عبد الملك إلى نواحي شمال الأندلس وحصن المعاقل
التي بأيدي المسلمين ، وبقي أهالي جنوب فرنسا يكرهون الفرنجة رغم
انتصارهم على المسلمين ، وتحالفَ بعض أمراء جنوب فرنسا مع المسلمين ضد
الفرنجة ؛ وذلك كرهاً للهمجية البربرية في شارل وجيشه ، ولكن بلاط
الشهداء كانت آخر محاولة جدية قام بها المسلمون لغزو بلاد الفرنجة
.
ولو انتصر المسلمون في هذه المعركة لدخلوا أوروبا فاتحين
منظمين ، يريدون إدخالها في رحاب دولتهم وتحويلها إلى الإسلام ، ولو
استقر لهم الأمر في فرنسا لاتجه نظرهم إلى ما وراءها ، ومن هنا كانت
أهمية بلاط الشهداء في تاريخ النصرانية فقد حالت بينهـا وبيـن الزوال
.
بلاط الشهداء ،
للدكتور شوقي أبو خليل ، باختصار
|
|
|
|
|
|
|